IMLebanon

مستقبل الأمم المتحدة في ظلّ التحوّلات الكبرى

كتب شربل بو مارون في صحيفة “الجمهورية”:

يعيش العالم اليوم حالة تكاد تصل حد الفوضى، ننام على وباء ونستيقظ على كارثة إقتصادية. في ظلّ هذه الرمال المتحرّكة، ماذا ينتظر العالم بعد أزمة الكورونا؟ وما الذي ستؤول إليه منظمة الأمم المتحدة تحديداً؟
شكلَّت الإمبراطورية الرومانية المقدّسة للأمّة الجرمانية مع الكرسي الرسولي إحدى القوّتين العالميّتَين اللتين تحكّمتا بسياسة القارة العجوز لقرون عدة. ولكن، بعد تفكّك تلك الإمبراطورية وقيام الثورة الفرنسية واندلاع الحروب النابوليونية، انعقد مؤتمر في فيينا عام 1815 بين سفراء الدول الأوروبية، ترأسه النمساوي كليمانس فون ميتيرنيش. كان هدفه تسوية العديد من القضايا الناشئة جرّاء تلك الأحداث المتتالية. وأسفر هذا المؤتمر عن إعادة رسم الخريطة السياسية للقارة الأوروبية، وتشكيل منصّة لحلّ الأزمات المحلية والإقليمية، كما وأصبح نموذجاً لعصبة الأمم، ولاحقاً الأمم المتحدة، كمنظومة تنشد السلام العالمي.

مع الوقت، عاد الحديث حول شكل هذه المنصّات الدولية والأسس الأخلاقية التي تقودها؛ ففي حين اختار القيصر الروسي التحالف المقدّس واعتماد المحبة والعدل والقيم المسيحية، لتحلّ محل المواثيق العسكرية والتحالفات السياسية التقليدية، وبذلك تكون القاعدة الأساسية للقانون الدولي في حلّ المشاكل والصعاب، فضّلت بريطانيا عدم التوقيع لأسباب عدة، كان أبرزها، فهمها جيداً للتحوّلات الجذرية التي أوجدتها الثورة الفرنسية في أوروبا، وتوجّه العالم لاعتماد الأسس العلمانية.

بدأت هذه التحالفات بالتوسع وانطلق سباق التسلّح، فكانت الأزمة البوسنية وحادثة سراييفو، وانطلقت الحرب «التي ستُنهي كل الحروب»، والتي شارك فيها 70 مليون عسكري، غالبيتهم العظمى من القارة العجوز. حرب حصدت ملايين القتلى والمفقودين، وانتشرت الإنفلونزا الإسبانية، وفكّت أميركا عزلتها، وكانت «مبادئ ويلسن الـ 14»، وتمَّ مؤتمر الصلح، وبرزت الحاجة من جديد الى منظمة أمن دولية تهدف للحفاظ على السلام العالمي، فتألفت عصبة الأمم، التي شكّلت نقلة نوعية في الفكر الديبلوماسي والسياسي، وأصبحت المعاهدات الدولية ومواثيق السلام علنية، وصار حق الشعوب في تقرير مصيرها واقعاً.

تمثَّلت أهداف العصبة في منع قيام الحروب مستقبلاً، والحد من انتشار الأسلحة، وتسوية المنازعات الدولية عبر المفاوضات والتحكيم الدولي، إضافة إلى تحسين أوضاع العمال، ومقاومة الإتجار بالبشر والأسلحة والمخدرات، والعناية بالصحة العالمية.

وعلى الرغم من نجاحها في كثير من المهام، فشلت عصبة الأمم في تحقيق هدفها الأساسي، أي تجنّب أي حرب مستقبلية. ويعود هذا الفشل لأسباب عديدة، منها تحوّلها إلى عصبة للحلفاء المنتصرين في الحرب، وعدم امتلاكها لقوة عسكرية تسمح لها بفرض هيبتها وتنفيذ قراراتها، والكساد العظيم الذي ضرب العالم وأفقر الناس.

فالأزمة الاقتصادية أيقظت القوميات في أوروبا، ولا سيما في الدول المهزومة، وبرزت فكرة الحماية الجمركية، وتحوّل النظام الاقتصادي العالمي من نظام حرّ إلى نظام موجّه، وبدأ نجم الأنظمة الفاشية يسطع، وبدأت سياسات التوسع للحفاظ على المدى الحيوي الاقتصادي للدول، وعاد سباق التسلّح، فاندلعت الحرب العالمية الثانية.

مع نهاية تلك الحرب وفشل عصبة الأمم، برزت الحاجة إلى منظمة جديدة أكثر تطوراً، فكانت الأمم المتحدة، التي اتخذت من الفرد وحقوقه معياراً أخلاقياً لعملها.

وتطورت الأحداث وبدأ صراع الأفكار بين الرأسمالية والشيوعية، إلى أن سقط الإتحاد السوفياتي وبدأ النظام العالمي الجديد القائم على العولمة وإلغاء الحدود، وطمس الحضارات والثقافات واستبدالها بهوية عالمية، وفتح الحدود أمام النزوح والهجرة…

أدّت سياسة الهجرة إلى تغيير ديموغرافي كبير ولا سيما في أوروبا، حيث بات الوافدون يشكلّون أعداداً كبيرة وباتوا يستهلكون أغلب موارد الدولة من ضمان صحي واجتماعي، وزاد الأمر سوءاً عندما بدأت الأزمة السورية، حيث نزح مئات الآلاف إلى أوروبا تحديداً.

أدّت هذه الأمور إلى صعود التيارات القومية من جديد، وعاد المحافظون إلى الحكم في بعض البلدان، وقد عمدت بعض الحكومات فعلياً إلى إقفال حدودها.

وبالعودة إلى الأمم المتحدة التي تُموَّل أنشطتها من تبرعات الأعضاء، ولا سيما الولايات المتحدة، فمنذ أن انتُخب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، قرّر تخفيف موازنة الدعم الخارجي، وتحديداً للأمم المتحدة، الأمر الذي سيؤدي إلى انخفاض كبير في برامج الأمم المتحدة، خصوصاً تلك المتعلقة بالغوث واللاجئين، وستحذو دول عديدة حذو ترامب، حيث تقرّر أن تصرف مساعداتها مباشرة وبطريقة تنموية منتجة على طريقة «إعطاء الناس صنارة وتعليمهم الصيد، بدل إعطائهم السمكة».

واليوم، في ظل تفشي وباء «الكورونا»، وحيث بدأ الحديث عن حرب بيولوجية، لا نعرف إذا كنا نواجه حرباً عالمية ثالثة أم وباءً عالمياً. ولكن بكلتا الحالتين، النتائج المترتبة على كل الصعد من جراء «كورونا» كارثية؛ فعلى صعيد الاقتصاد، يُرجَّح أن تصل الخسارة إلى تريلياري دولار، وقد تكبّدت الملاحة الجوية، بحسب اتحاد النقل الجوي العالمي، إلى اليوم خسائر تفوق قيمتها الـ30 مليار دولار. كما أنَّ النظام التعليمي في أكثر من 70 دولة معلّق، والفاتورة الصحية ارتفعت بشكل ملحوظ، حتى في الدول المتقدّمة التي من المرجح أن توقف برامج مساعداتها الدولية وتحوِّل الأموال لتحافظ على أمنها الصحي والغذائي. ولغاية هذه اللحظة، لم تستطع أجهزة الأمم المتحدة التحرّك بالشكل المطلوب لمواجهة الوباء العالمي. المؤكّد إذاً، أنَّ العالم ما بعد «كورونا» ليس كما قبله، وأنَّ كل شيء سيتغيّر بما في ذلك الأمم المتحدة.

وكما العادة، المختبر العالمي للتغيير يجري دائماً في القارة العجوز. فأوروبا اليوم تواجه تفشي وباء «كورونا»، وأوروبا شهدت صعود الأحزاب الديمقراطية الإجتماعية، وأوروبا تواجه أزمة اللاجئين. ولكن يبقى السؤال: أي شكل ستتخذ الأمم المتحدة؟ فمفهوم الدولة تغيَّر، ومفهوم الشعوب تغيَّر، لكن الثابت الوحيد يبقى الحضارة.

فهل ستنتقل الأمم المتحدة إلى النهج الفيدرالي، أي القرار المُعتمد من الحكومات الوطنية بنقل سلطات معينة (مثل الحفاظ على القوات المسلحة) إلى الأمم المتحدة، حكومة عالمية مع الاحتفاظ بسلطات أخرى (مثل وضع قوانين تتعلق بملكية الممتلكات) لأنفسهم. أو إلى النهج الوظيفي وإنشاء المزيد من الوكالات العالمية (مثل منظمة الصحة العالمية)، للتعامل مع وظيفة معينة (مثل الصحة)، لأنّ الخبراء يمكن أن يتعاونوا في بيئة أقل سياسياً، وفي النهاية سيتمّ تغطية العالم من خلال شبكة من هذه الوكالات العاملة في إطار الأمم المتحدة. وهذا الأمر مستبعد اليوم، في ظلّ الأزمة المالية القادمة. أم أننا سننتقل إلى الأنارشيّة، وهو أمر لا يزال يخضع للكثير من البحوث والتأويلات.

أما الحلّ الأنسب، فيبقى بالتخلّي عن صراع الأفكار والتوجّه نحو حوار بنّاء للحضارات، تحافظ فيه كل مجموعة حضارية على حدودها وخصوصيتها وثقافتها، والعودة اقتصادياً إلى أخلاقيات السوق الحر والمدرسة الليبيرالية الكلاسيكية، التي تبتعد عن سياسات الاحتكار والاستغلال مع مراعاة حقوق الفئات الأقل حظوة، وتحويل برامج الأمم المتحدة من ريعية إلى منتجة، وتخفيف تشجيع السياسات والبرامج التدخلية للحكومات المركزية، إذ أثبتت التجارب أنَّ الاقتصاد يُنتج أكثر كلما انخفض الإنفاق الحكومي.

تبقى كلُّ هذه نظريات، والأيام والتجربة كفيلةٌ بإثبات صوابيتها من عدمها.