IMLebanon

التدقيق بأرقام وموجودات مصرف لبنان يدين الحكم ويبرئ “الحاكم”

يبدو القريبون من وجهة نظر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من أكثر المتحمسين للقرار الأخير الذي اتخذه مجلس الوزراء بتكليف وزير المال غازي وزني إجراء تدقيق مالي في حسابات المصرف وموجوداته، لمعرفة الأسباب التي أوصلت الوضع المالي والنقدي والاقتصادي والمصرفي الى ما هو عليه اليوم من أزمات معقدة ودقيقة.

وخلافا للانطباع الذي تسعى جهات سياسية معروفة بسعيها الى استكمال سيطرتها على مواقع القرار الأساسية والاستراتيجية للدولة اللبنانية الى التسويق له، من أن القرار الأخير للحكومة يعتبر تطويقاً لحاكم مصرف لبنان وإحراجاً له تمهيداً لإخراجه، فإن جهات مصرفية واسعة الإطلاع تؤكد لـ”المركزية” بأن مثل هذا القرار – بمعزل عن خلفياته – هو ما كان ينتظره سلامة منذ فترة، لأن لا شيء في أرقام مصرف لبنان يستدعي الإخفاء. لا بل العكس ، ذلك إن ما يعتبره خصومه فخاً له سيكون وضعاً للنقاط على الحروف وخاتمة لهذه المسرحية الهزلية التي تجند لها المنظومة السياسية كل طاقاتها البشرية والإعلامية والمادية والسياسية والحزبية والشعبية.

أما “المفاجأة الحقيقية” التي تعبر عنها الجهات المصرفية المذكورة فهي تخوفها من أن يبقى قرار مجلس الوزراء حبرا على ورق، ومجرد دعاية إعلامية من دون مفاعيل، لأن نتيجته ستصب حتماً في مصلحة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وستشكل إدانة صريحة للسياسات الحكومية ولنهج المنظومة الحاكمة التي لم تأخذ في الاعتبار أيا من نصائح واقتراحات حاكم مصرف لبنان المدونة في محاضر الاجتماعات واللقاءات، وتلك المرفوعة في المذكرات الى الجهات المحلية والمانحة والمؤتمرات الداعمة للبنان، والموثقة بالصورة والصوت في كثير من الأحيان.

وتلفت الجهات المصرفية الواسعة الإطلاع إلى أن الذين يخوضون الحملة على حاكم مصرف لبنان، إما جاهلون في القانون، وإما أنهم يتقصدون عمدا عدم الأخذ بما ينص عليه قانون النقد والتسليف وتنظيم مصرف لبنان لا سيما لناحية المسؤوليات الخاصة بالقرارات العائدة الى إدارة المصرف والسياسات النقدية والتسليفية والفوائد المعتمدة من قبله وإقراض القطاع العام ووضع الموازنات السنوية والموافقة على التقرير السنوي الذي يرفعه الحاكم الى وزير المال، وهي مسؤوليات المجلس المركزي مجتمعا، وليست مسؤولية الحاكم حصراً كما يحاول البعض تصويره عن جهل أو عن عمد لتشويه صورة رياض سلامة ومحاولة التفلت من المسؤوليات العائدة الى السياسيين، من خلال الذين انتدبوهم وسموهم لتولي عضوية المجلس المركزي .

فقد نصت المادة 17 من القانون (عدلت بموجب قانون 4/1985) على ما حرفيته:

تؤمن ادارة ” المصرف ” من حاكم يعاونه نائب حاكم اول ونائب حاكم ثان ونائب حاكم ثالث ونائب حاكم رابع، ومن مجلس مركزي يدعى فيما يلي “المجلس”.

ونصت المادة 28 على: “يتألف المجلس من: الحاكم رئيسا، نواب الحاكم، مدير وزارة المالية العام، مدير وزارة الاقتصاد الوطني العام، وليس لهذين العضوين الأخيرين أن يتصرفا في المجلس كمندوبين عن الحكومة، وهما لا يمارسان لدى المصرف سوى المهام الملتصقة بصفتهما عضوين في المجلس المركزي، ويقسمان لدى رئيس الجمهورية نفس القسم الذي يقسمه الحاكم ونائبو الحاكم”.

وعن صلاحيات المجلس المركزي تنص المادة 33 (المعدلة بالقانون رقم 8/75 تاريخ 5/3/1975 ج.ر. عدد 21) على: “إن المجلس، ضمن نطاق الصلاحيات المعطاة للمصرف بمقتضى هذا القانون، يتمتع خاصة بالصلاحيات التالية، دون ان يكون لهذا التعداد طابع حصري:

1 – يحدد سياسة المصرف النقدية والتسليفية.

2 – يضع انظمة تطبيق هذا القانون.

3 – يحدد، على ضوء الاوضاع الاقتصادية، معدل الحسم ومعدل فوائد تسليفات المصرف ويتذاكر في جميع التدابير المتعلقة بالمصارف .

4 – ويتذاكر في انشاء غرف المقاصة وتنظيمها.

5 – ويتذاكر في الامور المتعلقة بالاصدار.

6 – ويتذاكر في طلبات القروض المقدمة في القطاع العام.

7 – يضع سائر الانظمة المتعلقة بعمليات المصرف .

8 – يتذاكر في الشؤون المتعلقة بعقارات المصرف، أو بحقوقه العقارية، كما يتذاكر في رفع الحجوزات العقارية او الاعتراضات او التأمينات العقارية وفي التنازل عن الامتيازات او الحقوق وفي مشاريع التحكيمات والمصالحات المتعلقة بمصالح المصرف .

9 – يضع النظام الخاص المتعلق بالحاكم وبنواب الحاكم المنصوص عليه في المادة 22 والنظام العام لموظفي المصرف . يجب ان يقترن هذان النظامان بموافقة وزير المالية.

يُعَيَّن موظفو المصرف وفق نظام القانون الخاص، إلا انه يحظر عليهم الانضمام الى الاحزاب السياسية والجمع بين العمل في المصرف والوظائف الانتخابية النيابية والبلدية والاختيارية كما يحظر عليهم تولي مراكز اعضاء مجالس الادارة في الشركات .

يمنع دفع اي اجر او اية مخصصات باأي شكل من اشكال العمولة او المخصصات النسبية على اساس مداخيل المصرف او ارباحه.

10 – يقر المجلس موازنة نفقات المصرف ويدخل عليها، خلال السنة، التعديلات اللازمة.

11 – يقطع ايضا حسابات السنة المالية.

12 – يوافق على مشروع التقرير السنوي الذي على الحاكم توجيهه الى وزير المالية وفقا لاحكام المادة 117.

أما صلاحيات حاكم مصرف لبنان فهي إدارة المصرف العامة وتطبيق القانون وقرارات المجلس المركزي. وقد نصت المادة 26 على هذه الصلاحيات وفقاً للآتي: “يتمتع الحاكم بأوسع الصلاحيات لادارة المصرف العامة وتسيير اعماله. فهو مكلف بتطبيق هذا القانون وقرارات المجلس. وهو ممثل المصرف الشرعي، يوقع باسم المصرف جميع الصكوك والعقود والاتفاقات ويجيز اقامة جميع الدعاوى القضائية ويتخذ جميع الاجراءات التنفيذية او الاحتياطية التي يرتئيها بما في ذلك التأمينات العقارية. وهو ينظم دوائر المصرف ويحدد مهامها، ويعين ويقيل موظفي المصرف من جميع الرتب، وبامكانه ان يتعاقد مع فنيين اما بصفة مستشارين او لمهام دراسية او لاستكمال تدريب مهني لموظفي المصرف. وليس لسائر ما ورد اعلاه طابع حصري”.

وتقول الجهات المصرفية الواسعة الإطلاع أن بالاستناد الى هذه النصوص فإن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة هو مسؤول عن النواحي الإدارية في المصرف، كما إنه مسؤول عن تنفيذ السياسات، وليس عن التفرد برسمها. صحيح  له رأي في هذه السياسات، لكن رأيه هو واحد على  سبعة وبالتالي فإن القرار في شأن رسم السياسات وإقرارها يعود الى المجلس المركزي وفقاً للآليات القانونية المنصوص عنها في القانون ولا سيما المادة 31 التي جاء فيها: “إن حضور اربعة اعضاء على الاقل ضروري لصحة المذاكرات. وتتخذ القرارات باكثرية اصوات الاعضاء الحاضرين. وفي حال تعادل الاصوات يكون صوت الحاكم مرجحاً”.

وتتوقف المصادر المصرفية بالإستناد الى هذا العرض القانوني عند الملاحظات الآتية:

هل من شك، خصوصا في ضوء الخلافات التحاصصية التي تتجدد بين أركان السلطة عشية كل تعيين، كما هو حاصل اليوم، بأن أعضاء المجلس المركزي لا سيما نواب الحاكم هم ممثلو القادة السياسيين الذين يمسكون بالحكم؟ فهل يمكن لأحد أن ينفي بأن نائب الحاكم الدرزي تسميه المرجعية السياسية الدرزية، ونائب الحاكم السني تسميه المرجعية السياسية السنية، ونائب الحاكم الشيعي تسميه المرجعية السياسية الشيعية؟ وهل من شك في أن المديرين العامين لوزارتي المال والاقتصاد معينان من الحكومة، وبالتالي فهما جزء من المحاصصة السياسية في تعيينات الفئة الأولى؟

لنفترض أن هناك أخطاء، أو ارتكابات في مصرف لبنان. فأين كانت وزارة المال، بوزرائها المتعاقبين من هذه الأخطاء والارتكابات، خصوصا أن القانون يجيز، لا بل يلزم الوزارة بمراقبة مصرف لبنان. وقد خصص القانون القسم الرابع منه لتحديد سبل هذه المراقبة تحت عنوان:”مراقبة المصرف”. وقد نصت المادة 41 على أن “تنشأ في وزراة المالية “مفوضية الحكومة لدى المصرف المركزي”. يدير هذه المصلحة موظف برتبة مدير عام يحمل لقب مفوض الحكومة لدى المصرف المركزي.

وحددت المادة 42 صلاحية المفوض بالسهر على تطبيق هذا القانون، وبمراقبة محاسبة المصرف ويساعده في هذا الجزء من مهمته موظف من مصلحته ينتمي الى الفئة الثالثة على الاقل من ملاك وزارة المالية. وتشمل مفوضية الحكومة لدى المصرف المركزي. من جهة اخرى، على دائرة ابحاث للشؤون المتعلقة بالنقد والتسليف”.

وجاء في المادة 43 أنه “تبلغ فورا الى المفوض قرارات المجلس (المركزي) وله خلال اليومين التاليين للتبليغ ان يطلب من الحاكم تعليق كل قرار يراه مخالفا للقانون وللانظمة ويراجع وزير المالية بهذا الصدد واذا لم يبت في الامر خلال خمسة ايام من تاريخ التعليق يمكن وضع القرار في التنفيذ.

وتنص المادة 44 على أن “للمفوض ولمساعده، المشار اليه في الفقرة (ب) من المادة 42 حق الاطلاع على جميع سجلات المصرف المركزي ومستنداته الحسابية باستثناء حسابات وملفات الغير الذين تحميهم سرية المصارف المنشأة بقانون 3 ايلول سنة 1956. وهما يدققان في صناديق المصرف المركزي وموجوداته وليس لهما ان يتدخلا باية صورة، في تسيير اعمال المصرف المركزي.

وتنص المادة 45 على أن “يطلع المفوض وزير المالية والمجلس (المركزي) دورياً، على اعمال المراقبة التي اجراها كما يطلع وزير المالية بعد قفل كل سنة مالية على المهمة التي قام بها خلال السنة المنصرمة، بموجب تقرير يرسل نسخة عنه الى الحاكم.

وتستند الجهات المصرفية الواسعة الإطلاع الى هذه النصوص القانونية للتأكيد بأن حاكم مصرف لبنان رياض سلامه سيكون المستفيد الأول من أي تدقيق مالي على خلفية إدارته للمصرف، لأن مثل هذا التدقيق سيظهر قيامه بمسؤولياته على أكمل وجه من دون أية شائبة إدارية.

أما السياسات النقدية والمالية التي ترميها السلطة السياسية في ملعب سلامه للتبرؤ من مفاعيلها ونتائجها، فسيكون رده عليها واضحا من خلال التذكير بما سبق له أن أعلنه على الملأ داخليا وخارجيا في أكثر من مسألة واستحقاق ليس أقلها على سبيل المثال لا الحصر:

موقفه الدائم المحذر للحكومة من مخاطر العجز المتمادي وعدم ضبط الانفاق في الموازنات السنوية التي كانت تعتمدها بعد موافقة مجلس النواب.

موقفه المعروف والصريح والقديم من ضرورة وضع حد لعجز الكهرباء المقدر بنحو 1،5 مليار كمعدل وسطي سنويا على مدى السنوات ال 25 الماضية والبالغ اليوم حوالى47 مليار دولار.

موقفه من المخاطر المالية لإقرار سلسلة الرتب والرواتب من دون تأمين المداخيل التي تغطيها.

موقفه العلني المتكرر من القضايا الإصلاحية ومعالجة الهدر والفساد والشفافية وهو ما كرره على مسامع المسؤولين مئات المرات وفي كل مؤتمرات دعم لبنان في الخارج.

موقفه المعروف من مسؤولية السياسات الخارجية التي تعتمدها الحكومة في التعاطي مع الدول العربية والعالم، وعن نتائج الصراعات السياسية الداخلية على الأوضاع الاقتصادية والمالية والمصرفية والنقدية.

موقفه المعروف من الآثار والنتائج السلبية للتوترات الأمنية الداخلية والأثمان الاقتصادية للحروب التي تعرض لها لبنان، على خزينة الدولة وبيئة الاقتصاد والاستثمار وبالتالي على ما وصلت إليه الأمور من أزمات في الوقت الحاضر.

وفي مجال التعليق على ما يؤخذ على حاكم مصرف لبنان من عدم استقالته لو لم يكن فعلا شريكا في هذه السياسات، تتساءل الجهات المصرفية الواسعة الإطلاع : “هل كان على حاكم مصرف لبنان أن يستقيل خلال أزمة التمديد للرئيس إميل لحود عام 2004 والقرار 1559؟ أم خلال أزمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005؟ أو خلال حرب تموز وتداعياتها عام 2006؟ أم خلال أزمة الفراغ الرئاسي عام 2007؟ أم خلال أزمة 7 أيار 2008 وتداعياتها؟ أم خلال أزمة تشكيل الحكومة عام 2009؟ أم خلال أزمة إسقاط حكومة الرئيس الحريري عام 2010؟ أم خلال أزمة الحرب السورية عام 2011 وما تلاها من أزمة نزوح وتفجيرات أمنية في الداخل ومعارك على الحدود؟ أم خلال أزمة الفراغ الرئاسي عام 2014؟ ام إبان ازمة البنك اللبناني الكندي عام 2013؟ ام خلال ازمة الرئيس سعد الحريري في السعودية عام 2017؟ ام خلال ازمة جمال تراست بنك عام 2019؟ أم خلال الأزمات المتلاحقة حتى اليوم؟ وهل من الحكمة ومصلحة لبنان أن يستقيل حاكم مصرف لبنان في وقت تعجز الحكومة عن تعيين نواب لحاكم المصرف ورئيس لهيئة الرقابة على المصارف ومفوض الحكومة لدى مصرف لبنان؟

وتختم الجهات المصرفية الواسعة الإطلاع بالقول: “إن خطأ رياض سلامه الأساسي هو انه الصامت الاكبر حرصا على عدم اقحام القطاع في السجالات السياسية ، وعدم الرد على ما يتهم به من خلال وضع النقاط على الحروف وتحميل المسؤوليات كما هي الى من يجب أن يتحملها. ولعل أسوأ ما في هذه المسألة هو اتهامه بتجنيد الإعلام والإعلاميين للدفاع عنه، في وقت يعرف القاصي والداني المرجعية السياسية لوسائل الاعلام التي تشن الحملة ضد القطاع المصرفي.