IMLebanon

هل يجب أن نتخوف من الطاقة النووية؟

بقلم جوشوا س. غولدشتاين في ساستانبيليتي تايمز.

يجب أن نؤكد أن النشاط الإشعاعي هو جزء من الطبيعة. وقد أدت القدرة الهائلة التي نتجت من انفجار مستعر أعظم منذ مليارات السنين، إلى حجب الطاقة في شكل المادة داخل ذرات اليورانيوم (وما شابه). والآن تعيد هذه الذرات تلك الطاقة المخزنة على مدى مليارات السنين على شكل إشعاع.

إنها البطارية المعجزة. وخلال مليارات السنين، عملت هذه الحرارة الثابتة كي يكون لب الأرض سائلا، مما سمح بوجود المجال المغناطيسي والغلاف الجوي لكوكبنا. ولو لا النشاط الإشعاعي لما كنا هنا.

يعيد الانشطار النووي تحويل المادة إلى الطاقة، وبالتالي يوفر مصدرا شديد التركيز للطاقة. ونظرا إلى أن الطاقة النووية لا تتسبب في التلوث الكربوني مثل ما يحدثه الوقود الأحفوري، فإنها تنطوي على إمكانيات فريدة من نوعها لحل مشكلة تغير المناخ.

وقد خلص العديد من خبراء الطاقة، ومن بينهم علماء المناخ مثل جيمس هانسن، الذين يفهمون حجم المشكلة أفضل من غيرهم، إلى أن مهمة جعل الاقتصاد العالمي “خاليا من الكربون” بحلول العام 2050 تتطلب، من بين إجراءات أخرى، توسيعا كبيرا لدائرة استخدام الطاقة النووية في جميع أنحاء العالم.

لكن في الوقت نفسه، يبقى السعي إلى منع الطاقة النووية من تعزيز مكانتها حتى تتحول إلى التوجه الرئيس حقا على الساحة العالمية، تصورا خاطئا منتشرا على نطاق واسع.

لماذا هذا الخوف من الطاقة النووية؟

تصلح الطاقة النووية بصورة مميزة وفريدة لهدف التخلي عن انبعاث غازات الكربون، متمثلة البديل الأنفع للفحم الذي يظل مصدرا أساسيا للطاقة في العالم، لكونها توفر طاقة على مدار الساعة.

والطاقة النووية مركزة لدرجة تتيح توسيع نطاق استخدامها بسرعة. وقد نجحت فرنسا في تحويل نظامها للطاقة من الاعتماد على الوقود الأحفوري إلى الطاقة النووية في غضون 15 عاما فقط، مما مكنها من تقليص تكاليف إنتاج الكهرباء بمقدار ضعفين مقارنة مع ألمانيا.

وموضوعيا، تعد الطاقة النووية أكثر سلامة من مصادر أخرى للطاقة، خاصة أن النفايات الناجمة عنها أصغر كمية وأقل خطورة بكثير من غيرها. وكذلك يتيح توسيع نطاق استخدامها الحصول على الطاقة الميسورة التكلفة.

ورغم فوائدها، لا يزال الخوف من الطاقة النووية ظاهرة شائعة منتشرة على نطاق واسع. وفي دول عدة تعارض كتلة كبيرة من الرأي العام فكرة استخدام الطاقة النووية من خلال تحريك أدوات سياسة سعيا إلى شرعنة تقليص مستوى الإشعاع حتى يبلغ الصفر، مما يجعل استخدام الطاقة النووية أمرا معقدا ومكلفا لا داع له. وبالتالي، يشكل هذا الخوف عقبة رئيسة أمام توسيع نطاق استخدام الطاقة النووية التي بإمكانها أن تحل محل الوقود الأحفوري بسرعة.

وفي حقيقة الأمر، فإن المستويات المنخفضة من الإشعاع ليست ضارة. ونعيش في بيئة تنخلط فيها مختلف الأنواع من الإشعاع الطبيعي الذي نتعرض له يوميا، وتتفاوت مستويات الإشعاع من مكان إلى آخر. على سبيل المثال، يفوق مستوى الإشعاع في منطقة رامسر بمحافظة مازندران شمالي إيران حيث ينابيع ساخنة غنية بالراديوم، متوسط المستوى العالمي للإشعاع بمقدار 50 مرة. ورغم ذلك لا يعاني السكان المحليون من أي آثار صحية ضارة.

وتعود كل هذه المخاوف من الإشعاع منخفض المستوى والإطار التنظيمي المرافق لها، إلى التعميم الخاطئ حيث يتم الخلط بين المستويات العالية جدا من الإشعاع والمنخفضة، خاصة بعد الهجوم النووي على اليابان عام 1945. وأثناء كارثة تشيرنوبل في العام 1986 تم إرسال العاملين إلى قلب الانصهار النووي دون تزويدهم بالمعدات الواقية الضرورية وهو ما تسبب بتعرضهم لمستويات قاتلة من الإشعاع.

بالمقابل، فإن الإشعاع المتسرب الناجم عن الكارثة النووية في محطة فوكوشيما اليابانية عام 2011 لم يقتل أحدا، بل فعلت موجات التسونامي ذلك. ولم يتعرض أي شخص مدني إطلاقا للإشعاع فوق مستوى السلامة الصحية المحدد للعاملين في الطب والصناعة، وهو أقل بكثير من مستوى الإشعاع في رامسر بإيران. غير أن وباء الخوف أخذ بالانتشار.

وردا على “كارثة” فوكوشيما غير القاتلة، أغلقت الحكومة اليابانية جميع محطات الطاقة النووية وتحولت إلى الفحم لمساعدة البلاد في تغطية حاجاتها للطاقة. وقد قتل الدخان الناتج من حرق الفحم الإضافي قرابة 10000 شخص. وفي أنحاء العالم، يتسبب التلوث الناجم عن استخدام الفحم بوفاة نحو مليون شخص سنويا وإصابة ملايين آخرين بالأمراض. وكان من الممكن أن تنقذ الطاقة النووية هذه الأرواح لو لا خوفهم القوي منها.

إن الخوف المفرط من الإشعاع متجذر أيضا في الصدمة العابرة للأجيال التي سببها خطر فناء البشرية بالأسلحة النووية إبان الحرب الباردة. وكانت مسألة الإشعاع إحدى السمات المميزة للحرب النووية المفترضة، وتلاعب بالورقة معارضو سباق التسلح في الخمسينات من القرن الماضي.

بدوره، ساهمت هوليوود بقسط في بلبلة الموضوع، بإنتاجها عشرات الأفلام حول مخاطر الإشعاع النووي. وخلقت ثقافة البوب وحوشا تغذيها الطاقة النووية مثل Godzilla وأبطالا خارقين مشعين مثل Captain Atom. وذلك في وقت أظهرت فيه أفلام كـ”متلازمة الصين” (The China Syndrome ) و”سيلكوود” (Silkwood ) قطاع الطاقة النووية على أنها صناعة شائنة تعرض الناس للخطر من أجل التربح. وعلى النقيض من التغطية الإخبارية المزعجة التي تحظى بها الحوادث النووية غير المميتة (مثل حادثي “جزيرة الثلاثة أميال” في الولايات المتحدة و”فوكوشيما” في اليابان) لا تتناول الأخبار الآثار الصحية للفحم وأنواع أخرى من الوقود الأحفوري، إلا في حالات نادرة.

وكذلك تم تجسيد الحادث النووي المميت الوحيد الذي حصل خلال السنوات الـ60 الأخيرة في تشيرنوبل بأوكرانيا، في مسلسل تلفزيوني خاص به أنتجته شبكة “إتش بي أو” الإعلامية بعد مرور أكثر من 30 عاما من الحادث، مسفرا عن جولة جديدة من القلق بشأن الطاقة النووية. كما اخترع التلفزيون مخلوقات مسخة مثل سمك بثلاث عيون يعيش بالقرب من محطة طاقة نووية في المسلسل الكرتوني “عائلة سمبسون”.

من غير الصحيح القول إن “لا عتبات ولا جرعة آمنة

لا شك في أن التصور الزاعم بأن الإشعاع المنخفض المستوى يسبب طفرات جينية ضارة، غير صحيح وقد عفى عليه الزمن. في عشرينيات القرن العشرين، أظهرت أبحاث عالم الوراثة الأمريكي هيرمان مولر أن الجرعات العالية من الإشعاع يمكن أن تلحق الضرر بالجينات لدى ذباب الفاكهة. وحصل مولر على جائزة نوبل عام 1946 في وقت تزايد فيه القلق من الآثار الإشعاعية للأسلحة النووية. واعتبر مولر أيضا أن حتى الجرعات المنخفضة جدا من الإشعاع مضرة للجينات.

وكان مولر قد اختبر الجرعات العالية من الإشعاع فقط، ثم استنبط تأثيراتها على الجرعات المنخفضة مباشرة من دون تحديد عتبة تضم “جرعة آمنة”. وفي وقت لاحق لم يدعم العلماء هذا الاعتقاد حيث تم الاكتشاف أن هيكل الحمض النووي هو حلزون مزدوج ذو آليات إصلاح ذاتي تعالج الضرر الإشعاعي اليومي.

من غير المحتمل أن التقلبات المتواضعة في مستويات الإشعاع قادرة على إلحاق الضرر بأجسامنا التي كانت ولا تزال تنمو على كوكب مليء باليورانيوم وتقصفه الأشعة الشمسية والكونية. ويمكننا أن نؤكد أن المستويات العالية من الإشعاع فقط، تؤدي إلى الموت والأمراض. وقياسا على ذلك، يفترض أن القفزات المنتظمة صعودا وهبوطا على علو صغير تقوي ساقيك، ولكن قفزة واحدة من ارتفاع كبير ستقتلك على الأرجح.

ومع ذلك، وفقا لفرضية مولر التي ترجح عدم وجود “عتبة آمنة”، فإنها جميع تقلبات الإشعاع متساوية. والشيء الذي لا يصدق هو أن هذا المبدأ، لا يزال ينظم معايير السلامة لمفاعلات الطاقة النووية حتى يومنا هذا.

النفايات النووية في المستقبل

يبلغ الخوف من الإشعاع ذروته في النفور واسع الانتشار من النفايات النووية. ويحتوي الوقود المستهلك على عناصر مشعة ستنبعث منها الإشعاع لمئات الآلاف من السنين. ومهما كنا حريصين على دفنها بعناية، فلا يمكن ضمان أنها ستظل معزولة عن البيئة البيولوجية المحيطة بها لفترة طويلة محددة. وهذا الاعتقاد صحيح، لكنه يتجاهل ثلاثة اعتبارات مهمة.

أولا، إن حجم النفايات صغير للغاية لكون الطاقة النووية مركزة جدا وكميات النفايات أصغر بآلاف مرات من نفايات الفحم التي ننتجها الآن لأننا لا نستبدل الفحم بالطاقة النووية. في الواقع، إذا جمعنا كل الوقود المستنفد المتراكم من إنتاج الطاقة النووية خلال السنوات الـ60 الماضية في الولايات المتحدة، فيمكن وضعه داخل محل واحد من السلسلة التجارية Walmart.

ثانيا، تجدر الإشارة إلى أن المواد الكيميائية السامة القاتلة مثل الزرنيخ والرصاص والزئبق تبقى في نفايات الفحم إلى الأبد، حتى لفترة أطول من النفايات النووية التي تحلل ببطء، لكننا نتعامل مع تلك المواد بلا مبالاة.

والسبب الثالث والأهم أنه عندما ستبدأ كميات من المواد المشعة المدفونة بالتسرب من مقبرتها في المستقبل البعيد، من غير المحتمل أنها ستلحق أضرارا كبيرة بالبشر أو النظم البيئية، لأن تأثيراتها ستكون منخفضة وستنحصر على المستوى المحلي. ويكمن السبب في أن النشاط الإشعاعي لا يشبه فيروس يمكن أن يتسلل إلى الخارج ويدمر كل شيء.

وبأي حال من الأحوال، لا يمكن مقارنة الضرر المحتمل الناجم عن النفايات النووية الذي قد يظهر بعد آلاف السنين من الآن، مع الضرر المستمر الذي تسببه نفايات الفحم والكارثة التي سيحدثها تغير المناخ وستعاني منها الأجيال القادمة.