IMLebanon

العرب بعد كورونا

كتب أحمد عدنان في صحيفة “نداء الوطن”:

بسبب تعدد اللاعبين في العالم العربي، فإن التحولات التي ستشهدها دنيا العرب بعد فايروس كورونا، هي انعكاس لتغيرات كبيرة في الشرق الأوسط ولتغيرات أكبر في العالم. وثمة ملاحظات رئيسة تؤسس لقراءة المستقبل المنظور والغامض بعد هذه الجائحة.

اولها، إن الملكيات العربية، وعلى رأسها دول الخليج، أثبتت كفاءة مؤسسات الدولة، وسلامة منطقها ورقيّه، سواء في التفاعل مع الوباء عبر الشفافية والإجراءات الاحترازية وأداء القطاعات الصحية، او في التفاعل مع مواطنيها عبر تقديم سلامتهم على أي مصلحة مادية أو أكلاف اقتصادية. وبالتالي فإن دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، مرشحة لأن تكون سبّاقة في تجاوز هذه الجائحة شريطة التزام المواطنين بتوجيهات الدولة.

ثانيها، نجاح الملكيات العربية، وعلى رأسها دول الخليج، مرده الولاء المتبادل، ولاء المواطن لقيادته السياسية وولاء القيادة السياسية للمواطن، ونجاعة السياسات الاقتصادية والتنموية خلال السنوات الماضية والعقود المنصرمة، إذ انشغلت الإدارة الخليجية بالتنمية أولا وأخيرا، والاستثمار في البشر وفي الحجر، وهي تقطف اليوم ثمار هذا التوجه، وعليه فإن التصنيفات القومية القديمة، بتقسيم دنيا العرب إلى دول تقدمية (الجمهوريات العسكرية) وإلى دول رجعية (الملكيات) أكد تهافته وسخفه، فوفق منطق الأرقام والنتائج، يحقق الكادر البشري الخليجي ومنشآته ومؤسساته أعلى درجات الجودة.

ثالثها، من عوامل تفوق المنظومة الخليجية ارتباطها الوثيق بالمنظومة الغربية، الأكثر حداثة وابتكارا – بلا شك – عن المنظومة الشرقية التي تتصدرها روسيا والصين، وهذه الحقيقة تنفي تنبؤات البعض بانهيار الغرب، فالأزمة التي تواجهها الدول الغربية اليوم موضوعها إداري قبل أي شيء آخر، فضلا عن تصادم قيم كورونا مع القيم الإنسانية الكبرى، يكفي أن انظار العالم تتجه إلى جامعات أميركا وأوروبا انتظارا للدواء واللقاح، وفي مقابل النجاح اللافت لدول الخليج المرتبطة بالدول الغربية، نجد الفشل الذريع لدول مرتبطة كليا بروسيا والصين، وعلى رأسها إيران، التي ستتكشف مأساتها المروعة على الملأ بعد انقشاع غبار الجائحة، وننتظر مأساة مشابهة لدولة مثل سورية، والقضية هنا أعمق من أزمة دولة تخنقها العقوبات او الحرب الأهلية، إنها أزمة خيارات وسياسات وإدارة على مر سنوات وعقود.

رابعها، إن التنبؤات التي يطلقها البعض عن وراثة الصين للغرب لا محل لها من الواقع، فالعالم – حقيقة – يدفع ثمن خلل صيني ما، ليس أقله التعامل الغشوم – في البداية – مع مكتشف كوفيد 19 واكتشافه، فضلا عن غياب الشفافية والمصداقية في أوقات ملحوظة من الأزمة، وكل ذلك له تداعياته الاقتصادية والثقافية على الصين، وهي دولة عريقة ومؤثرة، لكن نفورا وقع بينها وبين بعض الكوكب، ومن مظاهره، ان استثمارات واضحة ستنسحب منها إلى الهند أو الى الوطن الأم، ولو اخترعت الصين لقاح كورونا سينظر العالم لذلك كتكفير عن الخطيئة بلا امتنان. أما روسيا فقد اتضحت خسائرها الفادحة حين تصادمت نفطياً مع السعودية، وهذا يطرح التساؤل حول قدرتها على تحمل أكلاف دور دولي أكبر. ولا ادري سر تجاهل المبشرين بروسيا والصين لنجاح ورقي كوريا الجنوبية في تعاملها مع الجائحة.

خامسها، أوروبا لا تنهار بل تتجدد، ومن رماد أوروبا العجوز تولد أوروبا الفتية القوية، وأولى ملامح الوليد الجديد الدولة الألمانية، التي اثبت قطاعها الصحي كفاءة عالية في مواجهة الأزمة، وهذا انعكاس لجدارة الدولة وتقدمها ككل، والقوى الجديدة في اوروبا الفتية ستكون لها كلمة مؤثرة في النظام الدولي الجديد مع تناغمها القيمي الحتمي مع الولايات المتحدة، والاستثمار في هذا الكائن الوليد مفيد وضروري خصوصا وان قيمة موقع أوروبا الجغرافي لن تتضعضع.

اما في دنيا العرب، فالملاحظ في هذه الجائحة وشبيهاتها، اتجاه الأنظار في الغرب إلى الجامعات والمختبرات قبل الكنائس، لكن العرب لا خيار لديهم غير الالتجاء إلى المساجد التي اوصدت في استثناء تاريخي لافت، ولهذا الأمر تداعياته المفتوحة كما تم الشرح في مقالة سابقة، فموجة الإلحاد التي تعرفها وتحترمها الأوساط الغربية لا وجود لها عربيا، وعليه سينقسم العرب بين خيارين، العودة إلى الإسلام السياسي – الذي يمر بأسوأ أيامه ومراحله – كرد فعل على غضب سماوي متصوَّر، وهذه كارثة، او صعود الإسلام الروحي (الصوفي) لأول مرة منذ دهور، وهو الخيار الأرجح والأسلم الذي يستحق دعما رسميا، لكن الخشية من أن تعوض بعض الدول العربية فشلها في مواجهة كورونا بتمكين التطرف الديني اجتماعيا، من أجل امتصاص ما سيلي الجائحة من تيه فكري وفوضى روحية وكساد اقتصادي كوني لن يرحم احداً، وهذا النهج الخطِر له سوابقه المؤسفة في دنيا العرب.

ثلاثة تحديات

بعيداً من ذلك في المشهد السياسي، لا توجد سوى ثلاثة تحديات جدية في عالمنا العربي الممتد، اولها قضية التنمية والدولة، وثانيها مشاريع الهيمنة الدخيلة من إيران ومن شاكلها والميليشيات الإرهابية، وثالثها قضية فلسطين والصراع العربي – الإسرائيلي.

ليس غريبا ان نرى الدولة التي سقطت في اختبار كورونا، تسقط نهائيا في اختبار الوجود، وبلغة أكثر وضوحا، لا عجب من موجة ثورية ثالثة في الشرق الأوسط تطال الأنظمة التي فشلت في التعامل مع كورونا خصوصا مع فقر الديموقراطية التي تؤمن التصحيح والتداول سلمياً، ولنبدأ من إيران، فحجم المأساة فيها يفوق كل تصور، والفشل يفوق كل احتمال، وستواجه داخليا أزمة سياسية رهيبة تتوزاى مع تداعيات العقوبات الاقتصادية المؤلمة، فلم تعد هناك جدوى من قتال الإيراني دفاعاً عن مقامات آل البيت – وفرض التشيّع – في الدول العربية وهو عاجز عن حماية حياته في طهران بسبب فشل الدولة وتخلفها، ولا جدوى من معاداة “الشيطان الأكبر” ونحن نتسوله للبقاء أحياء، وكل ذلك له انعكاساته الكبرى في الدول العربية التابعة للمحور الإيراني، ونظراً لطبيعة النظام العقائدية قد يلجأ إلى العدوانية في محاولة لحشد جمهوره من حوله داخل إيران وخارجها.

نحن مقبلون على نظام دولي، وبالتالي نظام إقليمي، أكثر أنانية وسطوة، تتخلله مناطق فراغية معدومة الوزن والاتزان، وعليه سيضغط المواطن الإيراني البسيط كي تعود العوائد المقننة والمحددة لدولته إليه بدلا من الميليشيات العربية المتأيرنة، فيتأثر سلبياً وبحدة تمويل هذه الميليشيات، وأهلها أول من أدرك ذلك، فصرخوا بخطاب شعبوي يدغدغ العامة، لكنه استراتيجياً بلا معنى، وقد يجر البلاد إلى أزمات أخطر، وقس على ذلك في العراق، سيصعب عليها تسخير إيراد نفطها في سبيل إيران ومغامراتها، خصوصا في خضم ثورة العراقيين التي بدأت قبل كورونا، والحوثيون في صنعاء وصعدة سيفكرون شخصياً في المأكل والمشرب قبل تأمينه للعامة، وسيكون التفكير في الصواريخ الباليستية الإيرانية من باب الترف الموؤود، وسورية مرشحة لتغيرات عاصفة في ظل نظام لا قيمة له من دون الاحتلالين الروسي والإيراني، أما في لبنان فسنشهد الوضع الأصعب، فلم تعترف الحكومة بأن إيرادات النفط والغاز – إذا بقيت لهما قيمة – لن يلمسها المواطن قبل 10 سنوات في حال صمود الدولة، ولم تبلغ الحكومة مواطنيها بعد أن مقررات مؤتمر سيدر أصبحت ماضياً لن يعود بفضل الكساد الكوني، وبالتالي لا ملاذ للبنان إلا دول الخليج وبعض الغرب وفق شروط أكثر تشدّدا، إن كانت سياسية او إصلاحية، فلا استثمار بلا مردود ملموس، ولا استثمار مجهول العواقب، ولا استثمار يستسلم لأي هدر او فساد، ولا استثمار يمنح العدو قبلة الحياة، والأسوأ احتمالية ان لا يكون هناك استثمار أساسا.

وتسير تركيا على خطى إيران، فالانكفاء الداخلي وارد، خصوصا وان المغامرات السياسية الخارجية دمرت الاقتصاد قبل كورونا، والوضع بعده أصعب، وآثاره تطال الشمال السوري وليبيا على الأقل، وستعجز الخزينة القطرية عن تلبية المشاريع الأردوغانية العابرة للقارات رغم انخراطها التام في وسائلها وأهدافها. لكننا نلفت النظر إلى ان تشكل اوروبا الجديدة قد يتيح لتركيا مساحات تحرك خطيرة ومزعجة، وفي المقابل، سيسيل لعاب الروس أمام الكعكة الليبية للأسباب الاقتصادية المعروفة.

لقد أثبتت أغلب الملكيات العربية كفاءتها وكفايتها، بينما أغلب الجمهوريات العربية، خصوصا تلك المنضوية تحت المظلة الإيرانية، في موضع الاختبار العسير، والراسبون في الاختبار – كانوا داخل المنظومة الإيرانية او خارجها – لا مكان لهم في العالم الجديد.

هل ستكون النتائج لمصلحة العرب وتجدد دمائهم؟ الجواب من رجم الغيب، ويعتمد بدرجة كبيرة على نوع الإسلام الذي سيسود بعد الجائحة، ويعتمد بدرجة أكبر على الأنظمة والأطر التي ستصمد او سيعاد تشكيلها إقليمياً ودولياً، وبناء على كل ذلك يمكن تقديم قراءة دقيقة لقضية فلسطين ومصير صفقة القرن وغيرها من التحديات، هل سيجدد الناخب الأميركي لرئيسه ترامب في انتخابات نوفمبر؟ ما هو أثر كورونا على تركيبة إسرائيل وموازينها؟ وما هي تداعيات الجائحة على أوروبا في كل صعيد؟.

ختاماً، لكل أزمة بطلها الذي يكسب الاحترام والتقدير والإشادة والاقتداء، ولا جدال بأن العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبدالعزيز، هو فارس المرحلة الراهنة ورجل المراحل المقبلة، بتعامله الجذري والحازم والإنساني والاستباقي مع الأحداث، وقمة العشرين الافتراضية التي عقدت مؤخرا، أكدت مكانة المملكة الرائدة في عالمنا اليوم وعالمنا غداً، وليس تفصيلا ان يظهر السفير الأميركي في الرياض طالباً من رعاياه البقاء في المملكة لأن الوضع فيها أفضل من العودة إلى الولايات المتحدة، وهذا يعني ان العالم الذي ينظر بعين القلق إلى العالم العربي بعد كورونا، ينظر – في الوقت نفسه – بعين الحسد والإعجاب إلى المملكة العربية السعودية نظير جدارة وحكمة قيادتها الفذة وأبنائها البررة.