IMLebanon

ذكرى الإبادة الجماعية للأرمن: صَفّوا ضمائركم واعترفوا

كتب سيروج ابيكيان في صحيفة “الجمهورية”:

يُحيي الأرمن في 24 نيسان من كل سنة ذكرى شهداء الإبادة الجماعية التي تعرّضوا لها عام 1915، وليست الذكرى سوى ذاكرة حيّة في أذهان الجميع، وترحّم على أرواح الضحايا الشهداء ومطالبة بالاعتراف والتعويض، الّا أنني أودّ أن تكون أيضاً دعوة لصفاء الضمير والتغلب على الذات البائسة والاعتراف بالأخطاء السياسية بحق الشعب الأرمني والبشرية بغية الحدّ منها ونشر مبادئ السلام والحياة، خاصةً أننا كنّا قد شاهدنا في الآونة الأخيرة في بعض من الدول العربية حركات ارهابية تفظّع في قتل الناس، وهذه أمثلة مصغّرة عمّا حدث للأرمن عام 1915. وللمفارقة انّ المدير الفني لهذه العمليات في الأمس لا يزال هو نفسه اليوم بأحلامه التوسعية، تارةً نحو أوروبا وتارة أخرى نحو وسط آسيا، وطبعاً نحو الدول العربية أيضاً بغية بناء الحلم الطوراني على أشلاء ضحايا أبرياء.

بدورها، تقوم تركيا في اليوم نفسه، أي في 24 نيسان، جاهدةً في طمس التاريخ وتحوير الوقائع الثابتة بمهرجانات دعائية وتسخيفية، وأحياناً تهجّمية وفق مواقف الدول من هذا الحدث، بهدف تحويل الأنظار عنها وبخاصة الدولية منها، محاوِلة التخفيف من وطأة الاتهام. وفي ظل ارتباك وتخبّط في السلوك السياسي، يطرح المجتمع الدولي أسئلة جديدة وعلى تركيا مواجهتها.

– الى متى ستظلّ تركيا تتنصّل من تاريخها؟

– متى ستعترف تركيا بالإبادة الجماعية الأرمنية وتعوّض، وتردّ الأراضي… بالتالي تُسقط عن كاهلها هذا الحمل الثقيل؟

– الى متى ستبقى تركيا رمز التخلّف والبربرية ونحن في عام 2020؟

– الى متى ستظل تستغل الدين الاسلامي الكريم لأهداف قومية تركية محض؟

طبعاً، تعمد تركيا اليوم الى اعتبار جريمة الإبادة كحدث تاريخي وليس كقرار وعمل سياسي، يجب البحث عنه وجمع المعلومات كما ينقّب علماء الآثار عن مدافن تعود الى أكثر من خمسة آلاف سنة في التاريخ لتحديد بعض الوقائع التاريخية ضمن فرضيات غير نهائية.

للردّ على هذه المحاولات سأتناول بعض النقاط الضرورية والأساسية في هذه الجريمة ضد الانسانية، من دون الاطالة بها لأنّها حقيقة نهائية وواضحة لا ضرورة لإثباتها، ولكن وجب التذكير لمن نسيَ أو تناسى.

– عام 1948 وضع Raphael Lemkin شرعة الأمم المتحدة للابادات الجماعية والحماية والحدّ منها، وارتكزت دراساته على قضية الابادة الجماعية الأرمنية بشكل أساسي كأول جريمة ضد الانسانية في القرن العشرين، واعتبر انّ ما حدث بحق الشعب الأرمني هو تعريف كامل ودقيق لمعنى الابادة إذ لجأت تركيا الى كافة الوسائل والطرق لتطبيق كافة معايير الابادة، مثل القتل الجماعي، التهجير، قتل الرجال للحد من النسل، سرقة الاطفال، قتل النساء لعدم استمرارية حياة شعب بأكمله…

– 18 دولة أوروبية اعترفت بالابادة الأرمنية الى جانب البرلمان الأوروبي، ولكن سأقتصر الموضوع في تناول بعض الدول للإضاءة على الأسباب التي دفعت هذه الدول للاعتراف، ونقارن معاً المعايير الأوروبية والتركية في المجال الانساني.

1 – فرنسا: فرنسا الثورة الفرنسية، ثورة حقوق الانسان والمواطن، ثورة الحرية، هذا الإرث الثقافي والتاريخي والانساني الذي أصبح يلازم الجمهورية الخامسة في الحياة السياسية والعلاقات الخارجية والمقاربات حول كافة المواضيع الدولية. كانت الثورة نواة بناء فرنسا جديدة إذ ثارت على نفسها لتصحّح المسار. فلماذا لا تثور تركيا على نفسها وتصحح أخطاءها من خلال الاعتراف والتعويض؟

من دون أن ننسى نشاط الفرنسيين من أصل أرمني في تعريف المجتمع الفرنسي على القضية الأرمنية.

2 -ألمانيا: بعد الذكرى المئوية للإبادة الجماعية الأرمنية، وبكلام مُتلفز أعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل اعتراف دولتها بالإبادة، أضافت أنّ ألمانيا ستسمح للباحثين في البحث في المراسلات والوثائق الرسمية لوزارة الخارجية الألمانية التي تعود تواريخها الى تلك الفترة لأنّ تركيا كانت حليفتها، وأضافت: «ربما علينا أيضاً بعض من المسؤولية». فيما منعت تركيا الباحث التركي Taner Akçam من الوصول الى الوثائق والفرمانات، الذي وجَد بعضها خارج تركيا وألّف كتاب killing orders، الذي يتضمن الأوامر الرسمية لإبادة الشعب الأرمني، ولا تملك تركيا اليوم أي ردّ على هذه الوثائق.

فمتى تقوم تركيا بعمل مُشابه للألماني وتسمح بالوصول الى الوثائق التي نجد فيها قرارات الإبادة؟

طبعاً يتطلّب هذا الامر تطوراً كبيراً، وتركيا بعيدة جداً من المعيار الأوروبي.

– بالانتقال الى الولايات المتحدة الأميركية، الى جانب اعتراف 49 ولاية بالإبادة، هناك الخريطة التي طرحها الرئيس الاميركي ولسن وأقرّ بالأراضي التي يجب ان تكون لأرمينيا، وهي 167000 كلم2 سُلخت وتمّ ضمّها الى تركيا بعد اتفاقية لوزان.

أمّا بالنسبة الى دول اميركا الجنوبية، فكانت من أوائل الدول التي اعترفت بالإبادة.

– أمّا الفاتيكان فكانت أول دولة تعترف بالإبادة في الذكرى المئوية، وبعد الـ Domino Effect توالت الدول الأوروبية بالاعتراف، ما أدّى الى انتقاد شديد من الدولة التركية تجاه البابا فرنسيس، والذي بدوره أكّد على الإعتراف في الذكرى التالية.

– الدول العربية، اليوم أضحت قريبة من الاعتراف، فليبيا اعترفت في 2019 وسوريا في 2020، ووعد الرئيس السيسي أيضاً بالتقرّب الخليجي في ما يخصّ القضية الأرمنية باهتمام غير مسبوق.

– أمّا لبنان فاعترف عام 2000 والأهم انّه بإجماع المجلس النيابي، وفي ذكرى المئوية، اعتبرت نقابة المحامين في بيروت أنّ المجازر الأرمنية هي إبادة، وذلك في ندوة لإحياء هذه الذكرى في النقابة. وللمفارقة، ورغم وجود العديد من المنظمات والجمعيات الدولية التي اعترفت، لكنّ نقابة المحامين في بيروت هي أول نقابة، كجسم يعمل في القانون ويدافع عن الحق في العالم، تعترف بالإبادة الأرمنية، وهذه كسابقة تبرهن من جديد أن بيروت هي أمّ الشرائع والحقوق.

هذا السّرد البسيط والسريع للقول إننا لم نعد في مرحلة إثبات الحقائق التي اصبحت مثبّتة، بل أصبحنا في مرحلة متقدمة من المطالبة بالإعتراف والتعويض. والمقاربة هذه ليست فقط سياسية أو حقوقية، بل إنسانية أيضاً، والمطالبة بالمعاقبة ليست إنتقامية، لأنّ الإنتقام له أساليب وطرق أخرى، ومنع حصول جرائم بحق الانسانية في المستقبل، فلو تمت معاقبة تركيا بعد 1915 لربما ما كانت وقعت جرائم إبادات أخرى كالهولوكوست ورواندا، ومؤخراً في ميانمار.

يبقى أن نذكّر أنّ التاسع من كانون الاول من كل عام هو اليوم العالمي للإبادات الجماعية والحدّ منها، يجب أن نجعل من هذا اليوم يوماً يرمز الى السلام.

إنّ الذاكرة لا تموت، فالقضية الأرمنية هي رسالة للإنسانية، تدعو الى ثقافة الحياة والحرية والى مناهضة العبودية والجرائم بحق البشرية.

معاً نتذكّر ونطالب

نتذكّر مليون ونصف شهيد قُتلوا على يَد من قال عنهم جبران خليل جبران إنهم إنحطاطيون متوحّشون، لم يبدعوا في شيء الّا القتل وإعادة المآسي للشعوب المحيطة بهم.