IMLebanon

البطريرك نصرالله صفير: قرن من مجد وطن في إنسان!

قل أن أعطيت بلاد نعما بحجم تلك التي أغدق الله بها على لبنان. كيف لا ووطن الأرز يعتبر فعلا أرض القديسين، ووطن التعايش، وملاذ الأحرار الشجعان الذين لا يعرفون إلا الكلمة السوية المتحررة من كل القيود في صحراء من أنظمة عربية سيذكر التاريخ أنها تلذذت في ممارسة القمع في حق الشعوب.

من النعم الالهية على لبنان أنه حظي ببعض هؤلاء الفرسان، الذين لم يخشوا أن يخوضوا معركة الحرية والسيادة والاستقلال في وطن ما برح يرزح تحت إحتلالات ووصايات. لكن الأهم كان في مكان آخر، في أن يتجرأ هؤلاء الأبطال على مواجهة القدر وكتابة تاريخ جديد، لا بد له من أن ينحني أمام التضحيات المرصعة بذهب البطولة.

هكذا هو البطريرك التاريخي الراحل نصرالله صفير الذي شاء له القدر أن يكون عام غيابه الأول هو ذاك الذي نجح خلاله اللبنانيون في تحقيق أحد الأهداف التي ناضل لها طوال حياته المديدة: كسر القيود وفتح المواجهة المطلوبة مع طبقة سياسية أيقن الناس أخيرا أن الوقت حان لاستبدالها، بأناس جدد يستحقون الاحتفال مع الناس بمئوية لبنان الكبير الذي أعطى العالم قامات بحجم صفير. لكن أمام الهامات من طينة هذا البطريرك الاستثنائي، لا مكان للندم والحسرة، بل العزاء والفخر موجودان دائما لتذكيرنا بأن غياب هذا النوع من الرجالات على غفلة قدر مباغت ليس إلا انتقالا من دنيا الفناء هذه إلى الحياة الأبدية حيث الراحة المستحقة بعد طول نضال.

فالرجل أكثر من مجرد كاهن سمع صوت الرب يناجيه إلى خدمته ويدعوه إلى تكريس حياته له، وصعد سلم الكهنوت إلى أن بات على رأس الكنيسة المارونية من العام  1986 حتى العام 2011. إنه البطل الذي كرس حياته للبنان وسيادته، فكان رأس حربة مواجهة الاحتلال السوري، وصوت الأحرار الذين لطالما نامت ثورة الحرية طويلا في نفوسهم إلى أن وجدوا في بكركي وسيدها الأب الروحي القادر على القفز فوق الخطوط الحمر السياسية الضيقة في سبيل الوطن وحريته. بدليل أن الذاكرة الجماعية اللبنانية ستحفظ دوما بين حناياها نداء المطارنة الموارنة الشهير الذي كتبه البطريرك الماروني بنفسه، وصدر في أيلول 0002، متضمنا مطالبة صريحة وواضحة بالانسحاب السوري من لبنان، بعد انجاز تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي. إنجاز رحب به البطريرك صفير من أفريقيا، حيث كان في جولة راعوية. لكن ذلك لم يدفع البطريرك إلى تغيير موقفه من سلاح حزب الله وترسانته غير الشرعية، على اعتبار أن الحزب قد يدير يوما بندقيته المفترض أن تكرس لمواجهة العدو إلى الداخل اللبناني. توقع لم يكذبه الزمن لهذا البطريرك التاريخي، بدليل أن البلاد وقعت في المحظور في 7 أيار 8002، في عز فراغ رئاسي كان البطريرك يطالب بإنهائه سريعا. وما بين المحطتين، تجرأ سيد بكركي حيث تخاذل كثيرون من أصحاب الحسابات السياسية الضيقة، بحجم مصالحهم، فكان الراعي الصالح الذي قاد رعيته على درب التحرر من قيود الوجود السوري في لبنان، فأعطى بنداء المطارنة الموارنة دفعا للشباب الأحرار المتعطشين إلى كثير من الحرية. غير أن حنكة البطريرك التي سيحفظها التاريخ بين صفحاته  المليئة عنفوانا جعلته يتيقن من حقيقة صارت مرادفا للبنان: لا يمكن أن يحيا وطن الأرز إلا إن حلق بجناحيه المسلم والمسيحي، وإن كانت القيادات المسيحية مغيبة تماما في تلك الحقبة بين النفي القسري وذاك الاختياري، والسجن. فما كان منه إلا أن سعى إلى ضم الزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط إلى صورة الحرية هذه بزيارة تاريخية إلى الجبل في آب 2001 كرست المصالحة بين الدروز الحاضرين بقوة في المنطقة والمسيحيين الذين خرجوا محبطين من حرب 1983، بجهود من جنبلاط، والرئيس أمين الجميل والنائبين السابقين فارس سعيد و(الراحل) سمير فرنجية.

قد يكون هنا مكمن الإرث الأهم لصفير، والذي يقتضي الاعتراف لجنبلاط بأنه يبذل كثيرا من الجهد للحفاظ عليه في مواجهة موجات الفتنة العابرة بين الحين والآخر فوق المنطقة في إطار الحسابات السياسية الضيقة. لكن، أبعد من ختم الجرح المسيحي الدرزي النازف،  حمل مشهد الوحدة اللبنانية هذا صدمة كبيرة لسوريا التي لطالما أمعنت في دق الأسافين بين اللبنانيين لتعزيز نفوذها على طريقة “فرق تسد”، فكان الرد الصاعق في 7 آب 1002، حيث شنت الأجهزة الأمنية اللبنانية، وبعض المحسوبين على سوريا حملة اعتقالات واسعة طالت شباب التيار الوطني الحر والقوات والكتائب الذين خرجوا في تظاهرات مطالبة بالانسحاب السوري من لبنان. وفي هذا الموقف أيضا، برزت حنكة البطريرك الذي فهم الرسالة جيدا. لكن العظماء من طينته، المؤمنين بالله وعمله العظيم في الانسان كما في أرض القديسين، لا يهابون هذه الضربات.

فالمعركة ذات أهداف واضحة: لا صوت يعلو فوق صوت الحرية… كيف لا و”نحن قوم نعشق الحرية، وإذا خيرنا يوما بين الحرية والعيش المشترك، نختار الحرية”. بهدي هذا المبدأ واكب هذا البطريرك الكسرواني الصلب ثورة الاستقلال، من دون أن يخشى مد اليد مجددا إلى الشريك المسلم، الذي كان الرئيس الشهيد رفيق الحريري ممثلا له. ذلك أن بعدما بادر إلى التعاون مع المفتي الراحل حسن خالد ورئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى محمد مهدي شمس الدين، في واحدة من أروع تجليات الوحدة الوطنية، التقى صفير  مع الحريري على نهائية الكيان اللبناني المتحرر من الوصاية السورية، وإن كان الحريري دفع من دمه وحياته ثمن هذا الخيار. لكن الأهم يكمن في أن “الشريك” الذي راهن عليه صفير لم يخذله، بل تعالى على جرح غياب عملاق سياسي بحجم الحريري ليكون في مقدمة صفوف ثوار الاستقلال.

لكن من الظلم بمكان حصر النضال الكبير لصفير في حقبة 1200-5002. ذلك أنه كان أيضا في مقدمة المناضلين لوقف الاقتتال المسيحي- المسيحي الذي بلغ أوجه في حرب الالغاء بين قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون والقوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع. هدد صفير الرجلين بالحرم الكنسي إن لم تضع الحرب أوزارها. وهو الهدف عينه الذي دفعه إلى القبول باتفاق الطائف على اعتباره وصفة موقتة للدفع في اتجاه السلام. لكن سوريا حافظ الأسد لم تر الأمور من هذا المنظار، فضغطت لضم الطائف إلى الدستور، ما رفع منسوب خشية البطريرك إزاء المس بصلاحيات رئاسة الجمهورية، التي لطالما دعمها صفير، وإن كان الرئيس إميل لحود يشذ وحيدا عن هذه القاعدة، حيث مرت علاقته مع بكركي بمراحل متعددة بلغت أوجها مع انتقال المديرية العامة للأمن العام من الموارنة إلى الشيعة، فيما لم ينل المسيحيون بديلا مماثلا في الحجم والتأثير.

لا تكفي صفحات لاستعادة إرث كبير بحجم ذاك الذي تركه البطريرك صفير. لكن في الامكان اختصاره بعبارة قد لا تفي هذا الكبير حقه: النضال للبنان الدولة والقانون والمؤسسات والسيادة والحرية والاستقلال. كلمات كبيرة بحجم هالة البطريرك الذي التقى عليها مع عميد الكتلة الوطنية ريمون إده (الذي خرق صفير الأعراف الكنسية ليرأس الصلاة لراحة نفسه عام 2000). إنها أيضا  أحلام كبيرة يحملها وطن راهن على ملائكته الحية الحارسة كإده وصفير ليحققها ولو بعد حين، وبات اليوم وفي ذكرى غيابهما،على يقين بأنهما يتشفعان له من عليائهما، لأن الأبطال الشجعان هم الأقرب إلى قلب الله…