IMLebanon

جبران وقبلان: رسالتان إلى عنوان واحد… ولا جواب

كتبت ليال الإختيار في “الجمهورية”:

تصريحان انشغل الاعلام اللبناني ببحث ما ورائيّاتهما: الأول هو خطاب رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل الذي دعا فيه الى اللامركزية الادارية وصولاً الى المالية الموسّعة مع ما يعنيه من استبطان للفدرالية.

والثاني هو خطاب المفتي الجعفري الشيخ احمد قبلان الذي أعلن فيه وفاة الصيغة والميثاق الوطنيين، كما نسف وثيقة الوفاق ونظام الطائف بكل مندرجاته، داعياً الجميع الى البحث عن صيغة جديدة. وهي الدعوة التي تضمر في طيّاتها إسقاط مبدأ المناصفة وتأسيس الارضية الصلبة لمعادلة أخرى، من المثالثة إلى سواها، عبر مقولة المؤتمر التأسيسي الذي لطالما ضجّت به الاوساط الشيعية منذ فترة طويلة.

بعكس التحليلات والتفسيرات، الخطابان لم يكونا متناقضين. ولم يوجّها على الأقل إلى عنوانين مغايرين. ولم يأت واحدهما لينسف الآخر. لا بل في عمقهما يعتبر البعض انهما أتيا مكمّلين لبعضهما، أي انهما وجهان لعملة واحدة، عاملة على خط وجهة واحدة هي واشنطن.

فبرأي هذا البعض، سارعَ باسيل الى مخاطبة واشنطن على قاعدة: ماذا تعطيني لأبتعد عن السلاح ؟ أو بالحد الأدنى: أعطني وعداً، أعطِك حزباً…

فجاء الرد عليه سريعاً من قبلان، المحسوب على رئيس المجلس النيابي والذي يدور في فلك “حزب الله”، مخاطباً واشنطن من خارج دائرة الحزب المعروفة، برسالة مشفّرة الى الاميركيين، تكاد تقول: “شو بدّك فيه بابتزاز جبران وعجزه… خَلّينا ناخد الدولة، ونحنا منسلّمها السلاح”.

وفي خلفية هذا التشفير، إفهام واشنطن انّ “اي عرض لا يوافق عليه الثنائي الشيعي، او بالحد الأدنى لا يمر عبر قنوات حارة حريك، مصيره الفشل. فكيف اذا كان مبنياً على قاعدة الابتزاز والمناقصة السياسيين المغشوشين، كما حال عرض باسيل”.

خطابا الرجلين قوبلا بتجاهل اميركي تام. فعلى خط الاول، واضح حتى الساعة انّ الاميركيين لا يثقون بباسيل. فهم يشتبهون ويتهمون، عن خطأ أو صواب، بأن جلّ ما يسعى اليه هو الرئاسة وتعزيز مكانته في السلطة.

وعلى خط الثاني، واضح ايضاً انّ الاميركيين الذين يمارسون سياسة الضغط القصوى في المنطقة بكل جيوبها الإيرانية كما يعتبرون، لن يسلّموا جيب لبنان منها، رسمياً لـ”حزب الله”، خصوصاً بالتزامن مع ما يرونه تراجعاً لمحور الملالي الى أقصى نقطة منذ اندلاع الصراع في المنطقة، ومع اعتقادهم بإمكان بناء نظام عربي جديد لم تتّضح ملامحه بعد.

على وَقع هذا التجاهل الاميركي المزدوج، تراجع الخطيبان، أو “خاطِبا ود واشنطن”، حتى عادا الى لقاء تفاهم كانت أولى ثماره: إعادة إحياء معمل سلعاتا من جديد.

بالطبع كلام المفتي قبلان لا يمكن فصله عن إشكالية الموقف الشيعي من اتفاق الطائف والإحساس بالغبن الذي ألحقه بالموقع الشيعي في النظام. غبن، يرى البعض أنه جرى التعويض عن قصور نصوصه في الزمن السوري بعضلات الوصاية. امّا في مرحلة ما بعد الانسحاب السوري وانتفاضة الـ 2005 فجرى التعويض عن هذا القصور بقوة السلاح.

وهنا يطرح الجميع التساؤل نفسه: هل يستشعر الثنائي قرب انتهاء دور السلاح، مع تزايد الحصار الاميركي على لبنان والمنطقة ومع تدهور الاوضاع المالية، التي تبدو مساعداتها حتى الساعة مشروطة بتنازلات سياسية مكلفة جداً ؟ ومن هذا المنطلق، هل يسعى الثنائي نفسه الى استباق التنازلات عبر دخول مشرّف الى كنف الدولة من موقع الاقوى؟

بالطبع انّ دون هذه الطروحات عقبات كثيرة، لكن ما هو ثابت في علم السياسة انّ الازمات الكبرى هي الفرصة الأنجع لإحداث التغييرات. ومن هنا خرجت كل هذه الطروحات الى العلن، خصوصاً انّه حتى الثنائي يستشعران خطر انقلاب السلاح عليهم في بيئتهم وفي الشارع اللبناني، بعدما بدأت بعض الحركات الشعبية، وإن كانت محدودة، تذهب اليوم حد الانتقال: “من الثورة على النظام الى الثورة على السلاح”.

بالرغم من كل ذلك، ما يجمع الاثنين، أي الخطاب الباسيلي والخطاب الشيعي اليوم، هو ليس فقط خط حمام واشنطن الزاجل، من وراء مايكروفونات المؤتمرات، إنما حلم قديم جديد وهو حلم استنساخ تجربة بشير الجميّل إنما كلّ على طريقته.

فباسيل المتهم من خصومه وبيئته، بفقدان كاريزما الحضور والقيادة، والذي يشوّه مناوئوه صورته بالقول انه يسعى للتشَبّه بتجربة بشير واستنساخ قيادته للمسيحيين في زمن الحرب الساخنة عبر قيادتهم في زمن الحرب الباردة، متّهم أيضاً من قبل هؤلاء بمحاولة استنساخ تجربة بشير، الذي انتقل من قائد المقاومة المسيحية الى رئيس الدولة الجامعة على حدود الـ 10452 كلم2، عبر تكريس نفسه الزعيم والمدافع الشَرس عن حقوق المسيحيين، للانتقال بعدها من منطلق الاقوى في طائفته الى سدة الرئاسة ودخول نادي الأوليغارشية المالية والسياسية، مع زعم خصومه دوماً، بأنّ اصطدام الشاب الطموح بنكسة تحوّل خطابه الطائفي الى وصمة عار في مسيرته، وسقوط رهانه على مفهوم “القوي” بكل أشكاله، بعدما نعى “حزب الله” زمن الاقوياء، دفعاه للانكفاء الى معركة الكانتون المسيحي خطاباً داخلياً يُحاكي فيه الشارع المسيحي بموازاة الخارج لعلّ سلته لا تخرج خائبة وفارغة.

امّا قبلان او ما يمثّل من فكر وخطاب للثنائية الشيعية، فهو ايضاً يوحي بحمله حلماً شيعيّاً باستنساخ تجربة بشير مع السلاح. فسلاح “المقاومة” الذي ضمّ الى الدولة بعد الحرب، وحمل معه رئيساً لهذا السلاح، إنما من باب الشرعية، يحلم الحزب بأن يترجمه بنسخته “الحزب اللهية”، عبر عبور سلاح المقاومة الى الدولة، ومع الامساك بالسلطة من رأس الهرم حتى قواعده. الّا انها حتى الساعة ايضاً تصطدم بمجتمع دولي رافض وبقوى داخلية رافضة، متمسّكة بصيغة الميثاق… وهو ما هوّل به قبلان: لا ميثاق… نحن الدولة…

في المحصّلة، الكل باحث عن أدوار، وعن هويات في شبه دولة اختلطت فيها الأيديولوجيات بالشخصانيات، وبالتبعيات والالغائيات، الّا انّ النتيجة انّ البحث الحزبي والفردي والجماعي مشروع إنما على قاعدة الصيغة القادرة على حمل وتَحمّل كل هذه المآرب، وإلّا فالانفجار القادم… قادم. – المدير العام السابق للاستثمار في وزارة الطاقة