IMLebanon

من الشتيمة إلى نزع السلاح… الذريعة المرجوة

كتب حسام عيتاني في صحيفة الشرق الأوسط:

أقرت الحكومة اللبنانية مساء الأربعاء في العاشر من يونيو (حزيران) جملة من التعيينات في مناصب رفيعة المستوى في الإدارة العامة وفي مصرف لبنان المركزي. جاءت التعيينات ضمن الأسلوب المعتاد لتقاسم الحصص الطائفية والحزبية بين مكونات الائتلاف الحاكم، حيث يغلب الولاء الكفاءة، وفق نهج راسخ لم تهزه أحداث انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ولا الانهيار الاقتصادي الذي دفع بنصف اللبنانيين تقريباً إلى البطالة، ووجّه ضربة قاصمة إلى مستوى المعيشة.

والحال أن القوى الممسكة بالسلطة التنفيذية تشعر بالأمان التام حيال تحركات الشارع. وتدرك أن لا المظاهرات ولا الفضائح التي تنشرها وسائل الإعلام حول ملفات استيراد المحروقات أو التلزيم المشبوه لبناء محطات توليد للكهرباء، ولا أي شكل من أشكال الاحتجاج والاعتراض السلميين، ستفضي إلى نتيجة. ولن تكبح جماح طغمة من السياسيين الذين بات الاعتداء على المال العام نهجاً لا محيد عنه حتى لو أدى إلى انهيار المفاوضات الهشة الجارية مع صندوق النقد الدولي. هذه المفاوضات التي اعتبرها بعض المراقبين بمثابة الفرصة الأخيرة لإضفاء قدر من العقلانية على أسلوب إدارة الدولة اللبنانية قبل اضمحلالها الكامل بفعل عوامل تتحمل المسؤولية الأكبر عنها الجماعة الحاكمة.

البحث عن مصدر اطمئنان ممثلي التحالف الحاكم إلى الحاضر والمستقبل ينتهي سريعاً عند التأمل في الكيفية التي قُمِعت بها مظاهرات يوم السبت في السادس من يونيو، قبل أربعة أيام من دفعة التعيينات المذكورة. وقد نزل المتظاهرون إلى ساحة الشهداء في وسط بيروت في محاولة لاستعادة زخم الاحتجاجات بعد تراجعها الكبير بفعل الحجر الصحي الذي فُرض جراء تفشي وباء «كوفيد – 19» (فيروس كورونا) في الوقت الذي لم يجر إحراز تقدم يذكر في علاج الملفات المعيشية والمالية والسياسية التي يعاني منها اللبنانيون. طرح بعض مجموعات المتظاهرين شعار نزع سلاح الحزب الذي يرون أنه يحول دون أداء الدولة مهماتها أو حتى تقدمها لوقف أوجه نزيف العملة الصعبة إلى سوريا عن طريق المعابر غير الشرعية وتهريب البضائع المدعومة مثل الوقود والطحين.

في واقع الأمر لم يحظ هذا الشعار بتوافق كل المجموعات، بل إن بعضها اعترض عليه ورفضه لما قد يثير من التباسات في ترتيب أولويات الاحتجاج التي قالوا إنها يجب أن تركز على المسألة المعيشية في المقام الأول. بيد أن مجرد نقاش الشعار كان كافياً لتشن وسائل الإعلام التابعة للحزب والناشطين الموالين له على منصات التواصل الاجتماعي حملة تهويل وتهديد ضد المتظاهرين الذين وصفوا بكل ما في قاموس موالي الحزب من صفات العمالة والخيانة والصهينة وما يعادلها. أرفق الحزب القول بالفعل ودفع بمئات من أنصاره للاعتداء على المتظاهرين السلميين فيما بات مشهداً معتاداً من رمي الحجارة وشتم الانتفاضة. وتكفلت القوى الأمنية الرسمية بتشتيت جمع المتظاهرين من خلال إطلاق الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي عليهم.

أما غير المعتاد في مواجهة السبت تلك فكان لجوء عدد من أتباع الحزب إلى شتم ما يعتبر رموزاً دينية في المذهب السنّي ومحاولة اقتحام منطقة عين الرمانة في ضاحية بيروت والتي يحمل اسمها تذكيراً فورياً بالحرب الأهلية بين 1970 و1990. وقد أعطى الاستفزازان نتائج سريعة. فقطعت الطرق في المناطق ذات الأكثرية السنية ووقع صدام مع سكان عين الرمانة وبدا لساعات قليلة أن البلد قابل للانفجار. وتوقفت الأمور هنا بعدما صدر أمر سحب «العناصر غير المنضبطة» ونشر بيانات التكاذب المعهودة المنددة بالفتنة.

كانت تلك جرعة مدروسة ومعدة مسبقاً من الحزب لإعلان حظره على استئناف التظاهر والاحتجاج على الأوضاع الكارثية. الذريعة وراء هذه الممارسة واضحة وجاهزة: هناك بعض «الخونة» الذين طالبوا بنزع سلاح «حزب الله». وتنضم هذه الذريعة إلى سابقة لها استخدمت لضرب المتظاهرين واقتلاع خيمهم وتهديدهم في الأشهر الأولى للانتفاضة، وهي «شتم المقامات» والمقصود بها قيادة الحزب وحركة «أمل». وهو ما لا تستطيع الذائقة الحساسة لجمهور المقاومة ابتلاعه.

غني عن البيان أن الذريعتين تفتقران إلى أي تجسد في الواقع. فالشتائم في أثناء المظاهرات كانت تطال أولاً بعض رموز الفساد والتسلط الممثلين في الحكومة السابقة. تماماً مثل أن الدعوة إلى نزع سلاح الحزب لم تكن هي المحرك وراء مظاهرات يوم السبت لاعتبارات يدركها المنظمون الحريصون على عدم الاصطدام في الشارع بغوغاء الحزب والحركة.

بيد أن الشتيمة التي قيلت بصوت خافت جداً والدعوة إلى تسليم السلاح التي لم تخرج من إطار التفكير بصوت عال، كانتا كافيتين لتحويل قوى التحالف الحاكم لهما إلى تهديد خطير للسلم الأهلي. واستجرت الكلمة التي قيلت في الهواء فعلا انعكس على وجوه المتظاهرين على شكل كدمات ورضات.

كانت هذه الكلمات بمثابة الذريعة المرجوة والمنشودة لإفهام المتظاهرين أن حراكهم مرفوض ولن يمر. وأن من يقرر مصير البلد ما زال مصراً على دفعه إلى الجوع والفشل. وهذا ما ظهر في التعيينات الإدارية الأخيرة.