IMLebanon

التدقيق الجنائي: مسرحية ولا كل مسرحيات شكسبير

كتب شادي هيلانة في صحيفة “نداء الوطن”:

أُقِّر التدقيق المالي والمحاسبي الجنائي في جلسة مجلس الوزراء في قصر بعبدا برئاسة الرئيس ميشال عون. رسا على شركة “Alvarez & Marsal” للتدقيق الجنائي، وشركتي “kpmg” و”oliver wayman” للتدقيق المحاسبي.

ما ان سمعنا الخبر البهيج حتى بدأت الأصوات المُفلسة لوزراء الحكومة تتعالى عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهُم يبحثون عن أي مُنجز يخرجهم من القنبلة التي استلموها وانفجرت بأيديهم عدة مرات.

هؤلاء لا يفقهون أن في فنون السياسة مسارا طويلا ودورات تدريبية مكثفة قبل أن تؤول الأمور اليهم ويصبحوا مدركين للشيء ومقتضاه، لا سيّما لزواريب السياسة اللبنانية.

لا عتب على حكومة دياب المستجدة، لأنها كما يُقال في العامية “عضمها رخو”، ولأنها لا تعي أكاذيب وألاعيب من هم مخضرمون في الدبلوماسية والسياسة ومتربصون بالحكم في لبنان منذ عقود.

تدقيق جنائي على من؟

بُتّت العملية وبدأ المشهد الأول من المسرحية، وكانت “البروفا” تدور بين حروف الزوايا لتعود الى السطر الأول عند كل اتهام وحجة. هي الغاية التي تبرّر الوسيلة عندما لا تلعب لصالحهم في المشهد التجريبي. عند كل تعثّر أو فشل، تُرمى الملامة مباشرةً على العدو التقليدي أي العدو الإسرائيلي، فيُضخّ كمّ هائل من صهاريج العزة والكرامة، ويبدأ الهجوم الممنهج عبر وسائل التواصل الإجتماعي بـ”كبسة زر”.

إنهم أتباع المنظومة الحزبية التي حكمت البلاد بالإكراه وألحقت، من حيث تدري أو لا تدري، أضراراً في نسيج الطوائف بكامل أطيافها، وجرّتها إلى مربعها الأمني المهيمن على كل مفاصل الدولة.

هذه القوى المهيمنة في المسرحية الوهمية احتلت الرئاسات الثلاث.

إن تحَفُّظ وزراء “أمل” و”حزب الله” يأتي في المشهد الثاني من المسرحية، فالمشكلة التي أنهكت العهد وأربكته هي التصاقه بالثنائي الشيعي القسري، والذي لا مجال لفصله عنه. أُحرج العهد القوي بمفعول الحزب القوي وحليفه القوي، الرئيس بري. لا يوجد انسجام ولا تفاهم ولا حتى تسويات تُذكر بين حليف الحليف بحسب “التيار الوطني الحر”، فالعلاقة بينهما تقتصر على زيارات ثنائية فقط تجمع الرئيس بري بالوزير جبران باسيل، وكلما كانا يجلسان ينظر باسيل بمرارة الى عيني الرئيس بري، ويعود بالذاكرة إلى الوراء ليستذكر ما حدث في جلسة انتخاب عمه العماد ميشال رئيساً للجمهورية. هذا هو المشهد الثالث الساخر في المسرحية. فالكيمياء بين الطرفين هي عصا السيد نصرالله وهيبته.

يعلم الرئيس عون وصهره أن محاسبة حاكم مصرف لبنان في التدقيق الجنائي، وبعد فشل محاولات إقالته، تكلف باهظاً. فالولايات المتحدة ودول الغرب تنظر بإمعان وتشاهد المسرحية بدقة، وتدقّق بالخلفيات المخفية في كل مشهد. لواشنطن أساليبها المُتاحة غير قانون قيصر والعقوبات على شخصيات سياسية لبنانية.

السؤال المُكلف جداً!

هل يقبل الشركاء والحلفاء من “التيار الوطني الحر” مروراً بحركة “امل” وصولاً الى “حزب الله” بتدقيق سليم وشفاف يتجاوز مصرف لبنان ليشمل وزارة الطاقة ومجلس الإنماء والإعمار؟ فالأولى رتبت ديناً بلغ 47 مليار دولار، فيما أنفق الثاني مليارات الدولارات من القروض الميسرة والهبات من دون أي تدقيق يُذكر.
صحيح أن العرقلة انتهت والتدقيق أخذ مساره الطبيعي، لكن يبقى السؤال من يمكنه أن يقوم بهذه المهمة وبأي ظروف موضوعية وإدارية وقانونية؟ فهل بإمكان المحاسبة الجنائية الإستدلال على الأموال المنهوبة؟

تلك السياسات والشخصيات هي التي هدرت ونهبت المال العام، والمشهدية الأخيرة تكمن بعرقلة أُخرى لانجازات العهد الذي كان دفع ثمن ارتباطه بمحور الممانعة والثنائي الشيعي، فكان العقاب مُدوّياً بغياب المساعدات والهبات من دول الخليج التي وقفت مراراً إلى جانب لبنان. إنجاز العهد والرئيس عون سيبقى، من دون ادنى شك، صورياً، لأن العقبات بلغت ذروتها وستزداد في الأيام المقبلة.

تلك الأوهام الخيالية، وكل بدعة واختراعات ليست في محلها إطلاقاً، ولم يكتب مثلها روائي أو حكواتي حتى في القصص البوليسية. تلك الأوهام التدقيقية لن تأتي بأموال الناس المحجوزة في المصارف ولا بالأموال المهربة والمنهوبة، ولن ترفع شأن الاقتصاد المتهاوي، ولن تبعد الناس عن حافة الفقر نحو قمم الازدهار ولن تُرجع الدولار إلى قمقم الألف وخمسمئة ليرة.

لنكن صريحين أمام الرأي العام الذي ما إن سمع الخبر حتّى رقص في العراء فرحاً. لن تكون هناك ملاحقة لمن اختلس وزَوّر وسرق. ستُختصر العملية برمتها بإعطاء جرعات إضافية للعهد من الوعود علّه يكمل سنواته المتبقية على قيد الحياة، وعلّ الشارع المنتفض ينكفئ أو يكتفي بمقولة “ها نحن نطبق القانون ونزجّ المرتكب في السجون”.

مقولة تختم المشهد الأخير من مسرحية ولا كل مسرحيات شكسبير “التدقيق الجنائي”.