IMLebanon

حكاية مواطن تختزل ترحال غالبية اللبنانيين إلى “جنّة” الفقر

كتب على زين الدين في “الشرق الاوسط”:

يروي سمير، الموظف في إحدى الشركات الخاصة في بيروت، والتي تعاني حالياً من تدهور كبير في حجم أعمالها جراء الأزمات الحادة التي تلاحق اللبنانيين، أفراداً ومؤسسات، أنه اشترى قبل عامين سيارته الخاصة من إحدى الوكالات الحصرية لماركة يابانية شهيرة، بدفعة أولى من مدخرات شخصية وبتمويل مصرفي للأقساط الموزعة على 5 سنوات، بما يصل إلى نحو 20 ألف دولار كانت توازي حينها نحو 30 مليون ليرة لبنانية.

جرت الأمور لاحقاً بصورة مُرضية ومن دون الإخلال بالتوازن المعيشي. فالسيارة الخاصة ضرورية جداً في بلد يفتقر إلى النقل العام. ووجودها يسهم في توفير نقل الأولاد الثلاثة إلى المدرسة والأب إلى عمله. بينما القسط الشهري الذي يزيد قليلاً على المليون ليرة وفقاً للسعر الرسمي للدولار البالغ 1520 ليرة، كان يوازي أقل من ربع الراتب الموطّن في البنك ذاته، وتتم العملية دونما عناء الصرف وبشكل تلقائي شهرياً.

«صحيح أننا لم نكن من الميسورين، لكننا كنا هانئين بعيشنا المعزز بقليل من الرفاهية في نهاية كل أسبوع وبتوزيع المدخول على المصاريف بشكل وافٍ ويقينا العوز أو الاقتراض». يتحسر سمير متابعاً: «المنزل موروث من الأهل، والتأمين الصحي متوفر عبر الشركة، والمدرسة الرسمية خيار مقبول لأمثالنا حيث تتكفل المساعدة الاجتماعية المضافة إلى الراتب بالمصاريف الأساسية والكتب والقرطاسية وسواها. شعورنا بالاستقرار حفّز تلبية حاجتنا الملحّة لاقتناء السيارة الخاصة، وفي حساباتنا الدقيقة أنها ستسهم بتوفير كلفة انتقال الأولاد إلى المدرسة، فنزيد ما أمكن من فرحهم بسياحة داخلية لم نحلم يوماً بتخطيها إلى العالم الكبير».

فجأة، هبّت العواصف. تغيرت أحوال البلد وانقلبت رأساً على عقب، مع اندلاع موجات الاحتجاجات الشعبية في خريف العام الماضي، وتدحرجت كرة نار الأزمات المالية والنقدية بقفزات خيالية وبوتيرة قياسية لم يشهدها لبنان طوال مئوية قيامه بحدوده الحالية. ثم بدأت الضربات تتوالى وتعنف لتنقل سمير وعائلته وعشرات الآلاف أمثالهم من الصفوف المعتدلة للطبقة المتوسطة التي يزيد دخلها اليومي على 100 دولار إلى الخانة الأقرب للفقراء بعدما هبط مدخول يومه عن 19 دولاراً (تم احتساب الدولار بمتوسط 8 آلاف ليرة) وتدنى دون 15 دولاراً يومياً بعد حسم قسط السيارة.

مع ذلك، كان الصمود ممكناً حتى إشعار آخر. مدخرات محدودة من مصاريف السنوات السمان استحق صرفها علّها تفي بتقطيع وقت في الأشهر العجاف، وتستقر بعدها أحوال الناس والبلاد. لم يصب حلم ليلة الصيف الحار واقع الحال. بل صار الوضع السابق ذكرى لآخر الأيام «الجميلة» لهذا المواطن الذي تختصر حكايته أوجاع مئات آلاف الموظفين في القطاع الخاص بشكل فاقع، وبدرجة أقل نسبياً في القطاع العام.

فمع تواصل تفاقم الأوضاع المالية والنقدية، ومصادفة خضوع اقتصادات العالم أجمع للضغوط الشديدة التي ولّدها وباء «كورونا»، توالى سريعاً فرز العاملين في الشركات ومؤسسات الأعمال الخاصة إلى خانتي البطالة و-أو حسم من الراتب بمتوسط يصل إلى 50% وإيقاف عقود التأمين عند استحقاق العقد السنوي والاكتفاء بتقديمات صندوق الضمان الاجتماعي الذي يغطي الحد الأدنى من التغطية الصحية، بينما تذوب في صناديقه قيم تعويضات نهاية الخدمة بالليرة، والتي تستحق بمعدل شهر واحد لكل سنة بعد مضيّ 20 عاماً في العمل.

التدبير الطارئ شبه جماعي من غير اتفاق مسبق بحق أغلب العاملين في القطاع الخاص والذين تقارب أعدادهم 800 ألف بين موظفين دائمين ومياومين في أغلب ميادين العمل والإنتاج. القطاعات كافة، بما فيها الأساسية كالتجارة والسياحة بكل مرافقها، والخدمات والسيارات والإعلام وسواها، تتساقط تباعاً تحت الضغوط المتولدة من أزمتي النقد والوباء. الانهيار دراماتيكي للعملة الوطنية ومتواصل بلا تحديد للقعر، والصعود متفلت للدولار بلا سقف، بعدما تعدى ما يماثل ستة أضعاف السعر الرسمي المعتمد في بلد تسيطر فيه العملة الصعبة على 80% من اقتصاده.

كان سمير «محظوظاً» في انضمامه إلى لوائح العاملين بنصف راتب. إنما المصائب لم تأتهِ فرادى. انكمش المدخول اليومي إلى أقل من 10 دولارات، وبصدفة مرتقبة تبلّغ من البنك أن بدل التأمين الإلزامي على السيارة أصبح بالدولار حصراً وليستعد لتدبير مشابه قد يسري لاحقاً على القسط، الذي صار يستهلك تلقائياً نحو 45% من الراتب الشهري المحسوم نصفه سلفاً. وحكم وباء «كورونا» باللوذ بالمنازل واستكمال العمل والعام الدراسي عن بُعد، بما يفرضه ذلك من ضرورات زيادة مصاريف الكهرباء والإنترنت وسواها. الحسبة بسيطة. يقتضي العيش بنحو 5 دولارات أو 40 ألف ليرة يومياً، أو ما يوازي دولاراً واحداً لكل فرد من العائلة التي كانت لأشهر خلت من فئة «متوسطي الحال».

بمعزل عن الإحصاءات الرسمية التي رصدت ارتفاع أسعار الغذاء الأساسية بما يصل إلى 190% خلال الأشهر القليلة الماضية ضمن مسار تصاعدي يطابق تدهور قيمة العملة الوطنية بالنسبة للسلع المستوردة ويتفشى إلى السلع المحلية بذرائع مختلفة، يتكبد المواطن اللبناني فواتير مزدوجة أو مثلثة تستنزف المداخيل في أغلب الخدمات الحيوية كالكهرباء والمياه والاتصالات (خدمة الخطوط الخليوية المسبقة الدفع محددة بشهر واحد مهما كانت قيمة الرصيد المتبقية). وما من سبيل للاستغناء عن هذه الخدمات «المضافة» ما دامت الدولة تفشل في تأمينها، بل هي تمعن في تقطيرها إلى حدود الانقطاع التام. ففي الأيام الأخيرة، سيطرت العتمة على لبنان من أقصاه إلى أقصاه بما شمل العاصمة، وتمددت المعاناة سريعاً إلى خدمات المياه والاتصالات الهاتفية والإنترنت وإشارات السير الضوئية، واستعادت الشوارع مشاهد أكوام النفايات.

نصف الحقيقة التي يصدقها اللبنانيون اختصرها أستاذ الاقتصاد في جامعة جونز هوبكنز ستيف إتش هانكي، في تقرير نشرته صحيفة «الإندبندنت» البريطانية، وفيه أن معدل التضخم في لبنان يزيد على 500% على أساس سنوي، و124% على أساس شهري خلال شهر يونيو (حزيران) الماضي وحده. وتوقعه أن يحقق لبنان رقماً غير مسبوق في معدلات التضخم بدول الشرق الأوسط، حيث إن البلاد على بُعد أسابيع فقط من التضخم المفرط الرسمي، لتصبح أول دولة في الشرق الأوسط تتعرض للتضخم المفرط، والدولة الحادية والستين على مستوى العالم، ومحذراً من أن «لبنان في دوامة الموت» واقترب من وضعية تشابه فنزويلا.

أما النصف الآخر فهو مروع في مضمونه وتداعياته. فكيف ستكون أحوال الناس والاقتصاد إذا ما صدقت ترقبات «بنك أوف أميركا»، في تقريره الأخير، بأن يلامس الدولار الأميركي عتبة 46.5 ألف ليرة نهاية العام الجاري، أو ما يوازي نحو 31 ضعف السعر الرسمي الحالي ونحو 6 أضعاف متوسط السعر السائد في السوق السوداء؟ حينها سيصبح الحد الأدنى للأجور نحو 15 دولاراً شهرياً أو نصف دولار يومياً. غرابة الرقم لا تقلل من ارتكاز البنك إلى وقائع موضوعية يستمدها من خطة الحكومة للتعافي الاقتصادي التي حددت الفجوة المالية المحققة بنحو 241 تريليون ليرة، ومن مؤشرات علمية تتقدمها مواصلة عمليات طباعة النقود الوطنية وبكثافة من دون أي تغطية مقابلة أو وافية بالعملة الأجنبية، حيث تشير الأرقام الصادرة عن البنك المركزي إلى أن المعروض النقدي والذي يشمل الودائع تحت الطلب بالإضافة إلى الكتلة النقدية المتداولة بالليرة قد بلغ نحو 25 تريليون ليرة لبنانية لغاية نهاية الشهر الخامس من العام الحالي.

مع هذه المعطيات التي قضت تماماً على الطبقة الوسطى، وستتكفل سريعاً بضم ما يزيد على 70% من المواطنين إلى خانة الفقر والفقر المدقع، استبشر بعض الناس، وبينهم سمير، بإعادة فتح الملاحة الجوية، قائلاً: «ستحصون تباعاً أعداد المغادرين طوعاً وكرهاً، فالوطن يكون حيث تتأمن سبل الحياة والعيش بكرامة ولا خيار متاح سوى الهجرة أو البحث عن فرصة عمل في بلاد الله الواسعة».