IMLebanon

«كورونا» في لبنان هل يكون… «سيناريو النكبة»؟

 

وكأن لبنان المفجوع لا يكفيه ما يعيشه من نكبات ليأتي تفشي فيروس «كورونا» على نطاقٍ كارثي ليعمّق من متاعب البلد الصغير الذي يتلقّى الضربةً تلو الأخرى.

الحكومة المستقيلة وأجهزة الدولة استنفرتْ لفرض الإقفال العام ابتداءً من، اليوم الجمعة، ولمدة أسبوعين علّها بذلك تتمكّن من تجنّب الوصول الى أسوأ السيناريوات وتحويل البلد بأكمله مستشفى كبيراً فيما القطاع الصحي عالق أساساً «بين ناريْ» الأزمة المالية واستنزافه الكبير بفعل «التفجير الهيروشيمي» في 4 اغسطس.

قد لا يكون وضع لبنان مع الفيروس مأسوياً، لكن مشاكل «بلاد الأرز» الكثيرة تجعل وطأته مضاعَفة على الصحة والاقتصاد وعلى أعصاب المواطنين ونفسيتهم. مع البروفسور عبد الرحمن البرزي النائب السابق وعضو اللجنة الوطنية للأمراض المُعْدية نتعرّف الى حقيقة الانتشار المتفلّت لـ «كورونا» في لبنان والتداعيات الكارثية لهذا الأمر على البلد المنكوب أصلاً.

بعدما هلّل اللبنانيون باكراً لـ «الانتصار» على «كورونا» وضَبَطوا لعدة أشهر عدد الإصابات والوفيات نتيجة إقفال البلد والتزام المواطنين التام بالتوصيات الصحية، عاد الوضع ابتداءً من شهر يوليو ليشهد تفلتاً غير مسبوق وتصاعداً كبيراً في عدد الإصابات التي باتت تناهز 600 يومياً أو أكثر. وجاء ذلك بحسب د. البزري نتيجة إعادة فتح المطار والسماح للمسافرين والسياح بدخول لبنان من دون تشديد قواعد الالتزام بإجراءات الوقاية المفروضة عليهم، ما سبّب اختلاطاً واسعاً بين المقيمين والوافدين المُصابين وأدى الى تَزايُدٍ كبيرٍ في الإصابات بين المُخالطين ليتحوّل الأمر بسرعة «كرةَ ثلجٍ» جرفتْ أعداداً كبيرة من المواطنين في طريقها. وساهمت أيضاً عودة اللبنانيين الى الحياة الطبيعية في المزيد من الاختلاط دون الالتزام بوسائل الحماية والوقاية الفردية، وأضيف الى ذلك فشل وزارات الدولة مثل الداخلية والسياحة والاقتصاد في تطبيق إجراءات الأمان. وفي لبنان، الحياة الطبيعية تعني أيضاً المشاركة في التظاهر والنزول الى الشوارع وتكرار الوقفات الاعتراضية أي المزيد والمزيد من المخالطة والتعرّض لخطر الإصابة بالعدوى، الى أن جاء الانفجارُ الكبير في مرفأ بيروت ليجعل الأمورَ تَخْرُجُ تماماً عن السيطرة.
ووفق الدكتور بزري «الأولويات بعد الانفجار اختلفت وبات إنقاذ الجرحى والمُصابين ومساعدة المنكوبين سواء من الناس لبعضهم البعض أو من الأطباء والممرضين هو الأولوية المطلقة وصار الاختلاط مبرَّراً. من جهة أخرى أصيبت مستشفيات كبرى تعالج مرضىكوروناوباتت خارج الخدمة مثل «الروم»و «الجعتاوي» و تَبَعْثَرَ هؤلاء المرضى في غيرها من المستشفيات والأماكن، فيما تضرّرت المستشفيات الأخرى بنسب متفاوتة، وخفّت نتيجة ذلك كما بفعل تَدَفُّقِ المُصابين إليها قدراتُها على استيعاب مرضىكورونا. وثمة عامِلٌ جديد طرأ في القطاع الصحي وهو تعرُّض الكثير من العاملين فيه، من خارج الإطار الطبي أو التمريضي، للإصابة بالفيروس، وقد وصل عدد الإصابات الى نحو 500 بين العاملين المُساعِدين وذلك بسبب عدم توافر معدات الوقاية من ألبسة وأقنعة وقفازات نتيجة وجود كميات كبيرة منها في المرفأ ولم يكن قد تم إخراجُها. وهؤلاء عادة يتنقّلون بين غرف المرضى بحرية ما أدى الى ازدياد عدد المُصابين في المستشفيات. من هنا جاء النقاش حول ضرورة إقفال البلد من عدمه، وانقسمت الآراء بين مَن لا يوافق على تعطيل الحركة الاقتصادية المتعثّرة أصلاً وبين مَن يقول بوجوب تخفيف الضغط عن القطاع الصحي ليتمكن من لملمة نفسه وتقوية نقاط الضعف فيه وإعادة تنظيم قدراته لاستيعاب مرضى كورونا».

احموا كبار السن
لكن هل يكفي الإقفال ونية الناس الصادقة بالالتزام بإرشادات الوقاية في الحدّ من انتشار «كوفيد -19» في لبنان؟ وماذا عن عدد الوفيات المتصاعد وعلى الأخص ماذا عن انخفاض نسبة المتعافين؟ ألا يعتبران مؤشراً لبلوغ الخط الأحمر؟

يجيب الدكتور البزري المتخصص بالأمراض المعدية: «الالتزام بالكمامة وغسْل اليدين والتباعُد الاجتماعي من المواطنين، مع مواكبة أجهزة الدولة لمراقبة التزامهم هي السبل الأكيدة للانتصار على الفيروس. أما القول بتزايد نسبة الوفيات فهو أمر غير دقيق إذ إن النسبة لم تتخط 1.3 في المئة وهي من أفضل النسب في العالم ومقبولة جداً مقارنة بأوروبا وأميركا الشمالية. فلبنان لم يشهد إلا عدد وفيات قليل جداً جداً بين الشباب، فيما قاربت النسبة 25 بالمئة بين من تجاوزوا 80 عاماً بينما هي 40 بالمئة في الدول الأخرى. إذاً لبنان غير معرض للوفيات أكثر من سواه لكنه معرّض لتزايد عدد الإصابات نتيجة العوامل المربكة المذكورة سابقاً».

ويضيف: «أما بالنسبة الى عدد الشفاءات المنخفض فهو أمر لا يُعوَّل عليه، إذ ان لبنان لم يعد يلتزم بالتوصيات العالمية لإجراء فحصيْ PCR للمتعافين بعد شفائهم تكون نتيجتهما سلبية للتأكد من خلوهم من الفيروس وعدّهم ضمن المتعافين. فنحن وحرصاً منا على عدم وضع المزيد من الضغوط على المستشفيات والمختبرات بتنا نكتفي بفحص PCR واحد تكون نتيجته سلبية بدل اثنين لذلك توقف عدّ المتعافين لكن في الحقيقة نسبتهم عالية».

ونسأل الدكتور البزري: ألا يخشى أن يتعرض لبنان للسيناريو الإيطالي بعد تَزايُد أعداد المصابين وعدم قدرة المستشفيات على الاستيعاب؟

«وضع لبنان مختلف عن إيطاليا» يقول «فلكل دولة خصوصيتها، بل أن وضع لبنان كان ممتازاً قبل فتْح المطار لكن حاجة اللبنانيين إلى عودة السياح و المغتربين والعودة السريعة إلى أعمالهم ساهمتْ في تَدَهْوُرِ الوضع، في حين أن الدول الغنية عملتْ على إيجاد تعويضات للمتضرّرين اقتصادياً من التوقف عن العمل. ما يزيد الطين بلّة في لبنان ليس الفيروس في ذاته بل الظروف السيئة المُرافِقة له على الصعد الاقتصادية، الأمنية والصحية. من هنا على المجتمع مسؤولية حماية نفسه ليخفف الضغط عن المستشفيات في الوقت الحالي وليحمي اقتصادَه، لأن أي شبهة بـ»كورونا«تعرّض صاحبها والمؤسسة التي يعمل فيها لأضرار معنوية ومادية تسبّب له خسائر كبيرة. وعلى المجتمع مسؤولية حماية كبار السن من العدوى، لأنه رغم كون المجتمع اللبناني فتياً فإن كبار السنّ يعيشون وسطنا، ففي كل بيت تتعايش أجيالٌ عدة، ومن هنا فإن إصابة الشباب حتى في حال كانت من دون أعراض يمكن أن تسبّب العدوى لكبار السن وتسبّب لهم مضاعفات، من هنا ضرورة تنبّه الشباب إلى حماية أنفسهم لحماية أهلهم وكبارهم».

المجتمع الفتي قادرب على محاربة الفيروس
في المقابل، ناقشت «الراي» الدكتور سليم اديب الاختصاصي في الوبائيات، أستاذ الصحة المجتمعية في الجامعة الأميركية، الذي يغرّد وحيداً خارج السرب عن رأيه في تَزايُد أعداد «كورونا» في لبنان.
يؤكد اختصاصي الوبائيات ان جائحة «كورونا» تَتَمظْهر في كل بلد بشكل مختلف وفق معطياته المحلية «وفي لبنان نحن مجتمع فتي وصاحب مناعة قوية ونسبة المسنّين فيه منخفضة نسبياً وهم في بيوتهم وليسوا في دور عجزة. ولذا استطعنا السيطرة على المرض بدايةً، إلا ان معاودة فتْح المطار استوردت حالات جديدة أدت الى انتشار أوسع للفيروس».
لكن الدكتور اديب ما زال مقتنعاً أنه «رغم تزايُد الحالات فإن طبيعة الناس قوية، وكذلك مناعتهم ما سيحدّ من انتشار كورونا. وقد تبين أن الفيروس الآتي مع الوافدين بحسب الاحصاءات ينتقل إلى ست أشخاص كحد أقصى وهؤلاء لا يُعْدون غيرهم أي ليس في لبنان عدوى مجتمعية. كورونا يتصرف مثل كل الفيروسات أي أن 47 بالمئة من حامليه لا أعراض مطلقاً لديهم، فيما 47 بالمئة أعراضهم خفيفة وتزول بتناول الباراسيتامول والشاي، والباقون يحتاجون الى علاجات. الفيروس عندنا أصبح مدجَّناً وخفّت قدرته القوية على الإمراض، بينما في البلدان ذات المناعة المنخفضة ونسبة المسنّين العالية لا يزال تأثيره قوياً. الحالات الحَرِجة في لبنان ليست على ازدياد نسبياً بل إنها تنخفض، ولكن ما يُقْلِق هو أنه كلما ازدادت أعداد المصابين ارتفعت معها أعداد الذين يحتاجون الى دخول المستشفى. فإذا اعتبرنا مثلاً أن 8 بالمئة من ألف شخص مصابين يحتاجون دخول المستشفى يكون العدد 80 حالة. أما إذا اعتبرنا أن 3 بالمئة فقط من أصل 100000 مصاب يحتاجون الى علاج استشفائي فهذا يجعل العدد 300 حالة. صحيح ان الأعداد لا تُطَمْئن ولكنني أصر على القول ان دينامية المرض مستوردة وليست من لبنان. وهذا التزايد في أعداد المرضى في المستشفيات لا يعني ان الفيروس ينتشر بشكل أقوى بل ان الناس لا ينتبهون على المسنّين بل يعرّضونهم للخطر. فيصطحبون كبار السنّ إلى الأعراس او حتى المآتم أو يعرّضونهم للعدوى حتى وهم في بيوتهم من الأولاد والأحفاد، في حين أن هؤلاء يجب أن تكون حمايتهم هي الأولوية المطلقة للتخفيف من خطر دخولهم المستشفيات ووضع المزيد من الضغوط على هذه الأخيرة».

حامل الفيروس ليس مريضاً
تسأل «الراي» الدكتور اديب عما يشاع عن تطوّر الفيروس وإمكان أن يصبح اكثر شراسة ويقتل حتى الشباب ومَن هم دون الخمسين عاماً؟ فيجيب بأن «هذا الفيروس كائن حيّ لا يبقى شبيهاً بنفسه. بداية لم نكن نعرف كيف يتصرف ولذا كانت كل نتيجة إيجابية لفحص PCR تُعتبر حالة ولكن اليوم أدْركنا أن حامل الفيروس ليس كالمريض بالفيروس، وثمة حالات شفاء كثيرة لم تحتج لأي علاج. أما ما يشاع عن قتْل الفيروس لشباب تحت تحت الخمسين او تحت الثلاثين فهو أمر غير دقيق لأنها حالات معزولة ونسبتها قليلة جداً ولا يمكن البناء عليها للقول إن الفيروس أصبح أكثر فتْكاً. بل ربما يجب التنبه أكثر الى ما يحمله هؤلاء المتوفون الشباب من أمراض ربما ساهمت مع تداعيات الفيروس بوفاتهم».

ثمة أمر يؤكد عليه الدكتور أديب و هو أن الأعداد التراكمية التي تُنشر تتضمّن أمراً غير علمي إذ أنها تعتبر أن كل مَن أصيب بالفيروس لا يزال يحمله بينما يجب أن تُحذف من الأعداد كل حالات الشفاء ليتبيّن العدد الصحيح لحاملي الفيروس ومن ثم للمرضى منهم.
يبدو حديث الاختصاصي في الوبائيات مُطَمْئناً بعض الشيء في ظل التخوف الكبير من أطباء الأمراض المُعْدية. هنا يشرح الاختصاصي قائلاً إن هؤلاء الأطباء «على تماس يومي مع الحالات الحرجة من المرضى، يعرفون معاناتهم ويودّون تجنيب المزيد من الناس هذه المعاناة. لكن هؤلاء المرضى ما هم إلا القسم الظاهر من جبل الجليد، أما المجتمع ككل فهو هذا الجبل الخفي ويجب النظر إليه لمعرفة تطور المرض فيه. ويمكن القول إن ثمة منظورين مختلفين، واحد للاطباء الذين يتعاملون مباشرة مع المرضى ويشعرون بالخوف نتيجة ذلك، وواحد لأطباء الصحة المجتمعية والوبائيات الذي يدرسون تطوّر الوباء في المجتمع ككل. والهدف في النهاية يبقى حماية المجتمع وبعدها معالجة المرضى. ولا يمكن تعميم حالات بعض المرضى على المجتمع ككل. الهدف اليوم الحدّ من انتشار الوباء وتأمين الحماية القصوى للمسنين».

ويُنْهي الدكتور أديب كلامه بالقول «إن المجتمعات العربية مثل الكويت والإمارات وسلطنة عُمان وقطر هي مجتمعات فتية وستوقف مناعةُ الشعب الفتي فيها انتشار المرض إذا تمكّنت الحكومات من وقْف انتشاره بين الوافدين وفي أوساط العاملين الأجانب الذين يعانون وضعاً صحياً ومناعياً ضعيفاً».

ختاماً هل يمكن أن يأمل لبنان ببصيص نور صحي مع الإقفال الذي اعتمده أم يبقى التفلت القائم منذراً بالوصل الى سيناريو كارثي؟ وحدها الأيام المقبلة كفيلة بالإجابة على أمل أن يتفوق الرأي الإيجابي على المَخاوف المشروعة.