IMLebanon

لبنان يطرق باب جهنّم بعد “تفجير” المبادرة الفرنسية بـ”عبواتٍ” إقليمية

كتب وسام أبو حرفوش وليندا عازار في “الراي الكويتية”:

اعتذار الرئيس المكلف عن تشكيل الحكومة الجديدة في لبنان مصطفى أديب قلب الطاولة بوجه مُعَرْقلي مسار التأليف الذي كانت باريس «عرّابته»، ابتداءً من تسمية أديب، مروراً بتحديد «بروفايل» حكومة «المستقلين، الاختصاصيين، الذين لا ولاءات حزبية لهم والتي تحظى بقبول القوى السياسية»، وصولاً إلى تشكيل الرئيس إيمانويل ماكرون «مفرزةً ديبلوماسيةً» خاصة تابعت على مدار الساعة عملية التشكيل في ما كان سيّد الاليزيه «على السمّاعة» كلما دعت الحاجة مع الداخل كما مع عواصم إقليمية ودولية معنية بالواقع اللبناني.

… «حمى الله لبنان واللبنانيين» عبارةٌ على طريقة ما قلّ ودلّ ذَيَّلَتْ بياناتٍ عدة صدرتْ في بيروت في أعقاب «قنبلة الاعتذار» وبينها الذي تلاه أديب نفسه بعد زيارته الرئيس ميشال عون مفنّداً حيثيات خطوته، كما زعيم «تيار المستقبل» الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري، بما عَكَسَ أن «بلاد الأرز» دَخَلَتْ في واحدةٍ من أكثر المنعطفات خطورةً التي تتشابك فيها أزماتٌ، قد يكون أوّلها أزمة حكومة وآخِرها أزمةُ نظام، وبينهما «بركان» مالي – اقتصادي – معيشي يُنْذِر بحِمَمٍ تتطاير في كل اتجاه ولاحت مؤشراتها سريعاً مع قفز سعر صرف الدولار في السوق السوداء أمس لما فوق 8300 ليرة وسط تحركات غاضبة في الشارع رفْضاً «لأي حكومات محاصصة».

لم يكد أديب أن يعلن اعتذاره بعد 25 يوماً على تكليفه تشكيل «حكومة المهمة المستحيلة» (الإصلاحية) التي كانت ولادتها تتطّلب نجاح «كاسحة الألغام» الفرنسية في شقّ ممرّ آمِن لها بين «خطوط النار» الإقليمية، حتى كان السؤال الذي لا صوت يعلو صوته في طول البلاد وعرْضها «ماذا بعد»؟ هل «ماتت» المبادرة الماكرونية أم أن «جولة من المعركة» انتهتْ؟ هل مِن «خطة ب» للرئيس الفرنسي تسمح باختراق الجدار السميك الإقليمي، الذي جَعَلَ باريس «تتجرّع السم» في لبنان وهي في طريقها بين «حقول الألغام» للعودة إلى المنطقة وشرق المتوسط من بوابة حقول الغاز وألغاز صراع النفوذ حولها.

وعلى المسرح اللبناني، كان المعنيون بـ«الطبخة الحكومية» التي احترقت يلْهون بتقاذُف الاتهامات حول المسؤول عن زرْع «العبوة» التي أغرقت المبادرة الفرنسية، فيما الـ«تايتنيك» اللبنانية تَمضي في الغرق نحو القعْر السحيق الذي يُخشى أن سرعة بلوغه ستصبح مضاعَفةً بعد الكمائن التي أطاحت بمهمة ماكرون التي وإن تفادت باريس إعلان وفاتها وجدّد أطراف الداخل التمسك بها، إلا أن «هيكلها» هُشِّم لدرجةٍ لم يَعُد ممكناً تَصَوُّر قابليّتها للحياة بنسختها الأصلية «التي دُفنت» كما بالنسخة المُروَّضة التي لن يُكتب لها «فرصة نجاح» بعد الآن من خارج تفاهمات إقليمية – دولية تنتظر استحقاقاتٍ مفصلية وتحديد اتجاهات الريح في أكثر من «عاصفة» بالمنطقة.

وفي هذا الإطار، اعتبرت أوساط واسعة الاطلاع أن ما حصل هو فشلٌ لباريس التي بينما كانت تسعى إلى السير في «ممر الفيلة» وتحديداً على حافة المواجهة الأميركية – الإيرانية وبين مطبّاتها المُسنَّنة، سرعان ما استدرجت «شياطين» أخرى كمنتْ لها على «مفترق جهنّم» اللبناني حيث إن لعبة التناقضات والمصالح المتعددة الطرف جعلتْ الإيراني يسدّد ضربةً لماكرون في بيروت يصعب فصْلها عن مسألتين:

* الأولى رفْض طهران تقديم أي تنازُل في الساحة اللبنانية لـ«وكيل» هو الفرنسي قبل شهر ونيف من الانتخابات الأميركية التي سُتظَهّر مَن سيكون «الأصيل» الذي سيتعيّن عليها التعامل معه، وسط انطباعٍ بأن واشنطن التي منحتْ باريس Laissez-passer إلى الواقع اللبناني مع ضوابط تتصل بحزب الله، بدت كمَن يتعاطى مع مبادرة ماكرون على أن نجاحها الإصلاحي الذي يُكْمِل مسار الإطباق على الحزب سيصبّ في رصيد الولايات المتحدة وفرنسا معاً، في حين أن الفشل سيكون من جيب باريس لوحدها، وهو ما لا تمانع فيه خصوصاً في ضوء الافتراق الأميركي – الأوروبي حول تمديد حظْر الأسلحة على إيران.

* الثانية مقتضيات التَقارُب الإيراني – التركي التي تجعل أي تنازُل من طهران لفرنسا في لبنان يهزّ هذا المسار المتعدّد الوجه، خصوصاً على وقع المنازلة على خط أنقرة وباريس فوق رقعة شرق المتوسط وصولاً إلى الملف اللبناني الذي شكّل خلال الأسابيع الماضية عنوان مساجلةٍ بمكبرات الصوت بينهما، وسط توقُّف كثيرين عند ما نُقل قبل أيام قليلة عن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف خلال زيارته لموسكو لجهة «ماذا يفعل ماكرون في لبنان؟».

وفي حين كانت باريس تُطِلق إشاراتٍ عبر تقارير نقلت عن الاليزيه أن المبادرة ستستمر بجولة جديدة، وصولاً لموقف مدوّ وغاضب عبّر عنه ما نقلتْه «وكالة رويترز» عن مصدر قريب من ماكرون من أن اعتذار أديب عن تشكيل الحكومة يعني أن الأحزاب السياسية ارتكبت«خيانة جماعية»و«فرنسا لن تخذل لبنان»، لم يقلّ دلالة «تقريع» المنسّق الخاص للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيتش السياسيين اللبنانيين منتقداً «هذه الدرجة من قلّة المسؤولية، حين يكون مصير لبنان وشعبه على المحك»، سائلاً «هل فوّتم فعلاً الفرصة الفريدة التي أوجدتها فرنسا؟ متى ستوقفون هذه الألاعيب المعتادة؟».

 

ورغم ما بدا إصراراً من باريس على التعاطي مع اعتذار الرئيس المكلف على أنه انتكاسة لا تقتل مبادرتها، فإن أسئلةً لم تتأخّر في الظهور لبنانياً حول إمكان نجاح أي جولة جديدة من المسعى الفرنسي ما لم تتبدّل الظروف الإقليمية «وإلا لكانت نجحت مع أديب»، طارحةً علامات استفهام بإزاء ما إذا كان تكليف شخصية جديدة تأليف الحكومة بات حُكْماً مربوطاً بتفاهم مُسْبَقٍ حول الشروط التي أجهضت مهمة أديب خصوصاً إصرار الثنائي الشيعي «حزب الله» – رئيس البرلمان نبيه بري على كسْر مبدأ المداورة في الحقائب (الذي التزم به أديب) عبر التمسك بوزارة المال وبأن يسمي وزراءه الثلاثة، وأيضاً إذا كانت مبادرة الحريري التي سلّم فيها باحتفاظ هذا الثنائي بالمالية ولكن على أن يتولى الرئيس المكلف اختيار الوزراء الشيعة ستبقى صالحة بعد مرحلة الاعتذار، وتالياً هل ستنطلق هذه المرحلة من حيث انتهت مهمة أديب؟

وحملت مجموعة المواقف التي صدرت بعيد الاعتذار «المعلَّل» إشاراتٍ واضحة إلى مكامن التعقيدات «ذات المفعول الرجعي» أو التي تشي بمزيد من الصعوبات وأبرزها:

* بيان الاعتذار الذي تلاه أديب في القصر الجمهوري والذي اعتُبر بمثابة «نقطة الانطلاق» لأي رئيس مكلف ولا سيما أن مرتكزاته تحمل «بصمة توافقية» لرؤساء الحكومة السابقين.

فأديب ذكّر بأنه قبِل بتكليفه «على أساس أنّني لن أتخطى مهلة الأسبوعين لتشكيل حكومة إنقاذ مصغّرة، ذات مهمة إصلاحية محددة، قوامها اختصاصيّون وليس من بينهم أصحاب انتماءات حزبية أو مَن تسمّيهم الأحزاب. وكان تفاؤلي كبيراً لمعرفتي أن هذه المواصفات كلها وافقت عليها الكتل الرئيسية والتزمت بها أمام الرئيس الفرنسي (…) ومع وصول الجهود لتشكيل الحكومة إلى مراحله الأخيرة، تبيّن لي أنّ هذا التوافق لم يعد قائماً».

* إعلان الرئيس سعد الحريري «أن اللبنانيين يضعون اعتذار الرئيس المكلف في خانة المعرقلين الذين لم تعد هناك حاجة لتسميتهم وقد كشفوا عن أنفسهم في الداخل والخارج. ونقول إلى أولئك الذين يصفقون اليوم لسقوط مبادرة ماكرون، إنكم ستعضون أصابعكم ندماً لخسارة صديق من أنبل الأصدقاء ولهدر فرصة استثنائية سيكون من الصعب أن تتكرر لوقف الانهيار»، معتبراً أن «مبادرة ماكرون لم تسقط، لأن الذي سقط هو النهج الذي يقود لبنان واللبنانيين إلى الخراب، ولن تنفع بعد ذلك أساليب تقاذُف الاتهامات ورمي المسؤولية على الآخَرين ووضع مكوّن رئيسي لبناني في مواجهة كل المكونات الأخرى».

وأضاف:«كان لنا شرف التنازل من أجل لبنان وفتح ثغرة في الجدار المسدود، غير أن الإصرار على إبقاء لبنان رهينة أجندات خارجية بات أمراً يفوق طاقتنا على تدوير الزوايا وتقديم التضحيات».

* تأكيد الرئيس بري «أن لا أحد متمسك بالمبادرة الفرنسية بقدر تمسكنا بها ولكن هناك مَن أغرقها، فيما يخالف كل الأصول المتبعة. المبادرة الفرنسية روحها وجوهرُها الإصلاحات، والمجلس النيابي أكثر المتحفزين لإقرار ما يجب، ونحن على موقفنا بالتمسك بالمبادرة الفرنسية وفقاً لمضمونها».

* إشارة بارزة أطلقها «التيار الوطني الحر» (حزب الرئيس عون) وبدت بمثابة مؤشر للمسار الذي سيعتمده رئيس الجمهورية الذي قبِل اعتذار أديب، وشدّد على «أن المبادرة الفرنسية لا تزال مستمرة وتلقى مني كل الدعم وفق الأسس التي أعلنها ماكرون».

ذلك أن التيار طالب بتفاهم مسبق مع الرئيس المنوي تكليفه حول الحكومة وصيغتها وحجمها في ما بدا إشارة إلى تمسك فريق عون بحكومة من 20 أو 24 وزيراً وليس من 14 كما أصر أديب، داعياً «لحكومة تتشكل بالتفاهم مع الكتل النيابية وألاّ يكون هؤلاء الوزراء سياسيين ملتزمين بل اختصاصيون قادرون»، وقاطعاً الطريق على «لوائح الأسماء» (سواء لاختيار رئيس مكلف بينها أو لاختيار أسماء للوزراء الشيعة).