IMLebanon

في “بيروتشيما” ألف حكاية وحكاية

كتبت زيزي اسطفان في “الراي الكويتية”:

تَآخوا مع باطنِ الأرضِ واحْتَرَفوا استكشافَ أحشائها. في خباياها العميقة يجولون ليكتشفوا ما تُخْفيه بين ثناياها الخَفِيّة من أسرار. هدفُهم علمي، بيئي إنساني، وسِعْيُهم تقريب الإنسان من أمّه الأرض، من الرحم الذي يحتضن كل كائن حي.

يَسْتَكْشِفون المَغاور والهوّات السحيقة، ينْحدرون الى الأعماق ليروا فيها شمساً من نوع آخَر، شمس المعرفة والاكتشافات العلمية البيئية التي تتيح فهْم الماضي وتضيء طريق المستقبل.

إنهم الجمعية اللبنانية لدراسة المغاور ALES… رجال ونساء جَعَلوا هذا السعي شغفَ حياتهم ونذروا طاقاتهم ومهاراتهم وتقنياتهم من أجل الأرض والإنسان. لكنهم هذه المَرّة غيّروا وُجْهَتَهُم، تَطَلَّعوا إلى فوق، إلى رؤوس البنايات والأبراج المحطّمة التي زلْزلها انفجارُ «بيروتشيما» (4 أغسطس الماضي) وتَرَكَها مشلَّعة مشظّاة تتلاعب بها الأخطار من كل جانب وتجعلها قنابل موقوتة تهدّد سلامة الناس.

حَمَلوا حِبالهم ومَعَدّاتهم، وصَعَدوا إلى الأعلى، إلى سطح مبنى شركة كهرباء لبنان المدمّرة ليعملوا على إزالة الأنقاض العالقة بين طوابقها وعلى نوافذها وإبعاد خطرها الداهم عن الناس في الشارع. خطوتهم الأولى كانت إعادة تثبيت العلم اللبناني على سطح المبنى في حركة تختصر الحسّ الوطني الذي دَفَعَهُم لمواجهة الأخطار وتَحَمُّل الكثير من الدلالات حول هدفهم و مهمتهم…

من أغوار المرفأ الى سطوح المباني لبّوا النداء

حين انقشع غبار الانفجار الكبير وتكشّف ما خلفه من دمار في بيروت، تَداعى كل أصحاب الطاقات والقلوب البيض للمشاركة في أعمال الإنقاذ، كلٌّ على طريقته. وجمعية ALES كانت حاضرة لتلبية النداء.

من أحد الأصدقاء في فوج إطفاء بيروت عَرَفوا أن ثمة حاجة إلى وجودهم في حَرَمِ المرفأ لسبْر ما تُخْفيه أنقاضُ الإهراءات تحتها من ممرّات أو أنفاق وغرف غَمَرَها الردم وبات من المستحيل الوصول إليها.

حَمَلوا خبرتَهم في النزول إلى باطن الأرض ووصلوا عند أقدام الإهراءات التي ترزح تحت أطنان من الذرة والقمح والركام. «المشهد يتخطى كل وصف» يقول جوزف ثابت، أحد أفراد الجمعية ومنسق عمليات الإنقاذ فيها لـ «الراي»، مضيفاً: «لم أرَ في حياتي مشهداً مماثلاً، وهو يفوق ألماً وقسوة مليون مرة صور الدمار التي ظهرت للعلن».

من خلال فجوةٍ صغيرةٍ تمكّن الفريق من التسلّل إلى عمق 4 أو 5 امتار تحت الأنقاض، أي الى حيث لم يتمكّن أحد قبلهم من الوصول. هنا قادتْهم الروائح الى أشلاء ضحايا دُفنوا تحت الردم. وبالعين المجردة رأوا بعضها، ومن خلال الكاميرات الخاصة استكشفوا ما يوجد تحت، في هذا المكان المظلم القاسي العابق برائحة المأساة. وقد نقلوا ما رأوه الى المسؤولين، لكن لم يكن بإمكانهم المساهمة أكثر في عمليات الإنقاذ، فهنا الحاجة الى معدات ضخمة قادرة على إزالة أثقال الردم والأنقاض. أدوا مهمتهم الإنسانية وكانوا العيْن التي رأت ما خفي في الأعماق.

لكن المهمة لم تنتهِ هنا، بل على العكس كان في انتظارهم أخرى أكثر دقة وصعوبة، تختلف عن نطاق مهماتهم المألوفة في الأعماق لأنها ترتكز هذه المَرّة على الأعالي. عرفوا أن الفريق الفرنسي الذي كان يتولّى مهمة تنظيف البنايات العالية من البقايا العالقة فيها سيغادر، فعرضوا على المسؤولين وعلى محافظ بيروت المساهمة في عملية التنظيف وإزالة الأنقاض العالقة في أعالي البنايات ولا سيما أنهم يملكون المهارات التقنية والفردية اللازمة للقيام بهذه المهمة. التقوا الفريق الفرنسي الذي يعمل وفق تقنية Travail en hauteur أي العمل في المرتفعات وقارَنوا الأمر مع تقنيتهم الخاصة التي تقوم على استعمال الحبال للنزول الى الأعماق ووجدوا أنهم قادرون بما يملكونه من مهارات متعدّدة شاملة على إكمال عمل الفريق الفرنسي. ويؤكد عبدو فغالي، وهو أحد اعضاء الفريق، لـ «الراي» أنهم شعروا بواجب وطني وإنساني واجتماعي يدفعهم للقيام بهذه المبادرة «لحماية أهل الجميزة والناس فيها مما يتربص بهم من مخاطر نتيجة احتمال سقوط الأنقاض العالقة ولا سيما قطع الباطون العمودية المتدلّية في طوابق شركة كهرباء لبنان».

جوزيف ثابت بما يملكه من خبرة تقنية في إدارة عمليات الإنقاذ وكونه مُشْرِف اختصاصي في استكشاف المَغاور وفي تقنيات التسلّق وغيرها، قام بتنسيق العمل واختيار الفريق الذي سيتولى النزول بالحبال وإنجاز عملية إزالة ما علق على الجدران الخارجية وفي الطوابق من أشلاء حديدية وخرسانية خطرة، و كذلك تولى الإشراف على الشق اللوجستي للمهمة وتأمين كل ما يلزم من معدات وضرورات عملية لإتمامها مع تأمين سلامة الفريق.

الفريق كله كان من أعضاء الجمعية اللبنانية لاستكشاف المغاور، مجموعة شباب وصبايا من مختلف المناطق والأطياف يجمعهم شغف استكشاف المغاور وروحٌ إنسانية عالية تُوَحِّد بينهم وتجعلهم فريقاً واحداً وقلْباً واحداً يساند كل واحد فيهم الآخَر ويُشْرِف على أمنه وسلامته. لكن اختيار الفريق يجب أن يتم على أسسٍ مدروسة ليكون كل عضو فيه مؤهَّلاً صحياً ونفسياً وعصبياً للعمل على مهمة تتطلب الكثير من التركيز وحس المسؤولية إضافة الى القوة البدنية والمهارة التقنية العالية.

مهمة إنقاذية محفوفة بالمخاطر

لم يكن النزول بالحبال من الطابق الخامس عشر أو ما يعادل علو 45 الى 50 متراً هو الأصعب كما يخبرنا عبدو فغالي بل استخدام «الصاروخ» الكهربائي لتقطيع «شراشف» الباطون التي كانت تميّز هندسة شركة الكهرباء. وهي قِطَع خرسانية عمودية مهددة بالسقوط في كل وقت، وقطع الحديد وبقايا مكيفات الهواء المتأرجحة على الجدران الخارجية والتي تتهدّد الناس والعمال في الأسفل. «فالصاروخ خطر ومؤذ جداً، وفي حال ارتكاب أي خطأ، يمكن أن يؤدي إلى جروح خطرة أو حتى إلى قطْع الحبل في حال تَفَلَّتَ من يد حامله، ولذا كان يجب استخدامه بحذر شديد، رغم وزنه، لتقطيع الباطون وقص قطع الحديد المتدلية ودفعها نحو الداخل أو رميها إلى أسفل، ثم إزالة بطارية الصاروخ بعد الانتهاء من استخدامه كي لا يكون مصدر خطر».

مهمة دقيقة وخطرة تستوجب تركيزاً شديداً ومهارة يدوية وعصبية كبيرة. ومن هنا كان على منسّق العمل الحرص على حُسْن اختيار الفريق المؤهل أولاً ثم ضمان سلامة العاملين على الحبل وتشجيعهم والتأكد من حالة الحبال وتَوازُنِها وعدم احتكاكها بأي شيء يمكن أن يؤذيها أو يتسبب بقطعها، وكذلك ربط الحبال ببعضها البعض ليكون الجميع متّصلين ببعضهم في حال طرأ أي حادث، إضافة الى تأمين ما يلزمهم من مياه أو فترات استراحة.

بالنسبة لعبدو فغالي كانت تلك مسؤولية كبيرة، تجاه سلامته أولاً حتى لا يسبّب إرباكاً للفريق في حال تَعرُّضه لأي حادث، كما تجاه كل الموجودين معه على السطح أو في الأسفل كي لا يقع أي حادث يعرّض سلامتَهم للخطر. العمل مُتْعِبٌ في ظلّ موجة حرّ شديدة جداً وشمس لاهبة تسبّبت لهم بآلام حادة في الرأس، والمهمة دقيقة «فالعمل يجب أن يُنجز لإزالة كل الشوائب العالقة وتهيئة المبنى للترميم لاحقاً. لا يمكن التغاضي عن قطعة حديد من هنا أو جدار مُنْهار من هناك يمكن أن يسقط على العمال فيما بعد عند قيامهم بأعمال ترميم المبنى، أو يمكن أن ينهار مُسَبِّباً إصابات بين المارة في الشارع».

عبدو معتاد على الصعوبات فقد دَخَلَ مغاور وهوات مُظْلِمة وباردة تحت الأرض أصعب بكثير من تَسَلُّق المباني من حيث الظروف والوقت والمسافة. ففي أفخازيا مثلاً نزل 2080 متراً تحت الأرض برفقة ثابت ومثّلا لبنان في هذا الإنجاز العلمي المذهل ولذا فإن العمل على علو وفي ضوء النهار لم يُخِفْه كثيراً لكن هولَ الدمار الذي رآه هو ما أخافه وجعله يشعر بالأسى على ما عاناه وطنُه.

الفريق يعمل بتناسُق تام وباتفاق كلي على آلية الحركة ومراحلها، يحمي أفرادُه بعضهم البعض ويتواصلون مع فريق الدعم على السطح وفي الطوابق الذي يساعد في تلقي القطع المَرْمية نحو الداخل. أكثر من 6 أشخاص على الحبال و8 للدعم في الطوابق. أنجزوا الكثير على مرحلتين وما زالت لديهم مرحلة ثالثة بعد، وهم مستعدّون لتلبية النداء حيثما تدعو الحاجة الى تدخلهم.

يقول جوزيف ثابت إن كل الفريق تَطَوَّعَ بلا مقابل لإنجاز مهمة إنسانية وهم جاهزون للعمل في لبنان أو أي دولة تحتاج الى مهاراتهم. لبنان يزخر بالمهارات التي توازي المهارات العالمية ولديه الكثير من الطاقات والخبرات وهي بحاجة لأن تجتمع تحت إدارة واحدة قادرة على مواجهة الكوارث والتصدي لأضرارها. وفي لبنان مثلاً عدة جمعيات تهتمّ باستكشاف المغاور، وسيعمل الفريق لاحقاً على التعاون معها لإنجاز المزيد من المهمات والعمليات الإنقاذية الناجمة عن انفجار بيروت.

صبايا الدعم والطاقة الإيجابية

الفريقُ الداعِمُ كان على السطح أو في الطوابق، وهو لعب دورا لوجيستياً مُسانِداً في غاية الأهمية. شبانٌ وصبايا تولوا عملية الدعم مُنْدَفِعين بروحِ الفريق التي اعتادوا عليها منذ انتسابهم الى جمعية استكشاف المغاور التي أسسها قبل 25 عاماً الراحل هاني عبد النور.

الصبايا لولب الحركة حاضرات دائماً لمساعدة الفريق، تقول دارين صالح لـ «الراي» وهي من أعضاء فريق الدعم المُرافِق: “نحن عائلة واحدة تجمع بيننا الثقة والاتكال على بعضنا البعض، وحين ننزل الى الأعماق نسلّم حياتنا وروحنا للفريق. في دراستنا للمَغاور نعمل على أساس مجموعة وكل عضو فيها يقدّم شيئاً من خبرته ومعرفته لإفادة الكل ثم نضع معلوماتنا ومكتشفاتنا في خدمة المجتمع والعلم.

بعد انفجار بيروت، تقول دارين، «كل مَن في الجمعية تَطَوَّعَ للمساعدة على طريقته وبالوسيلة التي يراها مُناسِبة. حين عَلِمْنا بمهمة الفريق في مبنى شركة الكهرباء لم نتأخر بالحضور ولا سيما أن الزميلة غادة سالم هي»الدينامو«الذي يحرّك الجميع ويبثّ فيهم روح الحماسة. ونحن كصبايا نهتمّ بالجميع ونلعب دوراً في دعم الفريق وتأمين المياه والطعام لأعضائه لينصرفوا الى مهمتهم براحة بال. صعدنا الى سطح مبنى»كهرباء لبنان«بعدما تَزَوَّدْنا بكل وسائل الحماية من خوذ وأحذية خاصة وقمْنا بما نقدر عليه جسدياً لمساعدة الشباب، من ربْط الحبال ولفّها بما يحميها من التمزق وإزالة بعض الشوائب الحادة عن الحفافي لحماية الحبال، وقمْنا بمسْحٍ للطوابق المتضرّرة لمعرفة نوعية الأضرار الموجودة فيها وكيف يمكن للشباب العمل عليها».

وأضافت: «في كل طابق كان هناك أشخاص يعاونون الذين يعملون على الحبال، فيما اضطر هؤلاء للنزول عدة مرات على الحبال لإتمام المهمة وإنجاز تنظيف واجهة المبنى، فكان الأمر مُتْعِباً جداً بالنسبة إليهم في ظل حرّ شديد وشمس قوية، ولكننا كنا العين الساهرة على احتياجاتهم وسلامتهم».

نسأل دارين إن شعرتْ بالخوف لوجودها على هذا الارتفاع في مبنى مهدَّد بالخطر فتجيبنا بأنها معتادة على النزول الى عتمة المغاور والهوات ومواجهة أماكن مجهولة لا تخلو من الخطر «ولذا كان العمل في الضوء أسهل، وكان الجو السائد على سطح المبنى وفي الطوابق وحتى على الحبال يحمل الكثير من الحماسة والتركيز والطاقة الإيجابية رغم هول الدمار الذي كنا نراه من حولنا. إيماننا بمهمتنا مدّنا بالقوة والتفاؤل رغم وجود الأخطار. فكل واحد من الشباب كان معرَّضاً لخطرٍ داهم، فأحدهم مثلاً وقع مكيّف هواء على خوذته، أما نحن فكنا ندوس على البحص في السطح وعلى الركام أينما كان، معرّضين للسقوط في أي لحظة».

رغم كل شيء تؤكد دارين صالح كما يؤكد الجميع أن التعب من أجل هدفٍ سامٍ هو تَعَبٌ مُفْرِحٌ، ويكفي الفريق فخراً أنهم استطاعوا بأيديهم أن يزيلوا بعض الغشاوة عن وجه بيروت الجميل ويُرْجعوا إليها الأمل بإعادة بناءٍ لا بدّ قريبة.