IMLebanon

لبنان وجهاً لوجه اليوم أمام إسرائيل في مفاوضات ترسيمٍ مدّججة بالألغاز

يدْخل لبنان، المُصاب بانعدامِ الجاذبيةِ بفعل تَكاتُف أزماتِه المالية والسياسية، انعطافةً بالغةَ الحساسية مع بدء المفاوضات مع اسرائيل تحت عَلَمِ الأممِ المتحدة وبوساطةٍ أميركيةٍ على ترسيم الحدود البحرية على قاعدة “اتفاقٍ إطار” أٌفرج عنه تحت “غطاء ناري” وفّره ضَغْطُ واشنطن على “زناد” العقوبات غير المسبوقة على البيئة السياسية الحاضنة لـ “حزب الله” في بيروت وعدم ممانعةِ طهران ممارسة لعبة “الماء والنار” في سياقِ المواجهةِ الكبرى التي تخوضها الولايات المتحدة معها، عبر إطلاقِ مسارٍ “يَشْبُكُ” مع مرحلةِ ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، أياً جاءت نتيجتُها، ما دام ملف التفاوض مع تل ابيب طويلٌ وشائكٌ وقابِلٌ لـ “التفخيخ” في أيّ وقت.

وفي موازاة الجوانب التقنية للمفاوضات اللبنانية – الاسرائيلية غير المباشرة ونقاط انطلاقها والرامية إلى بلوغ ترسيم بحري يتم توثيقُه في الأمم المتحدة ومن شأنه فضّ النزاع حول ملكية مساحة 862 كيلومتراً مربعاًعائدة للمنطقة الإقتصادية الخالصة للبنان، فإن هذا الحَدَث الذي أدارتْه الديبلوماسيةُ الأميركيةُ المكوكيةُ على مدى نحو عقدٍ ومرّ بمراحل معقّدة من “عضّ الأصابع” وصولاً إلى تراجعاتٍ أفضت لهنْدسةِ الإطار التَفاوُضي ومرتكزاته بمشاركةِ الوسيط الأميركي، الذي لم يكن يريده “حزب الله”، وبرعايةِ الأمم المتحدة التي لم تكن ترغب بها إسرائيل، يشكّل في ذاته تطوراً “فوق عادي” لا يمكن مقاربته بمعزل عن “التحري” عن الأسباب الموجبة التي دفعتْ حزباً إقليمياً (حزب الله) يشكل رأسَ حربةِ المشروع الإيراني في المنطقة، إلى الجلوسِ على المَقاعد الخلفية في مفاوضاتٍ تتطلّب في أبعادِها الإعترافَ بـ “دولة إسرائيل” ولو تحت عنوان التوصل إلى إتفاق في شأن المنطقة النفطية في البحر بما يضْمن قيامَ بيئةٍ آمنة للتنقيب الذي لا يريد لبنان، الغارق في حفرة مالية عميقة، تضييع المزيد من الوقت لبدئه.

 

واليوم ومن خلف خرائط النزاع الحدودي البر – مائي وبلوكات النفط والتلال الأمنية ومدى ملاءمة خطوط الترسيم للخطوط الزرق والحمر وإمكان “زحزحة الجغرافيا” بتبادُل الأراضي فوق الأرض وفي قاع البحر، وبمعزل عن “التمويه” الذي ضيّع “بوصلة” التلازم بين مساريْ البرّ (النقاط المختلف عليها براً) والبحر الذي لطالما تمسّك به “حزب الله” والرئيس نبيه بري وعما إذا كان ما يُعرف بـ “خط (فريدريك) هوف” الذي يحرم لبنان حوالي 360 كليومتراً مربّعاً من المنطقة الإقتصادية الخالصة العائدة له “دُفن” أم لا، فإن الأنظار تتجه إلى شكليات جوهرية تتصل بهذه المفاوضات التي تستقطب اهتماماً إعلامياً عالمياً ولا يمكن فصْل ما سيُفسَّر على أنه إنجاز ديبلوماسي لواشنطن عن السباق المحموم الى البيت الأبيض.

وفي “ألف باء” شكل المفاوضات التي سيجلس فيها الجانبان اللبناني والاسرائيلي في غرفة واحدة ولكن من دون أي تواصل مباشر بينهما، أنه سيشارك فيها (الجلسة الافتتاحية فقط) مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر (على أن يكمل بعدها السفير جون ديروشي دور الوسيط الأميركي المسهّل في المفاوضات)، ويستضيفها المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيش في مقر “اليوينفيل” في الناقورة، ويحضرها: عن الجانب الاسرائيلي وفد عسكري – سياسي يضم المدير العام لوزارة الطاقة أودي أديري، المستشار الديبلوماسي لرئيس الوزراء ‏رؤوفين عازر، ورئيس دائرة الشؤون الاستراتيجية في الجيش الاسرائيلي. في مقابل وفد عسكري – مدني لبناني برئاسة العميد الركن الطيار بسام ياسين، وعضوية العقيد الركن البحري مازن بصبوص، عضو ادارة قطاع البترول المهندس وسام شباط ، الخبير الدكتور نجيب مسيحي. وتنطلق المفاوضات على وقع ارتيابٍ لبناني داخلي، وخصوصاً من “حزب الله” وبري من محاولاتٍ أميركية – اسرائيلية لإسباغ أبعاد سياسية عليها عزّز الخشية منها كلامُ الخارجية الأميركية عن “مفاوضات حول الحدود البحرية بين الحكومتين اللبنانية والإسرائيلية”، كما لإضفاءِ طابع احتفائي على جلسة الافتتاح عبر حضورٍ إعلامي يلتقط صورة “تاريخية” قابلة للتوظيف في أكثر من اتجاه بينها في حملة الرئيس دونالد ترامب، وهو ما كان موقف لبنان الرسمي (الرئيس ميشال عون) بقي ضبابياً منه حتى يوم أمس، وسط رصْد إذا كانت الرئاسة اللبنانية التي قوبلت بحملة تشكيك واسعة بإزاء إدخال مدنيين ضمن الوفد اللبناني (وتراجعت عن حضور المدير العام لرئاسة الجمهورية انطوان شقير) ثم بانتقادٍ “تحذيري” من رائسة الحكومة حول تَفرُّدها بتشكيل الوفد، ستوعز بعدم ممانعة أخْذ الصورة ما دام ليس هناك “ما يستحي” به لبنان في مرتكزات التفاوض.

وكان هذا الملف محور متابعة حثيثة من عون أمس الذي اجتمع بكوبيتش قبل أن يترأس اجتماعاً ضم وزيرة الدفاع زينة عكر وقائد الجيش العماد جوزف عون وأعضاء فريق التفاوض وأكد فيه أن المفاوضات تقنية ومحددة بترسيم الحدود البحرية، وان البحث يجب أن ينحصر في هذه المسألة تحديداً “على ان تبدأ المفاوضات على أساس الخط الذي ينطلق من نقطة رأس الناقورة براً التي نصت عليها اتفاقية بوليه نيوكومب عام 1923 والممتد بحراً استناداً الى تقنية خط الوسط من دون احتساب أي تأثير للجزر الساحلية التابعة لفلسطين المحتلة”، وهو ما اعتُبر أنه يجعل لبنان ينطلق من سقف تفاوضي أعلى من المطالبة بمنطقة الـ 862 كيلومتراً مربعاً.

ويُقْلِع قطارُ التفاوض اللبناني – الاسرائيلي على وقع “يوم غضب” عمالي – نقابي يتخلله قطع طرق واعتصامات في غالبية المناطق، في سياق رفْع الصوت بوجه “الجوع الزاحف” والاتجاهات الاضطرارية لرفْع الدعم عن سلع استراتيجية في ظل تآكل بقايا احتياطي مصرف لبنان القابل للاستخدام من العملات الأجنبية.

وبدا من الصعب في بيروت عزْل “أربعاء الغضب” الذي دعا اليه الجسم النقابي، المتماهي في جانب كبير منه مع قوى سياسية (وخصوصاً في 8 آذار)، عن محاولةِ إزاحة العدسات عن انطلاق مسار التفاوض اللبناني – الاسرائيلي بخفاياه وخلفياته المكتومة وقطبه المخفية، كما عن الأزمة الحكومية التي تضرب موعداً مفصلياً غداً مع استشاراتِ تكليفٍ رشّح زعيم “تيار المستقبل” سعد الحريري نفسه لخوضها بقوّة تمثيله للمكوّن السني، وبقوّة دفْع اقليمية – دولية خفية يجري الغمز من قناتها وترتكز على عدم ممانعة إعطاء فرصة للمبادرة الفرنسية وجوهرها الإصلاحي ما دامت واشنطن كسبتْ ورقة مفاوضات الترسيم، بانتظارِ المراحل الحاسمة من الصراع الأميركي – الإيراني وسائر ملفات المنطقة.

وثمة مَن يتعاطى مع ما ستشهده الأرض في لبنان اليوم على أنه إما في إطار تعزيز موجبات وصول استشارات الخميس إلى تكليف الحريري والتقاط الفرصة الفرنسية الأخيرة ولو مع “لبْننةٍ” لنسختها الأصلية تقتضيها ضرورات نيْلها ثقة البرلمان، وإما في سياق توجيه رسالة بالبريد الساخن لزعيم “المستقبل”، الذي يَمْضي في استشارات جسّ نبض حيال موقف كل الكتل من جوهر مبادرة باريس وورقتها الإصلاحية، بأن حائط الصدّ الحقيقي أمام أي إجراءات موجعة في طريق الخروج من السقوط المريع هو الشارع قبل أي طرف سياسي.

وفيما يسود الترقب لمسار “يوم الغضب” الذي يترافق مع انفلاش مظاهر الانهيار في قطاعي الصحة والدواء بفعل زحف “كورونا” أو التقنين في توفير الأدوية للصيدليات (نتيجة التخزين بانتظار رفع الدعم او التهريب)، لا تستبعد أوساط سياسية أن ينتهي الخميس إلى تكليف الحريري على قاعدة اكتفائه في هذه المرحلة بتجديد الكتل التزامَها بالورقة الفرنسية وترْك عقدة مَن سيسمي الوزراء الاختصاصيين غير الحزبيين لمرحلة ما بعد التكليف الذي يريده الحريري غداً على طريقة “اليوم وليس غداً”، والذي يبقى عرضة كما في كل التجارب السابقة لمفاجآتٍ تتصل بحساباتٍ سياسية أو حتى طائفية قد تجعل تسمية زعيم “المستقبل” غير مكتملة النصاب الوطني.