IMLebanon

الإصلاح يبدأ من رأس الهرم… دققوا في حسابات وزارة المال أولًا!

في “عصفورية” دولة لبنان حيث يغيب من قاموس التعاطي السياسي كل ما يتصل بمفهوم القانون وتسري لغة المنافع الشخصية والتسويات والصفقات والتحاصص على جثة الوطن، وهوما ينطبق اليوم عمليا على مسار تشكيل الحكومة العتيدة، لم يعد من عاقل يستوعب منطق المنظومة الحاكمة الماضية في سياساتها الغوغائية غير الصالحة حتى لحكم “مزرعة”. قرارات اعتباطية غير محسوبة النتائج تكاد تصح للعبة “بيت بيوت” لا لإدارة شؤون دولة وتسيير امور وطن ومواطنين.

إلى السياسات العشوائية في الداخل التي ضربت اسس الدولة ومرتكزاتها عبر نخر اداراتها بالمحاسيب والازلام لمصالح حزبية وانتخابية ونفعية ما ادى الى الانهيار ، وتلك المعتمدة مع الخارج التي نزعت عنه انبوب الاوكسيجين من خلال استهداف الدول العربية والخليجية والانخراط في حروب الاخرين ورفض سياسة الحياد الكفيلة باعادة احيائه، والى التعاطي اللامسؤول مع الازمات الصحية وطريقة مقاربة جائحة كورونا راهنا بين اقفال جزئي غير مجد ولامبالاة في تطبيق القرارات، الى كل ذلك ومعه الكثير من الاخفاقات التي لا مجال للدخول في تفاصيلها هنا، جاء ملف التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان ليتوّج رعونة هذه السياسات ويؤكد مدى لامسؤوليتها من حيث الشكل والمضمون.

اليوم، وبعيد اعلان وصول فريق مدققي شركة Alvarez and Marsal في الساعات المقبلة إلى بيروت للاجتماع غداً مع وزير المال في حكومة تصريف الأعمال والبحث في مضمون العقد الموقع بين الشركة والدولة، بعدما اعتبرت الشركة أن المستندات التي استلمتها من مصرف لبنان غير كافية للاستمرار في مهامها بالتدقيق الجنائي، اطل رئيس رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب على اللبنانيين محذرا من محاولة إطاحة التدقيق الجنائي لمنع اللبنانيين من معرفة حقيقة خلفيات اختفاء ودائعهم، وأسباب الانهيار المالي والتلاعب المدروس بسعر العملة الوطنية، مؤكدا في بيان “انه اجرى اتصالات لمتابعة ملف التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، كما وجّه كتاباً إلى وزير المالية للطلب من مصرف لبنان العمل بموجب رأي هيئة التشريع والاستشارات، وذلك لبدء شركة “ألفاريز” عملها استناداً إلى العقد الموقع بينها وبين الدولة اللبنانية، والذي ينصّ على تسليم مصرف لبنان للشركة المستندات والمعلومات التي طلبتها لإطلاق ورشة التدقيق الجنائي، حيث إن المصرف المركزي لم يسلّم الشركة سوى 42% من هذه الملفات فقط”، معلّلاً ذلك بقانون السرية المصرفية. وانه بالعودة إلى رأي هيئة التشريع الذي حدّد مفهوم السرية المصرفية، ومدى تلاؤم مهمة شركة التدقيق الجنائي المعينة من قبل الحكومة اللبنانية للقيام بعملية التدقيق الجنائي لحسابات مصرف لبنان وأنشطته، مع أحكام قانون السرية المصرفية وقانون النقد والتسليف، فإن رأي هيئة التشريع قد نصّ صراحة على أنه انطلاقاً من قرار مجلس الوزراء القاضي بإجراء التدقيق الجنائي وتكليف وزير المالية توقيع العقد مع شركة “ألفاريز”، يكون من واجب المعنيين المباشرة بتنفيذ قرار مجلس الوزراء عبر تمكين شركة “الفاريز” من القيام بمهمتها وتسليمها المستندات المطلوبة منهم مع حجب أسماء الزبائن عند الحاجة واستبدالها بأرقام حفاظاً على السرية المصرفية، علماً أن حسابات الدولة لا تخضع للسرية المصرفية. ولفت الى إن أي إصلاح لا ينطلق من التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، يكون إصلاحاً صورياً لتغطية استمرار النهج الذي أوصل البلد إلى ما وصل إليه على المستوى المالي.

وبعيدا من ان استناد دياب الى رأي هيئة الاستشارات لإلزام “المركزي” على رفع السرية المصرفية ليس دقيقا ما دام الرأي لا يلغي القانون، فات رئيس حكومة تصريف الاعمال الكثير الكثير مما يتوجب عليه معرفته او تصويب بوصلة الاصلاح في اتجاهه، كونه يعرف الشاردة والواردة، بحسب ما تقول مصادر مالية مطّلعة لـ”المركزية” . فالاصلاح لا يبدأ من مصرف لبنان ولا من حاكمه، وهو موظف في الدولة التي تحكمها سلطتان تشريعية وتنفيذية كان واجب الاخيرة الا تجدد للحاكم لو انه اخطأ في هندساته المالية للدولة، وهو ربما اخطأ في تحمل مسؤولية كان يفترض بالسلطة ان تتحملها واخطأ في عدم انسحابه من اللعبة حينما لم يسمع اهل الحكم نصائحه لعدم بلوغ ما بلغته الدولة اليوم واقرار سلسلة الرتب والرواتب لمصالح انتخابية آنذاك دليل ساطع، واخطأ في عدم مصارحة اللبنانيين باقترافات السياسيين وطلباتهم المتكررة لتغطية ديون الدولة عبر “المركزي”. الاصلاح، صحيح يجب ان يشمل المصرف المركزي، تضيف المصادر، لكن نقطة انطلاقه ليست منه. هم، اي المسؤولون السياسيون، حصروا الاصلاح بمصرف لبنان فقط للتهرب من التدقيق المالي الجنائي الذي سيدينهم في الوزارات. من الطاقة التي انفق لأجل كهرباء لم يحصل اللبنانيون على شرف التمتع بنورها نحو نصف الدين العام، الى الصناديق والمجالس التي تحولت مزاريب مفتوحة للسرقات والسمسرات وسائر مؤسسات الدولة حيث بلغ الهدر والفساد اوجه. وتجاهلوا ان رفع السرية المصرفية عن زبائن مصرف لبنان اي مؤسسات الدولة والمصارف التجارية، يشكل خرقا للقانون وطالبوا بكشف السرية ليتمكنوا من الصاق هذه التهمة لاحقا بالحاكم ومحاسبته على هذا الاساس. فقانون النقد والتسليف، والمادتان 44 و151 واضح جداً بخصوص منع الكشف عن السرية المصرفية، وان القاعدة القانونية تقول لا اجتهاد حيث النص.

وتستغرب المصادر التصويب على “المركزي” الذي غطى الدولة في فترات عجزها لتأمين رواتب الموظفين وغيرها من الشؤون الضرورية، عوض التوجه الى وزارة المال وهي رأس الحربة و”صندوق الدولة”، تحدد مصير لبنان المالي – الاقتصادي ومنها يجب ان ينطلق الاصلاح لأنها تملك كل المعطيات المالية للدولة ومؤسساتها واداراتها اضافة الى الاشراف على كل المساعدات الخارجية المفترض ان يتم ضيطها وحسن انفاقها. والاصلاح يبدأ من التحقيق مع متهمين دوليا ومعاقبين اميركيا وهم وزراء في الدولة بهدر المال العام من خلال اعفاء حزب الله من دفع رسوم على معدات الكترونية استوردها من الخارج وبعقد صفقات وهمية امنت لحزب الله مداخيل من الدولة عبر شركات تعمل لحساب الحزب. ان هذه الاتهامات الموثقة بمستندات بحسب الادعاءات الاميركية لا يجوز ان تبقى من دون موقف رسمي لبناني حيالها سواء لجهة اثبات دقتها او عدم صحتها، من خلال اجراء تحقيق لبناني شفاف. هذا الملف  يفترض ايضا ان يشكل المدخل للاصلاح وللمحاسبة ومحاربة الفساد.

وإذ تشدد المصادر على ان التحقيق في الهدر والفساد يبدأ من رأس الهرم، إن كان من نية جدية لبلوغ الحقائق وليس تركيب ملفات لإدانة بعض السياسيين لاستخدامها في مجال الابتزاز لاحقا واستخدامها لأغراض انتخابية رئاسية، تسأل عن الجهة التي سربت مستندات سرية من مصرف لبنان لبعض وسائل الاعلام ومن ضمنها موقع “فوربس – ميدل ايست”، وهل حاولت الدولة واجهزتها والحريصون على الاصلاح التحقيق لتحديد الجهة المشار اليها واهدافها؟

ان اصرار بعض المسؤولين والسياسيين في المنظومة الممسكة بالسلطة في البلاد اليوم على التدقيق الجنائي مع مصرف لبنان ليس هدفه الوصول الى الحاكم سلامه تحديدا والحصول على مستندات تدينه لاقالته وتعيين آخر اكثر ليونة معها فحسب، بل ايضا الى تركيب ملفات تستخدم حين تدق الساعة، هي تحاول ضرب عصفورين بحجر  لكن اللعبة باتت مكشوفة وما يمكن ان يمر على اللبنانيين لن يبلعه الخارج المراقب مسار الاصلاح.