IMLebanon

ترسيم بلا حدود

كتب كارلوس نفاع في “الجمهورية”:

بين النيل والفرات يعيد التاريخ نفسه تقسيم المقسّم. إنّها لعنة الجغرافيا بكل ما تعني من ممرات، وموارد، وثقافات عشوائية متداخلة لدرجة الإنصهار، ومتنافرة لحدّ السيف.

فمن جديد نشهد على ضفة الفرات الغربية، تعسر الولادة المتجددة للسلطنة العثمانية من نفس الخاصرة الجيوسياسية. فمن زلزال القوقاز بين باكو ويريفان، الذي حرّكه خط غاز تاناب، وتوتر شرق المتوسط، مكرّساً دور إسرائيل في قيادة تحالف الطاقة فيه، والتورط في ليبيا بعد سوريا والعراق وغزة، والتي سببها سعي تركيا من اجل ان تتحول الى ممر استراتيجي لنقل الطاقة العالمية. فبعد ربط خط انابيب تاناب المنطلق من اذربيجان بخط تاب العابر للبحر الادرياتيكي نحو أوروبا، تمّ احياء خط نقل الغاز الروسي المعروف بالسيل التركي، والذي تبعه اتفاق لتقاسم النفوذ البحري والمناطق الاقتصادية مع ليبيا، جرى بموجبه ربط البرّ التركي بالليبي عبر شريط بحري، جعل من أي مشروع عبور نحو أوروبا لغاز المتوسط تحت رحمة تركيا، مما وحّد المتضررين في جبهة واحدة.

وفي الضفة الشرقية منه، تحاول طهران الصمود، رغم كل العقوبات الأميركية، في رهان على شهية الاتحاد الأوروبي، بأن تكون بديلاً عن تركيا في الاستثمارات والطاقة والنفط، وخصوصاً بعدما أحيت الامارات وإسرائيل خط انابيب النفط الذي تمّ بناؤه في 1968، لينقل النفط الخام من ايران الشاه الى أوروبا عبر إسرائيل، وتوقف مع قيام الثورة الإسلامية في ايران في 1979، مما يضع ايران امام خيارات وجودية.

من هنا، يصبح لبنان منطقة معزولة عن سايكس بيكو الغاز والنفط، وتسقط خصوبته الجيوسياسية، فتبرم على حسابه اتفاقات المصالح الحيوية للشرق الاوسط الجديد.

رغم إنكار زعماء الحكم في لبنان، فهم على يقين بأنّهم لا يستطيعون إيهام أتباعهم بنغمة تسويات اللحظات الأخيرة، وثمن ترسيم الحدود لفترة طويلة، لأنّهم يعرفون حق المعرفة بأنّهم لن يصمدوا أمام الانهيار الاقتصادي والمالي الآتي، بسبب انتهاء دورهم جميعاً.

فكيف الخروج من وادي الموت الاقتصادي، إذا كانت كل التنازلات مجانية، وإذا كانت المنطقة دخلت في الشرق الأوسط الجديد من دون لبنان؟

فبعد وقوف أحمدي نجاد على الحدود جنوباً مهدّداً اسرائيل بخطابات نارية، وقف نتنياهو صامتاً اليوم في الإمارات العربية المتحدة على حدود إيران، فاتحاً ًأسواق الاستثمارات المالية اللا محدودة لدولته. وفي اللحظة نفسها هو في أذربيجان واربيل وشرق المتوسط وإثيوبيا والسودان، حيث توجد مفاتيح انابيب الغاز وتحالفاتها، ومصادر مياه المنطقة بين النيل والفرات، عبر استثمارات وصفقات تجارية وعسكرية. وعزز ذلك، حاضناً اكبر مراكز الأبحاث لشركات الـBig data العالمية في اقتصاده، وجاعلاً من حيفا بوابة المشرق، بعد إعدام بيروت، برصاصة جيل من أبنائها الحاقدين على لبنان الرسالة، بعدما اغواهم المال السياسي الاقليمي المتعدد المشارب، فباعوا لبنانيتهم وأصبحوا تجار ثورات وقضايا غبّ الطلب الإقليمي، «مواطنون دون وطن».

فهل يبيع «كلن يعني كلن»، بعد فشلهم وانكشافهم، أصول الدولة تحت شعار ورقة الإصلاحات الفرنسية، لشركات او مصارف عالمية، بحجة الحفاظ على أموال المودعين في المصارف اللبنانية المفلسة بسبب افلاس الدولة المنهوبة، فتضحي الدولة اللبنانية سلطة فلسطينية ثانية، تعيش على الهبات والقروض الأبدية، مسلوبة إرادة النهوض وفرص الازدهار والمنافسة، وكل ذلك ثمن البقاء على عرش شبيه بعرش مادورو في فنزويلا، رعاة طوائف تائهة في فدراليات الجحيم المشرقي؟

أم تنجح بكركي مرة أخرى بإنقاذ لبنانها من براثن الشرق الجديد، بعدما أنقذته من عروبة الملك فيصل وقوميات ميشال عفلق وانطون سعادة، فتكرّسه من جديد وطن الرسالة وارض حياد، ونموذجاً انسانياً للشراكة والعيش معاً، وذلك بأن تكون عرّابة طاولة وطنية في جنيف الربيع القادم؟

أمّ انّ الخط البياني لسياسة الإدارة الأميركية في المنطقة أصبح واضحاً، وهو تجسيد لرؤية كيسنجر لشرق اوسط جديد، حقيقة تتحقق على قاب قوسين، قائمة على فوضى تحت العناوين الطائفية، تمتد من جبال آرارات وصولاً الى اثيوبيا.

فها هم انفسهم من أسقطوا اتفاق 17 ايار 1983، يجلسون على طاولة ترسيم الحدود البحرية، مسقطين ادبيات دولة الاحتلال والكيان الغاصب وغيرها من أسلحة لغة الضاد القومية، وكل ذلك مجاناً دون أي ثمن، وهذا ليس الّا أول الغيث، فسوف يليه حتماً ضبط الحدود البرية والبحرية والجوية عبر 1701 جديد، واستراتيجية دفاعية وطنية، إن أرادوا أن يحافظوا على ماء الوجه. وهذا كله تحت سقف الطائف، يليه توطين اللاجئين الفلسطينيين والسوريين والعراقيين. والتقدّم في هذا المسير سيكون على وقع طبول الحرب والاغتيال السياسي المعنوي، واشتداد الأزمة الاقتصادية والانهيار المالي، الذي ما زلنا في بدايته، والتفكّك الاجتماعي، ممّا يسهل قبول الناس لاستسلام رموزها مرة أخرى تحت ذريعة إنقاذ ما تبقّى.

لهذا يطالب البعض أن يكون عنوان طاولة جنيف هو «الدستور الجديد»، للخروج من الأزمة، مناورًا لعلّه يفوز بقانون انتخابات خارج القيد الطائفي في مركزية سياسية تبقيه الأول بين متساوين، والذي يخافه الجميع، في ظلّ الانهيار الشامل الحتمي قريباً. لهذا يتمسك فريق آخر بالطائف كما هو، او مع بعض التعديلات التي تعيد شيئاً من صلاحيات رئيس الجمهورية تسهيلاً للحكم، وخصوصاً انّ النظام السوري أراده في حينه نظاماً بثلاثة رؤوس غير قابل للحياة.

أمام هذا الشرخ السياسي، نرى أنّ بكركي تبنت صرخات كل اللبنانيين، وأسقطت الغطاء عمّن كانت تعتبرهم قادة للبلاد، «كلن يعني كلن»، بعدما سقطوا في نار المحاور الاقليمية. فحملت بنفسها لبنان بعدما أُنزل عن صليب قضية العروبة فلسطين ميتًا في مئويته الاولى، بكته ودفنته على رجاء القيامة وطن الحرية الوطن الرسالة. فهي لن تقبل بعد اليوم بأن تكون حائط المبكى لأحد، فالكل يعلم انّ مجد لبنان أُعطي لها، فأمسكت من جديد بصولجان ملكه. وقد قالها البطريرك الراعي بصوت عال: «المسيحيون لا يساومون على لبنان، لأنّه وطنهم الوحيد والأوحد، وضحّوا كثيراً في سبيل إيجاده وطناً للجميع، وما زالوا يضحّون». وهذا ما سيكون حتمًا محور طاولة جنيف الاساسي، التي ستحمل اليها بكركي الحياد الفاعل في وجه عزل لبنان عن محيطه العربي، ودستور الطائف في لامركزيته الادارية امام التفتيت، ووحدة سلاح الدولة في الاستراتيجية الدفاعية، امام قوة لبنان في ارتباطه او انهزامه.

من هنا أصبح اكيداً، أنّ اي حكومة إن شكلّها سعد الحريري او غيره، لن تحصل على اي دعم دولي حيوي، باستثناء المساعدات الانسانية، قبل السير في طريق جهنم والتي تبدأ بالترسيم، وتُستكمل بالحياد ولبننة السلاح، أما الباقي فُيترك بعد طاولة جنيف، التي تتحكّم نتائجها السياسية بهوية لبنان الاقتصادية والمالية. فحياده الناشط فرصته الوحيدة ليكون من جديد شريك العرب، وبوابة من بوابات المشرق، بعدما اسقطت إسرائيل جدران اريحا العربية، وتحقق وحدته بين جميع أبنائه الديناميكية لجذب الاستثمارات، وتحمي عودته على سكة الازدهار، وحدة سلاح الدولة ضمن استراتيجية دفاعية وطنية.

من هنا، وامام «سايكس بيكو» الغاز وشبكات سكك الحديد والمرافئ بين النيل والفرات وانهيار جدران اريحا، إن أصّم زعماء الحرب في لبنان ضمائرهم لنداء بكركي سنكون امام ترسيم بلا حدود.