IMLebanon

“بلعوا النهر وغصّوا بالساقية”

كتب جورج بشير في “الجمهورية”:

الإعلان الذي صدر عن بيروت رسميًّا، لبدء مفاوضات الناقورة مع إسرائيل، كان ولا يزال مدار أخذ وردّ وتعليقات لدى معظم الأوساط السياسية والديبلوماسية والإعلامية، ليس في لبنان فحسب، بل في معظم العواصم العربية والأجنبية، لأنّ الجهات اللبنانية، بما فيها الرسمية منها، كانت تتبع إسم إسرائيل دومًا بوصف متفق عليه: ” الدولة العدو، أو الدولة المحتلة أو الدولة المعتدية”. لكن الإعلان عن بدء مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين الدولة اللبنانية، والدولة الإسرائيلية الذي انطلق قبل شهرين، أي بعيد الإتفاق الذي رعاه الأميركيون مع رئيس مجلس النواب اللبناني الأستاذ نبيه بري، والذي سُمّي “إتفاق الإطار” إيذانًا لبدء مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين دولتي لبنان وإسرائيل، جاء خاليًا من أي وصف للدولة الإسرائيلية كما كان يجري في السّابق، مما أدّى إلى هذه التعليقات في الأوساط التي أشرنا إليها.

اللّافت بالنسبة للمراقبين، كان في رفع العلم اللبناني إلى جانب العلم الإسرائيلي على مدخل خيمة القوات الدولية التي نصبتها “اليونيفيل” في الناقورة، لتصبح مقرًّا للقاء المفاوضات حول ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، برعاية وحضور أميركي فاعل، كون الولايات المّتحدة يهمّها أن تعبّد الطرق الدولية لشبكة خطوط الغاز المنتج من المياه الإقليمية لإسرائيل إلى أوروبا، وإلى منطقة الشرق الأوسط، من دون معوقات أو عقد تثبت أنّها اعترضت حتى اليوم توصّل إسرائيل، وإن بدعم أميركي واضح، إلى إتفاقات محصّنة قانونيًّا، تمنع عنها المراجعات اللبنانية القضائية في الدول الموقّعة لهذه الإتفاقات مع إسرائيل، لأنّ القانون الدولي قانون خاضع بالنتيجة للمراجعات من الدول الموقّعة عليه كإسرائيل مثلًا.

يقول البعض، إنّ العلم اللبناني مرفوع على مباني منظمات الأمم المتحدة إلى جانب العلم الإسرائيلي. لكن هذا العلم مرفوع إلى جانب علم إسرائيل، مع أعلام سائر الدول الأعضاء في هذه المنظمة الدولية. ليس هذا بيت القصيد. إنما بيت القصيد في هذا الموضوع هو في قبول لبنان الدولة، التفاوض مع الدولة الإسرائيلية، وإن كان التفاوض غير مباشر وفي الناقورة بالذات، وإبعاد ممثلي الصحافة اللبنانية والعالمية والمراسلين مسافة كيلومترين عن مكان المفاوضات، وكأنّ الدولة اللبنانية في هذا المجال “في معرض ارتكاب جريمة ما تخجل منها”، فيما هي ذاهبة إلى المفاوضات بملء إرادتها وكامل جهوزيتها أمام عيون العالم كلّه، لأنّ الأمر يتعلق بالمطالبة بحقوق الدولة اللبنانية لا ينازعها عليها أحد، وهذا الأمر يتوجب حصوله من ناحية المبدأ من دون خجل أو خضوع للمزايدات السّياسية السّخيفة، تمامًا كما هو الحال مثلًا بالنسبة لمعاناة لبنان ومواطنيه، مع وجود مليون ونصف المليون نازح سوري داخل الأراضي اللبنانية، يستخدم وجودهم وتداعياته الإقتصادية والديمغرافية والإجتماعية على لبنان وحده، ورقة ضغط سياسية على النظام السوري، فيما لبنان الدولة يخجل من إجراء أي إتّصال رسمي بالحكومة السورية، للبحث في كيفية عودة هؤلاء إلى وطنهم الأم، أقلّه إلى المناطق السورية الآمنة، وحلحلة الحبال التي تشدّ الخناق على رقاب اللبنانيين ووطنهم، وترفع من تداعيات أزماته الخانقة، بحجة واهية، هي أنّ أي إتصال أو بحث في هذا الموضوع مع الحكومة السورية يمكن أن يشدّ عضد النظام ويكسبه مناعة تمامًا، كما الإدّعاء السخيف بأنّ أي إتصال مماثل مع الحكومة السورية لمطالبتها بفتح ممراتها الحدودية المؤدية إلى العراق والأردن ودول الخليج العربية وغيرها، أمام الإنتاج الصناعي والزراعي اللبناني لإنقاذه من البوار والموت والإفلاس، مع أنّ مثل هذا الإجراء من شأنه المساهمة في حلّ الأزمة الإقتصادية الخانقة التي تصيب القطاعين الصناعي والزراعي اللبنانيين إصابات قاتلة، فضلًا عن أنّ هذا الإجراء يحفظ مصلحة لبنان واللبنانيين ويصونها ويحول دون تلاشيها، وكأنّ حكومة لبنان، وإستهتارًا لمكانتها إذا أقدمت على إجراء إتصال من هذا القبيل بحكومة سوريا لحفظ مصالح لبنان، يمكنها كما يدّعي أصحاب الآراء السخيفة، أن تنقذ نظامًا، أو أن تدعم حكمًا وحكومة؟!

المفاوضات بين لبنان وإسرائيل جرت في الناقورة وستُستأنف في كانون الأول المقبل. فلماذا يعرّضون سمعة لبنان لهذه المهانة، أو منع ممثلي الإعلام اللبناني والعربي والدولي من التواجد بالقرب من خيمة الأمم المتحدة، حيث تجري المفاوضات، وكأنّ لبنان يقوم بأمر يدعو إلى الخجل أمام العالم، ومن ثم يسمح الجانب اللبناني لممثلي هذا الإعلام بالتواجد ولكن على بعد كيلومترين؟! مما دفع نقابة الصحافة اللبنانية إلى إصدار بيان إحتجاج شديد اللهجة على هذا التصرف ضدّ ممثلي الإعلام اللبناني والعربي والدولي، كون الرأي العام يحوط هذه المفاوضات بإهتمام ملفت، ومطالبة لبنان بحقه أمر يدعو إلى التقدير وليس إلى الخجل. لأنّ من ” يبلع النهر لا يغص بالساقية”.