IMLebanon

ما أبعاد توجّه وفد “القوات اللبنانية” إلى طرابلس؟

كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:

في وقتٍ تتكرر التحذيرات المنمّقة من مشاكل مذهبية قد تُفتعل، وانفجارات ترتجّ لها أرضنا والسماء، تحت ألف حجة وحجة، وجهنم المفتوحة، والسقف المنهار، والبلد المشلّع، والتشكيلة الحكومية الموعودة في يوم ما، والإنقسامات العمودية، وهدير الحروب… نسمع تباعاً عن زيارات ملفتة تقوم بها “القوات اللبنانية” الى المراجع الروحية، على اختلاف طوائفها ومذاهبها، وآخرها الى دار الإفتاء في طرابلس، فهل تحلّق “القوات” خارج السرب؟ أم هي تلعب تحت الطاولة، أم تعمل على تلافي كل ما يُشاع عن خطر من خلال التأسيس لعلاقات وثيقة وعميقة وعيشٍ مشترك وللتلاقي بين اللبنانيين؟

قبل أيام، كاد اعتداء فردي في جبيل، طاول مسجد السلطان ابراهيم بن أدهم، أن يتطور الى أزمة طائفية. لكن، استطاع الطيبون أن يبرهنوا أنه نتيجة خلاف بين أفراد، ليس أقل ولا أكثر، ونقطة على السطر. إرتفعت أصوات الحكماء في مواجهة أصوات المتآمرين. فمن يربح ومن يخسر؟ وأي أصوات ستكون أعلى؟ هناك من ينتظر الجواب وهناك من يعمل من أجل حسم الجواب. “القوات اللبنانية” من الفئة الثانية التي تراقب وتتصرف من أجل وأد الفتن. وزياراتها الى المراجع الدينية، الى مفتي زحلة والبقاع الشيخ خليل الميس، والى مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، وأخيرا وليس آخراً الى دار إفتاء طرابلس خير دليل. فماذا في أبعاد هذه الزيارة في هذه المرحلة بالذات؟

يجيب مستشار رئيس حزب “القوات اللبنانية” للعلاقات الخارجية ايلي خوري الذي كان مشاركاً في اللقاء في دار الإفتاء في طرابلس، بالقول: “أقسّم هذا الموضوع الى جزءين: دينامية “القوات” الدائمة وإيمانها بجدوى الحراك في اتجاه شركاء الوطن. وكون “القوات” اليوم في موقع المعارضة وهذا ما يجعلها تلتقي أكثر على ما يجمعها مع الشريك الآخر، و”القوات” وأهل طرابلس يجتمعون حول السيادة والاستقلال والعدل والعدالة والدولة الحرة”. ويستطرد خوري بالقول: “الوجود القواتي دائم في طرابلس، وإن اختلف حجمه لاعتبارات سياسية. لكن، في العام 2017 دخلنا الى السلطة التنفيذية من خلال وزارات فيها طابع خدماتي، وتوجهنا الى طرابلس، حيث لنا منسقية ورفاق وأخوان وأهل وجيران”.

هناك من يدرج هكذا زيارات لا سيما آخرها في إطار الإبقاء على الانفتاح على الطائفة السنية، في وقت أقفلت بعض الطاقات في العلاقة بين “القوات” والشيخ سعد (الحريري)؟ يجيب الدكتور مصطفى علوش: “طرابلس منفتحة طوال عمرها على الجميع، على المستويين السياسي والمذهبي، ولم تنغلق إلا فترات قصيرة جداً حين سيطرت عليها ظلاميات البعض. وزيارة “القوات” برأيي بروتوكولية لا سياسية لأن زيارة القيادات الدينية بروتوكولية لا سياسية. و”القوات” ليست في وارد “زكزكة” الشيخ سعد ولا هو ينزعج من هكذا زيارات. ناهيكم بأن الأمور بين “القوات” و”المستقبل” عادت أفضل بكثير مما يتصورها الناس. والتعليقات غير المفيدة التي سمعناها عولجت وأصبحنا في مكان آخر. يضيف: زيارة الأحزاب المسيحية مفيدة وهي تحصل في مكان غير مغلق. ويفترض أن توازيها زيارات إسلامية لها ذات الفعالية والعمق الى المرجعيات المسيحية”.

ايلي خوري يلتقي مع الدكتور مصطفى علّوش حول هذا الموضوع ويقول: “زمان الحرب، حدثت مضايقات أيام حزب التوحيد، لكن لم تحصل لا قبلها ولا بعدها حملات ممنهجة لإخراج المسيحيين من طرابلس. فهؤلاء، المسيحيون، استمروا في مدينتهم في الظروف الصعبة والهجرات التي تمت حصلت لأسباب إقتصادية وتربوية لا لأسباب أمنية، وتشارك فيها المسلمون والمسيحيون على السواء. والجوّ الحقيقي في طرابلس يشي به قيام المسلمين قبل المسيحيين بتسمية أربعة شوارع بأسماء مطارنة مسيحيين أخيراً. وبالتالي “شيطنة” طرابلس لا صحة لها على الإطلاق، على الرغم من كل مظاهر التطرف التي “تمظهرت” فيها أحياناً. وأبناء وبنات طرابلس المسيحيون يستمرون في مدينتهم طرابلس بكرامتهم عبر بعدين: البعد الروحي والإيماني من خلال وجود الكنائس. والبعد الإقتصادي حيث يتواجد المسيحيون في أفضل المؤسسات وأكبرها. وهناك أيضاً البعد السياسي حيث أن للمسيحيين مقعدين في المجلس النيابي”.

مقعدان مسيحيان لم يأتيا بممثلين حقيقيين من قلب طرابلس… فهل هذا يُرضي “القوات”؟ يجيب مستشار رئيس حزب “القوات اللبنانية” للعلاقات الخارجية: “مرّ احتلال على لبنان ووظفت المقاعد المسيحية في خلالها لمصالح إسلامية لكننا تمكنا في قانون 2018 مع شركائنا من الذهاب الى قانون انتخابي أكثر تمثيلاً، لكن ثمة تقصيراً مسيحياً في المشاركة، علما أنه كان ممكناً إيصال ممثلين حقيقيين للمسيحيين عبره”.

الكنائس في كل مكان. طرابلس زاخرة بالكنائس. كل الطوائف المسيحية لها كنائسها في طرابلس قبل أن تحمل طرابلس حتى اسمها. وطرابلس هذه سميت أيام الصليبيين، المدينة المقدسة. والمدينة المقدسة، عاصمة الشمال، حيكت لها في التاريخ والحاضر ألف قصة وقصة. يتكرر صوت قرع الأجراس. نتطلع صوب مشروع الحريري المطل، الذي كان القنص يطال قلب باب التبانة منه، فنلمح صليباً. ثمة صليب وراءه قبة وأمامه قبة. ثمة كنيسة متواضعة تُشكل في حضورها الجغرافي ما يُشبه خط تماس بين باب التبانة وجبل محسن. نقترب من الإسفنجة، من الكنيسة التي لطالما امتصت الكثير من الخلافات بين العلويين وأهل السنّة، فنرى درجاً متعرجاً يقود الى مدرسة عند مدخلها آرمة تُعرف بالمكان: مدرسة المطران. هي واحدة من خمس مدارس باسم المطرانية المارونية في قلب طرابلس، وواحدة من اثنتي عشرة مدرسة تنتشر بين شكا وحلبا.

جميلة هي طرابلس حقاً بتناغم سكانها وكنائسها وجوامعها. إبن طرابلس ومدير ثانويتها بشير خوري كان حاضراً في اللقاء بين وفد “القوات” ومفتي طرابلس ويقول: “أول رعية مارونية تأسست في طرابلس كانت في باب التبانة، أيام الحملات الصليبية. وكان كل من يعاني من أمراض مستعصية يوضع هنا، في مغارة سيدة الحارة. كان المرضى يُعزلون هنا ويمضون العمر وهم يصلون للسيدة العذراء. كثيرون شفوا وغادروا. وكثيرون من كل المحيط ومن كل الطوائف ما زالوا يصرون على زيارة سيدة الحارة في باب التبانة طلباً للشفاء. وتنازعت طوائف عدة هذه الكنيسة لكنها استمرت مارونية. وثمة فرمان معطى من السلطان سليمان الثاني القانوني يسمح بتطوير الكنيسة موقّع سنة 972”.

نرسم مجدداً إشارة الصليب أمام صورة العذراء. نتلو الأبانا والسلام في كنيسة باب التبانة. ثمة وجه جميل نتعرف عليه لأول مرة في موقع طالما اقترن بالحرب والدم والقتل والقنص. ثمة واحة محبة وسلام. ونتابع في الإصغاء الى بشير خوري: “نحن كمسيحيين جزء من النسيج الطرابلسي وهذه الزيارات الدينية والاجتماعية تدخل في باب الوحدة الوطنية والعيش المشترك، والتقارب في ظل الاوضاع السيئة التي تحوم فوق رؤوس المسلمين والمسيحيين على السواء والهم الاقتصادي الو نبقى في نطاق الهمّ الواحد والتقارب لنصغي الى ايلي خوري يقول: “وزعت منسقية القوات اللبنانية في طرابلس في ايام الأعياد الاسلامية قبل المسيحية حصصاً غذائية تفوق الألف”. فالله مع الجماعة. الله محبة. والمحبة تحيي.

رأي رئيس القسم الديني في دار الافتاء الشيخ فراس بلوط الذي شارك في اللقاء في طرابلس؟ يجيب: “التلاقي بين أفراد الوطن مطلوب وهو أضعف الإيمان في زمن يموت فيه المواطنون من الجوع، وما عادوا يفتشون عن صورة الزعيم إلا إذا كان السبب في استمرارهم بكرامتهم. وطرابلس (الحمدلله) مهملة منذ أعوام كثيرة ونسبة الفقر والبطالة فيها هائلة وأدخلت في تسونامي خطير”، ويستطرد: “ليست طرابلس وحدها واحة تلاقٍ بل كل لبنان أيضاً والبارحة قامت طرابلس في اعطاء أربعة شوارع جديدة أسماء أربعة مطارنة. فكلنا أبناء مدينة واحدة ونثق بأن أي مشكلة لن تُحل خلف المتاريس. فأسوأ الأزمات تُحل بالتلاقي الذي يزيد المودة”. ويضيف: “لدينا في الشمال وطرابلس شبكة خاصة تضم كل الطوائف باستثناء الشيعة لأن لا مرجعية دينية لهم في طرابلس”.

الشبكة التي تحدث عنها الشيخ بلوط تدعى الشبكة المستدامة للقادة الدينيين في شمال لبنان أسستها جمعية حوار للحياة والمصالحة، ويرأسها الأستاذ المحاضر لمادة الأديان في جامعة سيدة اللويزة الدكتور زياد فهد. فماذا يقول الانفتاح الديني في المدينة: “أطلقنا المبادرة قبل خمسة أعوام لتعزيز الصداقة والوحدة والتآلف والمعرفة بين القادة الدينيين على الأرض. فأسسنا لوجودنا كشبكة تلتقي في شكل مستدام حتى نعزز أصول التآخي والصداقة وعكس هذه الأصول على أرض الواقع. أردنا أن نعكس إيجابية التنوع وغناه بعيداً من التناحر السياسي الذي هو ما أدى الى الصورة البشعة وليست الأديان. فالأديان مصدر سلام. ويستطرد: “لسنا نحن من خلق العيش معاً في مدينة طرابلس بل نحن أضأنا على روعة وجمالية العيش معاً. ويهم هنا أن نعرف أن ليست الأديان التي تتحاور بل أتباع الأديان. نحن نريد إيصال رسالة الى أن العمل في سبيل حماية التنوع طويل الأمد وثماره لن تقطف على المدى المنظور. فهذه الرسالة كما شجرة الأرز تُزرع اليوم لكن تتفيأ تحتها الأجيال القادمة”. يتحدث فهد عن إكمال هذه الرسالة في الأشهر المقبلة بتشجيع من مؤسسة الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمية للحوار “كايسيد” وتندرج تحت عناوين ثلاثة: معاً نواجه جائحة كورونا كقادة دينيين. معاً نعزز أصول التلاقي والأخوة بين أتباع الأديان. معاً نواجه ونتصدى لخطاب الكراهية من أي مصدر أتى”.

بدأنا في زيارة “القوات اللبنانية” ووصلنا الى رسائل كثيرة تدور في الأذهان اليوم في طرابلس من أجل إرساء التلاقي والأخوة.

أحزابٌ مسيحية كثيرة اتجهت الى طرابلس تحت عنوان الإنفتاح والتلاقي ولكن، ثمة رسائل أتت إستفزازية. الطرابلسيون، مسيحيين ومسلمين، أكثر من يميزون.

نُقل إلينا أن الأب الأنطوني شكري خوري قال ذات يوم بوجوب التشبث في هذه الأرض، في طرابلس، وحين سُئل لماذا؟ أجاب: لأن الموارنة، والمسيحيين عموماً، إذا غادروا الميناء سيأتي يوم يغادرون كسروان”.