IMLebanon

الـ2020 محليًا: إملأ الفراغ بالكارثة المناسبة!

هذه المرة، لن يختلف اللبنانيون عن سائر شعوب العالم في وداع عام واستقبال آخر. على شاكلة أغلب سكان الكوكب الأزرق، ودع لبنان العام 2020 من غير أسف، كيف لا وهو الذي طبع حياتهم بأسوأ الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والسياسية، إلى جانب الجريمة الكبرى التي وقعت في مرفأ بيروت، حيث راح أكثر من 200 قتيل و6000 آلاف جريح ضحية الاهمال والتخاذل وتناتش المسؤوليات.

وإذا كان المرفأ وانفجاره الحدث الأبرز إطلاقا في خلال العام الذي يستعد للرحيل، فإن هذا لا ينفي أن العام 2020 حمل أيضا أحداثا كبرى تبدو الاضاءة عليها مهمة لفهم الأزمة الكبرى التي تتخبط فيها البلاد راهنا.

كما جرت عليه العادة منذ أعوام، انتقلت الألغام السياسية من 2019 إلى 2020، على رأسها أزمة تدهور سعر صرف الليرة أمام الدولار، التي لم يحلها تشكيل حكومة الرئيس حسان دياب إلا جزئيا. ذلك أن بعد طول مماطلة وتسويف، نجح الرجل المدعوم من حزب الله وحلفائه في تشكيل حكومة حرص على تأكيد أن تركيبتها تأتي استجابة لمطالب الثوار وتضم بين صفوفها اختصاصيين مستقلين عن القوى السياسية التي يرفضها الثوار. غير أن تصريحات دياب هذه لا تنفي أن الأحزاب الكبرى خاضت حربا ضروسا في سبيل المشاركة في الحكومة، كما لم تتأخر في التدخل في عملها وفرض قراراتها عليها، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالتعيينات. بدليل أن الحكومة التي نجحت في ملء الفراغ المرعب في مصرف لبنان وتعيين أعضاء مجلسه المركزي، وفيما كان يفترض ان تكون هذه الخطوة ذات طابع إصلاحي ،لم تخل من تصفية الحسابات السياسية، طبعت فضيحة هذه الجلسة. حيث أن الجميع يذكرون كيف أقدمت حكومة المستقلين على تأجيل موعد جلستها الوزارية لتعيين المرشح المدعوم من حركة أمل محمد أبو حيدر في مركز المدير العام لوزارة الاقتصاد.

وفي السياق عينه، وفي فشل جديد في إثبات استقلالية الحكومة، تعطل قطار التشكيلات القضائية، وتوقف في محطة قصر بعبدا في انتظار توقيع رئيس الجمهورية، مع العلم أن وزيرة العدل ماري-كلود نجم تأخرت في إبداء موافقتها على هذه التشكيلات، بحجة عدم احترامها معايير موحدة، مع العلم أنها كانت المرة الأولى التي يضع فيها مجلس القضاء الأعلى هذه التشكيلات بعيدا من التدخلات السياسية.

على أي حال، وفي انتظار توقيع عون على التشكيلات القضائية، من المفيد التذكير بأن حكومة الرئيس دياب راكمت إشارات الفشل في اتجاه المجتمع الدولي، حيث أطيحت المفاوضات الضرورية لإنهاء الكارثة الاقتصادية، مع صندوق النقد الدولي بكثير من الضربات. وتأتي على رأس هذه الأخيرة الفوارق الكبيرة بين أرقام خطتي الحكومة ومصرف لبنان في شأن تقدير الخسائر المالية، ما عطل المسار في وقت كان حزب الله يرفع سقف شروطه الرافضة أي مفاوضات مع الصندوق، على اعتبار أن من شأن ذلك أن يؤدي إلى فرض شروط قاسية لا يستطيع اقتصاد لبنان الهش تحملها.

غير أن الأهم يكمن في أن لبنان الذي أقر موازنة العام 2019 التي أعدتها الحكومة الحريرية في جلسة تاريخية حضرها الرئيس دياب ممثلا وحيدا للحكومة، تخلف عن دفع سندات اليوروبوندز للدائنين الأجانب، ما أطاح الثقة الدولية بلبنان وجعل اقتصاده وعملته يسجلان تراجعات مخيفة كوت القدرة الشرائية للمواطنين، فيما كانت تتراكم نكسات إنهيارات الليرة أمام الدولار، ويرفع مستوردو الأدوية والطحين والمحروقات صوت الاحتجاج على الخسائر التي يقولون إنهم يسجلونها، مع العلم أن المصرف المركزي كان يدعم استيراد هذه المواد لئلا تنقطع من السوق. لكن الأزمات كان تحل سريعا بإسكات “الزعماء” الأصوات المعترضة هذه.

على أن خطوة دعم المحروقات والمواد الأساسية، مع ما يعنيه ذلك من مس خطير بالاحتياطي الالزامي، لم يمنع الساسة، وعلى رأسهم فريق العهد ورئيس الحكومة وداعموهما، من شن حملة على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بحجة إخفاء الأرقام الحقيقية للخسائر التي سجلها المصرف على مدى السنوات الأخيرة. ولا شك في أن هذا النوع من الممارسات فاقم الضيق الاقتصادي والاجتماعي، على وقع أزمة كورونا التي انطلقت في لبنان في 20 شباط مع وصول سيدة لبنانية حاملة الوباء من ايران، حيث كانت الجائحة تنتشر بسرعة البرق.

على أن الموضوعية تقتضي الاعتراف للبنان وحكومته بأنه نجح في احتواء المرحلة الأولى من انتشار الوباء عبر حجر صحي امتد على ثلاثة أشهر، شمل وقف حركة المطار لمنع “استيراد الاصابات”. إلا أن هذه الخطوة لم تخل من الدعسات الناقصة، والقرارات غير المدروسة التي أفشلت الحجر الثاني، الذي انطلق في تشرين الثاني تزامنا مع اتساع رقعة انتشار الجائحة، خصوصا بعد كارثة مرفأ بيروت…

والواقع أن ما جرى في 4 آب أكثر من كارثة… إنه النكبة الكبرى التي عرفها لبنان في تاريخه الحديث. فمساء الثلثاء 4 آب 2020، السادسة وسبع دقائق مساء، وقع ما لم يتوقعه اللبنانيون من سلطة نعتوها عن حق بكل صفات الفساد والفشل. انفجرت كمية قدرت بـ 2750 طنا من مادة نيترات الأمونيوم كانت مكدسة بشكل غير مدروس في العنبر 12 من مرفأ بيروت، فكان الأسوأ: بيوت مهدمةـ ضحايا بالمئات، بنايات سويت بالأرض، 6000 جريح، مستشفيات تهدمت بالكامل، وأخرى ما عادت قادرة على استيعاب الجرحى والمتضررين، وقد تشرد كثيرون منهم. في لحظة تحولت بيروت من مدينة الحياة والفرح إلى مدينة أشباح تملأوها رائحة الموت، والوجع والدم… كيف لا وقد أطاح الانفجار بـ 10 من عناصر فوج الاطفاء في بيروت من خيرة شباب وشابات هذا الوطن، إضافة إلى مئات لم يقترفوا إلا… ذنب أنهم كانوا موجودين في المكان الخاطئ في التوقيت الخاطئ. هكذا خسر لبنان ملاك الثورة الطفلة ألكسندرا نجار، وبسمة إبن الـ 15 ربيعا الياس الخوري، الذي رفضت أمه  فكرة الهجرة، وشباب الدفاع المدني جو بو صعب، وجو نون، ورالف ملاحي وسحر فارس، والأمين العام لحزب الكتائب نزار نجاريان، على سبيل المثال، لا الحصر.

لا شك في أن أقسى ما علمتنا إياه التجربة يكمن في أن في لبنان… حياة الانسان يمكن أن تنتهي في لحظة لا يتوقعها أحد، لمجرد أن يقرر المسؤولون إهمال واجباتهم عمدا. لكن الأهم يكمن في أن الدولة والسلطات الرسمية غائبة تماما، وأن المجتمع المحلي والقطاع الخاص والنخوة الانسانية هي مفتاح حلول المواطن اللبناني. بسرعة نهضت بيروت الجريحة جزئيا من نكبتها بفضل ناسها وأبناء هذا الوطن، في وقت كان من يفترض أنهم “مسؤولون” مشغولون بخوض حرب تقاذف المسؤوليات وتهم التقصير. وفي السياق، لا يزال كثيرون يتذكرون كلمة رئيس الجمهمورية ميشال عون الذي قال بعد أيام على النكبة إنه علم بوجود المواد الخطرة قبل حصول الانفجار، لكن لا صلاحية له في مرفأ بيروت، بينما أعلن مدير عام الجمارك بدري ضاهر أنه راسل السلطات القضائية المعنية محذرا من خطورة المواد المكدسة في مرفأ بيروت، من غير جواب، في وقت أعلن وزير الأشغال ميشال نجار أنه علم أيضا بوجود هذه المواد قبل مدة من النكبة… في المقابل، حرص الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله على تأكيد أن لا علاقة للحزب بما جرى في المرفأ، ذاهبا إلى حد القول إنه يعرف ما في مرفأ حيفا أكثر من مرفأ بيروت.

ولأن “الصبي ما في إلا على خالتو”، لم تجد السلطات القضائية إلا الرائد جوزف النداف لتوقفه، مع العلم أنه كان أول من حذر من انفجار هذه المواد المكدسة في المرفأ منذ العام 2013، وقد وصلت على متن الباخرة روسوس، مع العلم أن هوية صاحب هذه البضاعة الخطرة لا تزال غارقة في المجهول.

على أن النكسة القضائية لم تكن الوحيدة التي تلقاها اللبنانيون، بعد الانفجار. فالأهم يكمن في أن الكارثة أظهرت العقم والفراغ السياسي المرعب الذي تعيش فيه البلاد. ففي ظل الغياب التام للمسؤولين بدا الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي زار بيروت شخصيا غداة الكارثة خشبة الخلاص للبنانيين الذين طافوا لملاقاته في شوارع الجميزة مطالبين بمساعدة دولية للتخلص من طبقة سياسية قتلتهم، مع العلم أن بعض النواب يشاركون الناس هذه النظرة، بينهم الكتائب وعدد من النواب المستقلين. فما كان منهم إلا أن استقالوا من المجلس للدفع في اتجاه الانتخابات المبكرة، كما تطالب الثورة. وإذا كان هذا المطلب لم يجد السبيل بعد إلى التطبيق، فإن حكومة دياب سجلت أيضا استقالات كثيرة، دفعت رئيسها إلى التخلي عن منصبه، غداة مواجهات دامية وعنيفة بين آلاف المتظاهرين وقوى الأمن الداخلي، بعيد الانفجار. وفي محاولة لامتصاص الغضب الشعبي ، أكد دياب أن حكومته ستعمل على إنجاز الانتخابات المبكرة، فحاك بري مخرج استقالة الحكومة. فإنطلق بذلك مسار تأليف حكومة جديدة بعد اجتماعين عقدهما ماكرون مع أركان الطبقة السياسية في السفارة الفرنسية، في بيروت، في 6 آب و1أيلول، ووافقوا في خلالهما على تشكيل حكومة اختصاصيين مستقلين تعمل على وضع الاصلاحات على السكة. هذه الخطة التي عرفت باسم المبادرة الفرنسية تلقت نكسات كبيرة باعتذار السفير مصطفى أديب عن المهمة بعدما كبله حزب الله بشروطه التعجيزية، وهو ما يواجهه اليوم الرئيس سعد الحريري الذي بادر إلى إعلان نفسه مرشحا طبيعيا لرئاسة الحكومة.

وفي انتظار التشكيل، فضائح ومطبات كثيرة، تبدأ مع تحذير رئيس الجمهورية من أننا “رايحين على جهنم”، ما لم تؤلف الحكومة سريعا، إضافة إلى العقوبات الأميركية على رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، والعراقيل التي زرعت على طريق التحقيق في جريمة المرفأ، خصوصا بعد ادعاء القاضي فادي صوان على دياب ووزيري الأشغال السابقين غازي زعيتر ويوسف فنيانوس، قبل أسبوعين. مع العلم أن دياب، مدعوما من أركان الطائفة  السنية، تذرع بالمس بموقع رئاسة الحكومة لعدم تلبية طلب صوان، بينما طلب الوزيران السابقان كف يد صوان عن الملف، بذريعة ما يسمى “الارتياب المشروع”.