IMLebanon

الاستعمار الجديد (بقلم الدكتور جورج شبلي)

إنَ الأصل اللّغوي لكلمة “إستعمار” يفيد معنى طلب التَعمير، أو السعي الى تحقيق العمران. لكنَ الواقع الحقيقي لهذه اللفظة لا علاقة له بالمعنى اللغوي القاموسي، إذ يعني استيلاء دولة على دولة أخرى لِنَهب ثرواتها واستثمار مَرافقها، أو لجعلها مَحميَة مَسلوبة الحرية لإدارتها،  مباشرةً أو من خلف الستار.

في بدايات القرن الماضي، فرضت علينا الدول القوية صيغةً اعتبرتها المرجعيَات الدولية الفاعلة آنذاك، الحلَّ الإيجابي لمدمكة الكيان الوطني، وهو ما عُرف يومها بالإنتداب. فكان لبنان من “حصَة ” فرنسا. وبالرغم من الإيجابيات الحضارية التي تركتها بصمات الإنتداب عندنا، من ترسيخ مبادئ الثورة الفرنسية، الى الإنفتاح على ثقافة الغرب الغنيَة، غير أنَ التحرَريّين من أهلنا خاضوا مواجهات جَسورة مع ما اعتبروه استعماراً مرفوضاً، لأنهم طلاَب حرية، بل عُشّاق حريّة.

واليوم، نحن أمام مشروع مشبوه يرمي الى فرض استعمار جديد، لكنَه ليس بالطبع فرنسياً. فأصحاب هذا المشروعِ البَلَديّون يتوسَلون الخطاب الأيديولوجي الذي لا يتردد في تثوير العواطف، وتوظيف العنصرية الدينية، وهو خطاب استنهاضيّ شاحِذٌ لِهمم الانقلاب على الدولة بصيغتها الراهنة. ويرفع خطابهم، في الظاهر، منسوبا من الشعارات الجاذبة التي تدغدغ استمالة الناس، كالسّعي للخروج من نَفق التخلَف، وتحقيق الإصلاح السياسي والإقتصادي، ومحاربة الفساد والفاسدين، وردم الهوَة بين السلطة والشعب، واستعادة كرامة الأمَة….. وهي في حقيقتها تشكَل تَمويها ذكيَا لتسويق بنود أجندة خارجية  تسعى الى بسط حيثية “كولونيالية” جديدة تذكَرنا بسياسة التتريك التي مارستها السلطنة العثمانية ضد الشعوب العربية في زمن الإنحطاط .

ولمّا كان قَدَر لبنان أن يكون فريسة في أشداق القوى الإقليمية، ولمّا كان ذا موقع استراتيجي متقدَم، عمل مُمتهِنو الأزمات على التمهيد لغزوٍ من نوع آخر، في إطار خطَة مبرمجة تبدأ بالهيمنة الأمنية التي تتمَ على أيديهم، بالتّرهيبِ والتهديد، وتُستتبَع بهيمنة سياسية، عملاً بالعِرف السائد بأنَ مَنْ تمَ استعماره أمنياً، سيُستعمَر بالضرورة في سائر المجالات الأخرى. وهذا يعني هيمنة إستعمارية جديدة أو نيوإمبريالية، قوامها هدم مكتسبات الإنفتاح على الحضارة العالمية، من حرية وعدالة وحقوق، وبالتالي، عودة الى نظام الخلافة الذي يَسترشد بمناهج الآيات العظمى .

لكنَ الإستعمار الجديد سوف يُثبت أنَه أسوأ من سَلَفه. وذلك انطلاقا من إنكاره للهوية الوطنية، وتهميشه للشرعية الدولية برفض كلّ ما صدرَ عنها من قرارات ذات صلة بقضيتنا، واستبداله الديمقراطية بتيوقراطية راكدة. وما مجاهرة القادة المَحليّين المعروفين بولائهم لمرجعيَات دينية وسياسية وراء الحدود، سوى برهان ساطع على أنَ كلامهم عن “الوطنية” لم يكن إلاّ أقراصاً منوِّمة. إنَ هذا الإستعمار الذي ارتدى عباءة المساعدات والعمارة، يلجأ الى البروباغاندا المُغرِضَة، أي الدعاية البرّاقة لاستقطاب العقول البائسة، باستخدام شعارات جاذِبة ما لبثت أن اتّضَحت خلفيَاتها أو نواياها المدمِّرة لكيانِ الوطن.

إنَ بعض الداخل العَميل، وبعض الخارج الأَرعن، يتطلَع الواحد منهما صوب الآخر، لكنهما  يتطلَّعانِ، معاً، في اتجاهٍ واحد يستهدفنا، وهو فتح باب جهنم.