IMLebanon

ما جديد “مبادرة ماكرون ـ 2″؟

كتب ميشال أبو نجم في “الشرق الأوسط”:

«إنه ضوء ضعيف في النفق اللبناني المعتم»، هكذا شبهت مصادر فرنسية عودة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى واجهة الحدث السياسي اللبناني بعد مرور نحو أربعين يوماً على زيارته الثالثة «المؤجلة» إلى بيروت التي كانت مقررة يومي 22 و23 كانون الأول الماضي، بسبب إصابته بـ«كوفيد-19». وطيلة هذه الفترة، خفت الحراك الفرنسي عالي المستوى بعد «النكسة» التي أصيبت بها مبادرة الرئيس الفرنسي «الإنقاذية» التي غرقت في رمال السياسة اللبنانية المتحركة، وضاعت بين الشروط والشروط المضادة، وفي تعقيدات الأزمة الإقليمية والدولية. ولكن جاءت التصريحات التي أدلى بها الجمعة الماضي لتنفض الغبار عنها، وتحرك المياه اللبنانية الراكدة. وحمل كلام ماكرون ثلاثة عناصر: عزمه على زيارة لبنان مجدداً، واستمرار المبادرة الفرنسية «الوحيدة» المطروحة على الطاولة، وخفض سقف المعايير التي وضعها سابقاً لتشكيل الحكومة العتيدة.

وتقول المصادر الفرنسية إن إصرار الرئيس ماكرون على مبادرته يعود إلى عاملين رئيسيين: الأول أنه وعد اللبنانيين في زيارتيه إلى بيروت، في 6 آب والأول من أيلول الماضيين، بـ«عدم التخلي» عنهم، وهو عازم على أن يفي بوعده؛ والثاني التدهور الخطير الذي انزلق إليه الوضع اللبناني في كل مناحيه الصحية والاقتصادية والمالية والأمنية والاجتماعية، وانعدام حس المسؤولية لدى الطبقة السياسية اللبنانية التي ندد مجدداً بفسادها. بيد أن زيارة ماكرون المرتقبة تبدو حتى اليوم زيارة «مشروطة»، إذ إنه ربطها بـ«التحقق من أمور أساسية». وحتى اليوم، لم يفصح الرئيس الفرنسي (أو مصادره) عن طبيعة هذه «الأمور»: هل تتمثل في تأكده من أن الطبقة السياسية اللبنانية التي حنثت بالتزاماتها إزاء استعدادها للسير في «خريطة الطريق الإنقاذية»، كما عرضها في اجتماع شهير ليل الأول من سبتمبر (أيلول) في قصر الصنوبر، ستكون هذه المرة أكثر تعاوناً، وستفضل المصلحة العامة وإنقاذ لبنان على مصالحها الشخصية أو الفئوية، أم أن ماكرون حصل على «تطمينات» أو «ضمانات» خارجية من الأطراف المؤثرة في الملف اللبناني؟

بداية، تعد المصادر المشار إليها أن ماكرون «يراهن بمصداقيته ومصداقية بلاده» في لبنان والشرق الأوسط، بل في الداخل الفرنسي، حيث انصبت عليه الانتقادات، وأخذ عليه أنه وضع رجله في فخ، من غير أن يحسب حساب الرجعة. ويجدر التوقف عند ردة فعل وسائل الإعلام الفرنسي التي هللت لانخراطه في الملف اللبناني، لكنها لم تتردد في توجيه انتقادات لاذعة لـ«مغامرته» اللبنانية. من هنا، ترجح هذه المصادر أن يكون ماكرون قد حصل على «ضوء أخضر» أو وعود خارجية بتسهيل مهمته، قبل أن يغامر بتأكيد استمرار مبادرته وعزمه على الذهاب إلى بيروت مجدداً. صحيح أن ماكرون بين في السنوات الأربع المنقضية من عهده أنه يحب «الضربات» الدبلوماسية التي تصل أحياناً إلى حد المغامرة، والدليل على ذلك رهانه على التقارب مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، أو استمالة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أو لعب دور حاسم في الملف النووي الإيراني. لكن ثمة أمثلة أخرى كثيرة تبين أن رهاناته كانت متسرعة، أو على الأقل لم تؤتِ ثمارها الموعودة.

وينبه دبلوماسي عربي في باريس إلى أنه «من الصعب» تصور أن ماكرون يغامر مجدداً في لبنان، ويعرض نفسه وشعبيته وصدقية بلاده لنكسة سياسية ودبلوماسية. ويضيف هذا الدبلوماسي أن كلام ماكرون عن لبنان جاء مباشرة بعد الاتصال الهاتفي المطول مع الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن، الذي دام ساعة كاملة، وباللغة الإنجليزية.

وجاء في بيان الإليزيه، في 24 كانون الثاني أن ماكرون وبايدن «تحققا من التوافق على العمل معاً من أجل السلام والاستقرار في الشرقين الأدنى والأوسط، وتحديداً بخصوص الملف الإيراني والوضع اللبناني»، كما أنهما «اتفقا على دوام التواصل الوثيق بشأن هذه المواضيع». لذا، فإن المرجح أن يكون ماكرون قد حصل من بايدن على ما حجبه عنه ترمب الذي اتصل به قبل إطلاق مبادرته اللبنانية، كما أنه كان قد اتصل بالرئيس الإيراني حسن روحاني للغرض نفسه.

وفي الأيام الأخيرة، نشطت باريس اتصالاتها بواشنطن، إذ حصل اتصال بين وزيري خارجية البلدين، كما أن روبير مالي، المولج حديثاً إلى الملف الإيراني في البيت الأبيض، تشاور مع الخارجية الفرنسية، فيما وزيرة الدفاع فلورانس بارلي تتأهب للتوجه إلى واشنطن. وتعول باريس، وفق ما أشارت إليه مصادر رئاسية الأسبوع الماضي، على «واقعية» أميركية جديدة في لبنان، ما يعني رغبة فرنسية بألا يبقى لبنان «جزئية» في سياسة «الضغوط القصوى» الأميركية على طهران، وربما التساهل في ملف حضور «حزب الله» في الحكومة العتيدة. والواقع أن واشنطن لم تكشف بعد عن تصوراتها «الجديدة» للمف اللبناني الذي ليس من أولى أولوياتها. ولذا، فإن الترقب يبقى سيد الموقف.

وفي السياق عينه، تطرح أسئلة حول مواقف طهران التي انتقدت مؤخراً ماكرون، لمطالبته ضم المملكة العربية السعودية إلى المفاوضات المرتقبة بشأن ملفها النووي. وذهبت الصحف الإيرانية، ومنها «طهران تايمز»، إلى اعتبار أن ماكرون «ورث» دور الرئيس ترمب، بسبب تشدده.

وتتساءل المصادر الفرنسية: «هل نحن أمام مبادرة ماكرونية رقم 2»؟ السؤال مشروع بسبب قول الرئيس الفرنسي إنه سيبذل قصارى جهده لتتشكل حكومة جدية «حتى إن لم تستجب هذه الحكومة للمعايير كافة».

وهذه العبارة شغلت الطبقة السياسية اللبنانية التي تتساءل عن «المعايير» التي سيتخلى عنها ماكرون، والتي كانت -إلى حد كبير- سبباً في اعتذار السفير مصطفى أديب عن تشكيل الحكومة، كما أنها أعاقت مهمة الرئيس المكلف سعد الحريري؛ هل «حكومة المهمة» من اختصاصيين ستتراجع إلى حكومة «تكنو-سياسية»، بما يرضي المعترضين من «التيار الوطني الحر» و«حزب الله»، أم في الثلث المعطل، أم في مضمون البرنامج الإصلاحي أو الخطة الإنقاذية التي طرحها ماكرون نفسه…؟

الواقع أن أحد الدوافع الفرنسية الرغبة في ملء الفراغ المؤسساتي في لبنان الذي تعد أنه لا يستطيع الاستمرار بحكومة تصريف أعمال فيما كرة الثلج الكارثية تكاد تقضي عليه، وفيما الطبقة السياسية تعيش حالة إنكار. بيد أن قصور مقاربة ماكرون السابقة مردها أنها افتقدت لأوراق ضغط كافية من جهة، ولـ«إغراءات» كفيلة بتحفيز الطبقة السياسية اللبنانية، ومن وراءها، للسير بالمبادرة إلى خواتيمها. وليس من المؤكد أن ما افتقدته الصيف الماضي قد توافر لها اليوم، لا لجهة أوراق الضغط ولا لجهة المغريات. وتبقى الأنظار شاخصة لما سيؤول إليه الملف النووي الإيراني في عملية لي الذراع بين واشنطن وطهران، لما له من انعكاسات على الوضع اللبناني.