IMLebanon

ملامح السياسة الخارجية الأميركية الجديدة

كتب مسعود معلوف في “الجمهورية”:

منذ أيام قليلة، حضر الرئيس جو بايدن الى مبنى وزارة الخارجية الأميركية، حيث ألقى خطاباً شاملاً، أوضح فيه الخطوط العريضة للسياسة الخارجية الأميركية التي ينوي اتباعها في السنوات الأربع من ولايته، مركّزاً على التغييرات الأساسية التي سيُدخلها على سياسة سلفه الرئيس دونالد ترامب، وذلك في الأسلوب كما في المضمون.

ـ أولاً، في الأسلوب:

مرات عدة كان الرئيس دونالد ترامب يفاجئ الجميع، في الداخل كما في الخارج، بمواقف سياسية في الشؤون الدولية، عبر تغريدات يطلقها في الصباح الباكر على حسابه في منصّة التواصل الإجتماعي “تويتر”، من دون أي تنسيق مع الإدارات الأميركية المعنية بالموضوع، مثلما فعل مثلاً عندما أعلن في أحد الأيام، قراره بسحب القوات العسكرية الأميركية من سوريا، ما أدّى إلى استقالة وزير الدفاع آنذاك جون ماتيس ووقوف القيادة العسكرية العليا ضدّ هذا القرار غير المدروس، ما اضطر ترامب الى التراجع عنه.

صحيح أنّ النظام السياسي في الولايات المتحدة هو نظام رئاسي، وبالتالي، إنّ الرئيس هو المرجع الأعلى لتحديد مضمون السياسة الخارجية ومواقف الدولة من مختلف القضايا العالمية، والوزارات والإدارات المعنية تنفذ القرارات الرئاسية، إلّا أنّ مثل هذه القرارات والمواقف تُتخذ بعد درس الموضوع مع الوزارة أو الإدارة المختصة، التي تقدّم خيارات عدة للرئيس، وهو يتخذ بالنتيجة القرار الذي يتناسب مع قناعته.

أسلوب ترامب في تحديد السياسة الخارجية سينتهي حتماً مع بايدن. والرسالة الواضحة التي شاء الرئيس الجديد إعطاءها في هذا الخصوص، كانت قدومه شخصياً الى مبنى وزارة الخارجية، وإعلانه في وضوح تام في خطابه دعمه للديبلوماسيين الأميركيين، والتشديد على عودة الديبلوماسية، كطريقة أساسية في صوغ السياسة الخارجية الأميركية في عهده، في الوقت الذي كان ترامب يعتبر ديبلوماسيي وزارة الخارجية جزءاً من الدولة العميقة، ولم يكن يثق بهم ويشك في ولائهم له، كما أنّه قلّص موازنة وزارة الخارجية وبعض السفارات، الى درجة أنّ عدداً من السفراء والديبلوماسيين استقالوا من الوظيفة احتجاجاً على طريقة ترامب في التعاطي معهم.

جدير بالتذكير هنا، كيف أنّ ترامب طرد وزير خارجيته الأسبق ركس تيلرسون بتغريدة على “تويتر”، ثم ما لبث أن نعته بالغبي والأحمق، مثلما فعل لاحقاً مع مستشاره للأمن القومي جون بولتون ووزير الدفاع جون ماتيس وغيرهما من المسؤولين الكبار في إدارته. كما أنّه طرد سفيرته في أوكرانيا ماري يوفانوفيتش بطلب من محاميه الخاص رودي جولياني، لأنّها لم تتجاوب مع هذا الأخير في تقديم طلبات غير قانونية الى الرئيس الأوكراني، للحصول على معلومات كان يُعتقد انّها تضرّ بالمرشح الرئاسي آنذاك جو بايدن.

التغيير الآخر في الأسلوب ظهر في الأشخاص الذين اختارهم بايدن في وزارة الخارجية بدءاً بالوزير انطوني بلنكن ومساعديه الكبار، الذين يتمتعون بخبرة واسعة في الشؤون الدولية ومشهود لهم برصانتهم ومهنيتهم، وليس بولائهم الأعمى للرئيس، مثلما كان يختار ترامب معاونيه ويطرد من لا يدين بالولاء التام له.

ـ ثانياً، في مضمون السياسة الخارجية:

لقد شاء بايدن أن يوضح في خطابه أنّه سيقلب كثيراً من المواقف التي كان اتخذها ترامب، كما أنّه أنجز عدداً من التغييرات عبر توقيعه قرارات رئاسية تنفيذية منذ الأيام الأولى لتسلّمه السلطة، من بينها العودة الى اتفاق باريس للمناخ، وإلغاء قرار حظر دخول مواطني عدد من الدول ذات الأكثرية المسلمة الى الولايات المتحدة، والعودة الى منظمة الصحة العالمية وغيرها.

سأستعرض في ما يلي في اختصار بعض المواقف الأساسية التي أطلقها بايدن في خطابه للسياسة الخارجية:

-سيعزز بايدن علاقة بلاده مع الحلفاء التقليديين مثل دول الجوار (كندا والمكسيك) ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو) ودول الإتحاد الأوروبي، في سبيل التعاون في القضايا الأساسية و تعزيز الديموقراطية، بعد أن كان ترامب يكيل الإنتقاد لرؤساء هذه الدول ورؤساء حكوماتها.

ـ سيكون حازماً مع روسيا، وسيحاسبها على تدخّلاتها في الإنتخابات الرئاسية وقرصنتها لعدد من الإدارات الأميركية بما فيها إدارات أمنية، ولتسميمها بعض معارضي الرئيس فلاديمير بوتين، مثلما حصل في بريطانيا للمعارض سكريبال، ثم للمعارض الشهير الكسي نافالني الذي حُكم عليه بالسجن بعد شفائه من التسمّم الذي تعرّض له.

ـ بالنسبة الى الصين، سيكون حازماً في مواجهتها ومتعاوناً معها حيث يقضي الأمر،علماً أنّه وصف الصين بأنّها منافس كبير للولايات المتحدة، ولم يصفها بالعدو أو الخصم، مما قد يفسح المجال لمعالجة الخلافات بإيجابية، بعد أن كان ترامب باشر عهده بإعلان حرب تجارية على الصين. وجدير بالتوضيح، أنّه بعد خطاب بايدن بيومين، أجرى عضو في المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني ومدير مكتب اللجنة المركزية للشؤون الخارجية، مكالمة هاتفية مع وزير الخارجية الأميركية أنطوني بلنكن، للبحث في القضايا الخلافية وفي طرق معالجتها.

– بالنسبة الى منطقتنا، انتقد بايدن بشدة الحرب على اليمن، مشيراً الى العدد الهائل من الضحايا المدنيين، كما أعلن وقف الدعم الأميركي لهذه الحرب وتجميد صفقة سلاح لكل من السعودية والإمارات كان ترامب قد وافق عليها قبل انتهاء ولايته، كما أنّه قلّل بعض العقوبات التي فرضها ترامب في الأيام الأخيرة من عهده، بعد أن أعلن وزير خارجيته تسمية الحوثيين منظمة دولية إرهابية، مع ما يرافق ذلك من عقوبات، وبايدن سيشكّل لجنة لدرس هذا الموضوع، تمهيداً لرفع هذه التسمية عن الحوثيين.

– من جهة ثانية، أكّد بايدن استعداد الولايات المتحدة للدفاع عن السعودية في حال تعرّضها لأي اعتداء خارجي، والمقصود هنا اعتداء إيراني، وإن لم يقل ذلك علناً، وفي ذلك تأكيد مبطّن لاستمرار التحالف الأميركي ـ السعودي.

– بالنسبة الى إسرائيل، لم يتحدث بايدن عنها في خطابه، ولكن من المعروف أنّ بعض قرارات ترامب لن تغيّرها الإدارة الجديدة، مثل الإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها. هذا وقد اتخذ مجلس الشيوخ الأميركي قراراً بتاريخ الخامس من الشهر الجاري بأكثرية ساحقة (97 -3) لإبقاء السفارة الأميركية في القدس ولن يستطيع بايدن، حتى لو أراد، أن ينقض هذا القرار، لأنّ مجلس الشيوخ يمكنه تجاوز النقض بأكثرية الثلثين وهذا الأمر مضمون. إلّا أنّ السياسة الأميركية الجديدة تؤيّد حل الدولتين وستعطي دوراً للفلسطينيين، بعد أن ألغى ترامب أي اهتمام بقضيتهم وأقفل مكتب فلسطين في واشنطن، وألغى مساهمة بلاده في موازنة وكالة “الأونروا”، وسمح لإسرائيل بضمّ الجولان السوري المحتل والأراضي الفلسطينية المحتلة الى أراضيها، ومعروف أنّ بايدن لا يوافق على هذه المواقف. من جهة ثانية، لا بدّ من الإشارة الى أنّ بايدن لم يتصل بعد برئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو، مع أنّه اتصل بالعديد من رؤساء الدول والحكومات الآخرين، ويبدو أنّ سبب ذلك عائد الى أنّ نتنياهو تأخّر كثيراً في تهنئة بايدن بفوزه على ترامب. كما أنّ بايدن يخشى أن يستغل نتنياهو إتصاله به ليوظفه في حملته الإنتخابية الشهر المقبل.

– أما بالنسبة الى إيران، فإنّ بايدن لم يأتِ على ذكرها إطلاقاً في خطابه، على الرغم من تأكيده في حملته الإنتخابية عزمه العودة الى الإتفاق الذي أخرج ترامب الولايات المتحدة منه، وقد يكون السبب في ذلك عائداً الى أنّ بايدن لا يريد الإلتزام بموقف أميركي رسمي، قبل معرفة نتيجة مساعي الحلفاء الأوروبيين مع إيران في هذا الخصوص والتأكّد من الموقف الإيراني الصريح من الإتفاقية.

– كذلك لم يتطرق بايدن في خطابه الى موضوع العراق، ربما لأنّ كان له، عندما كان نائباً للرئيس باراك أوباما، مواقف غير مقبولة في هذا الموضوع، مثل تقسيم العراق الى ثلاث دول، وقد لاقى هذا الإقتراح في حينه معارضة شرسة وانتقادات قوية، وقد تكون إدارته حالياً تعدّ سياسة جديدة تجاه العراق، ربما مرتبطة بالملف الإيراني.

– مع أنّ لبنان لم يُذكَر لا من قريب ولا من بعيد في خطاب بايدن، ربما لأنّه ليس من أولويات السياسة الخارجية الأميركية في الوقت الحاضر، إلّا أنّ وزير الخارجية بلنكن، أصدر بياناً مشتركاً مع نظيره الفرنسي جان ايف لودريان في الرابع من الشهر الجاري، يؤكّدان فيه دعم بلديهما للشعب اللبناني في مناسبة مرور ستة أشهر على تفجير مرفأ بيروت، والإستمرار في تقديم المساعدات الصحية والتربوية والسكنية والغذائية للبنان. كما أكّد البيان حرص الدولتين على إنجاز التحقيق في اسباب التفجير، مشدّدين على أن يعمل القضاء اللبناني بشفافية تامة، بعيداً من التدخّلات السياسية، وشدّدا على ضرورة التزام الأفرقاء اللبنانيين بتعهداتهم، لتأليف حكومة فاعلة ولها صدقية، من أجل تمكين فرنسا والولايات المتحدة والشركاء الإقليميين والدوليين من تقديم دعم أساسي وطويل الأمد للبنان. كذلك أصدرت الخارجية الأميركية في اليوم نفسه بياناً قوي اللهجة، ندّدت فيه باغتيال الناشط اللبناني لقمان سليم، وطالبت المسؤولين اللبنانيين من سياسيين وقضائيين، محاسبة “أولئك الذين يقومون بأعمال بربرية كهذه”، وذلك من دون إبطاء وبلا استثناء أحد. في هذين البيانين ما يدلّ الى اهتمام الإدارة الأميركية بلبنان رغم عدم كون هذا البلد ضمن أولويات السياسة الخارجية الأميركية.

– أخيراً، شدّد بايدن في خطابه على أمور أخرى في سياسته الخارجية، مثل دعم المثليين وقبول أعداد أكبر من اللاجئين، خلافاً لسياسة ترامب في هذا الشأن.

في الختام، لا بدّ من التوضيح، أنّ هذه الأمور تشكّل التوجّهات العامة للسياسة الخارجية الأميركية، وكل موقف من هذه المواقف سيتمّ درسه بتعمق في وزارة الخارجية، بغية إعداد تقارير تُعرض على بايدن لاتخاذ القرارات المناسبة في شأنها وتنفّذها الوزارة عبر السفارات الأميركية في الخارج وفقاً للأصول، وليس كما كان يتصرف الرئيس السابق ترامب وفقاً لأهوائه.