IMLebanon

تسويات للوطن أو صفقات ضدّه؟

كتب النائب السابق فادي كرم في صحيفة نداء الوطن:

أتابع باستمرار تصريحات ومواقف الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون، وكذلك مواقف الإدارة الأميركيّة، والسياستين الإسرائيلية والخليجية، بغية وضع قراءتي للواقع اللبناني. لم أنفكّ يوما عن مثل هذه المتابعات. كنت مقتنعا وما زلت، أنّ من يريد أن يعرف أين هو لبنان في الفكر الدولي، يجب أن يقرأ مواقف الأطراف الأساسيّة المعنيّة بالملف اللبناني. هذا لا يعني، بالنسبة لي، مواقف الأطراف الطارئة كإيران وسوريا وتركيا مع إحترامي الكلي لأدوارها في هذه المنطقة. أقول ذلك لسبب بسيط وواضح وهو طريقة تحديدي للطّرف الذي له مصلحة مستدامة بالواقع والمصير اللبناني، وليس المصلحة الظرفيّة. ولذلك قلت سابقا إنّه لن ينفع لبنان أن يذهب شرقاً، كما سعت أوساط رئيس الجمهورية الجنرال ميشال عون أن تروّج له، فلبنان كان وسيبقى جزءاً من المنظومة الغربيّة في هذا الشرق الكبير.

مهلا! أنا لا أقول أبداً إنّه سيبقى جزءاً إستعمارياً، ولا خنجراً في خاصرة أهل الشرق. لبنان ليس نموذجاً إسرائيلياً آخر، ولا هو مغتصب لحقوق شعوب أخرى. لبنان جزء اساسي من تاريخ، وحضارة، وتقدّم، وواقع هذه المنطقة. لكنه نموذج فريد شاءه الله تعالى، ليبقى جسراً حضارياً وثقافيّاً يعمّق من التوجه الإنفتاحي المتزايد لدى شعوب هذه المنطقة، نحو القيم الغربيّة ومفاهيمها. فالفهم المشترك بين الجانبين يبقى الجسر الأفعل لتعزيز حضور ودور هذا الشرق في العالم. إن اعتبار كل ما يأتينا من الغرب هو مؤامرات وأمراض ليس سوى آفة زرعها الإستعمار بكل أدواته ولا سيما الصهيونية، في عقولنا، بغية إبقاء هذه الفجوة بيننا وإبقائنا في حالة المجهول للآخر.

كنت مقتنعا دائما، أنّ لبنان هو حاجة فعليّة للحضارة الغربيّة في هذا الشرق مستنداً في قناعتي هذه إلى المفهوم الإستراتيجي لواقع لبنان ودوره في المنطقة. إنّ أية قراءة موضوعيّة في مميّزات لبنان وقيمه وأسسه الحضاريّة، توصلنا حتماً إلى هذه القناعة. فالمدارس والجامعات البروتستانتيّة الأميركية إزدهرت في بيروت. وكذلك الجامعات الكاثوليكية الفرنسية، والمدارس والجامعات العربية والإسلامية والأرثوذكسية والعلمانية. وقد كانت المدارس والجامعات هي الوسيط الأساسي التي تجمع الثقافات والحضارات العالمية في هذا الشرق الكبير. وجاءت التجرية “الكسينجيرية” التي امتدّت حتى عام 2007، فأكدت بوضوح فشل أي بديل للبنان مهما كانت قدراته المالية والعسكريّة. وفي عام 2007، نطق الرئيسان الفرنسي والأميركي في البيت الأبيض في واشنطن بهذه الحقيقة الساطعة. قالا: لبنان حاجة لنا. وطالبا بحياده. دخلت إيران والفلول السوريّة سريعاً لإجهاض هذا القرار التاريخي الذي لم ولن يكون له بديلاً، فدخلنا في المعمعة المستمرة حتى الآن. التراجع التكتيكي للغرب منح إيران وحلفاءها فرصة التمدد والاسترخاء إلى أن أوشكت الخطة الكبرى، لإقامة الشرق الأوسط الكبير وإعادة رسم واقع الدول فيها نهائياً، وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي على النهاية.

إنتهت الآن الحاجة إلى تسويات كان يسوّق لها الحكم الفرنسي بالتعاون مع حلفائه في الغرب. ومن لم يقرأ رسالة السفير البريطاني المغادر، عليه أن يقرأها بدقّة. هو قال بوضوح: ليس هناك من اختلاف في التوجه الفرنسي مع باقي الغرب. هذا صحيح. التسويات الفرنسيّة التي انتجت الحكومات السابقة، كانت برضى الأطراف المعنيّة بلبنان. أمّا الآن فقد انتفت الحاجة إلى تسويات. مصير لبنان صار واضحاً تماماً، يوم أعلن “بارومتر” لبنان، غبطة البطريرك الراعي، مطلب الحياد. فهذا المطلب لم يكن ليعلن من هذا الرمز الكبير، لولا الموافقة الواضحة والصريحة، للقوى المعنيّة بلبنان، ورضى كل الأطراف الدوليّة الأخرى. إقرأوا أيضا ما قاله السفير البريطاني بهذا الصدد. العائق الوحيد أمام تطبيق الحياد، هو الدور الإيراني والفلول السورية. لكنّ هذا الدور إلى اضمحلال. التاريخ لا يعود إلى الخلف. ومن يظنّ أن الرئيس جو بايدن أو إيران سيعودان بالبوصلة إلى الخلف، مخطئ. الرئيس بايدن سيتابع البناء على ما تحقّق حتّى الآن. هو خادم للمؤسسة في أميركا. وإيران دولة مؤسسات تتعامل بذكاء مع التطورات الدوليّة. لا مجال للإستمرار بالمكابرة. لذلك فإن كل الذي يحاوله الرئيس الفرنسي حاليا، هو منع الواقع المأزوم في إيران من الوصول الى حالة الحرب مع العالم، ومنع الواقع المأزوم أيضا لفريق الممانعة والمقاومة، من أن يتحوّل إلى عاصفة جنون، تأخذ لبنان إلى بحر آخر من الدماء. وهذا يفسّر موقفه الأخير من أحداث طرابلس.

الغرب لا يريد حربا جديدة في لبنان. إن الذي يريد الحرب هم الأطراف الإقليميّة المتضرّرة من تراجع دورها في المنطقة. لكن الغرب لن يتردد بالتدخل في هذه الحرب إن جرت. بل إنني أتوقّع أن يتحوّل التدخّل إلى تدخل دولي بتوسيع مهمة القوة الدوليّة التي تشكلت بعد تبني القرار 1701. العالم كلّه سيكون جاهزاً لحسم هذه المرحلة من تاريخ المنطقة. لذلك سعينا أن نقنع غبطة البطريرك بالقيام بمبادرة تدفع قدماً بمسيرة السلام والعودة إلى الحالة الطبيعية في لبنان، من خلال السفر إلى الأمم المتّحدة. نحن نثق بغبطته.

ونتوقع أنّه ينتظر الفرصة المناسبة التي أثق أنّها ستأتي، وسنرى غبطته ووفداً من المسؤولين الروحيين، والعلمانيين، ومن المغتربين، قريباً في الأمم المتّحدة. صرخة لبنان الضحية على منبر الأمم المتّحدة، حاجة ضروريّة كي يستفيق الضمير البشري إلى هذه الجريمة النكراء بحق وطننا. لا نريد أن نلوم أحداً، لكننا نريد اعترافاً بأنّنا كنّا ضحيّة. سنحتاج إلى هذه الصرخة ليعود لبنان إلى طاولة المجتمع الدولي كبلد عظيم شارك دائما، ببناء تاريخ الشعوب ومستقبلها.