IMLebanon

الجامعة الأميركية في بيروت مُحاصَرة بالتحديات و”البروباغندا”

ترك بلس شارعَه العامر بالحياة، وأَوْدَعَ جامعتَه من جديد بين الأيدي الأمينة. مضى إلى أيامِ شبابه في سوق الغرب، المنطقة التي صارت يوماً خط تماسٍ أسس لدولةٍ “ممسوكة لا متماسكة” وكأنها تعهّدتْ الإجهازَ على وطنٍ عانَدَ موتَه طويلاً، وجعلتْ طائر الفينيق يملّ رمادَه.

فها هي الدولة – السلطة تمعن في نحْر لبنان ونموذجه الفذ. لم تَبْقَ أزمة إلا وإستدرجتْها … مالية، إقتصادية، نقدية، معيشية، إجتماعية، تربوية، صحية، سياسية، أمنية … فسادٌ وموتٌ جَماعي (المرفأ) وإغتيالاتٌ وكمّ أفواه.

ها هي الجامعة الأميركية في بيروت حالُها من حال لبنان، تُحاصِرها تحدياتٌ وجودية لم تعرفها لا في الحروب ولا إبان الإحتلالات، لا قبل لبنان الكبير ولا بعد أن صغر حكّامه، تدفع ثمنَ لبنانيتها ويريدون تدفيعها ثمن أميركيتها … فكيف إذا كان رئيسُها الحالي لبناني – أميركي؟!

لم تكن تكفي تداعيات أزمات لبنان الهائلة على الجامعة التي تكافح إدارتُها للحد من الآثار الـ”ما فوق” سلبية على الحياة الأكاديمية ودورها، فهبّت موجةٌ بروباغندية توحي بأن الصرح البيروتي الذي بُنيت معالم كثيرة من حوله، يخطط للملمة 155 عاماً والرحيل إلى إحدى المدن في الخليج العربي (دبي).

ففي الوقت الذي تكاد “بيروت” أن تزحل نحو دبي وسواها مع هجرة الدور والشباب وفرار المؤسسات والشركات بعدما هُشّمت الدولة واستُرهِنتْ البلاد، ثمة مَن يحلو له اقتلاع الجامعة الأميركية و”تهشيلها” أو تهميشها واقتيادها إلى بيت الطاعة أو هكذا يُشَبَّه لهم.

لم تنجُ جامعة الـ 70 ألف خريج على مدى الأعوام الأخيرة من حملاتِ تشهيرٍ مُبَرْمَجَةٍ لأهداف سياسية، بالتزامن مع جنوحٍ متمادٍ لإحداث تغييرٍ جينيّ لدور لبنان وهويته وقِيَمِه وموقعه في العالم العربي وفي العالم الأعمّ.

أما الجامعة الأميركية في “ألف باء” تجربتها، فلم تكن مجرد مقاعد دراسية تُنْتِجُ كفاءاتٍ رائدةً بقدر ما هي مختبرٌ إنساني يفتح الآفاقَ أمام ولادة أجيال من القادة الأحرار في مجتمعاتهم. فخلف أسوارها لا أسوار ولا جدران في السياسة والمعتقد والثقافة.

لم يكن عابراً إدراك رئاسة الجامعة الأميركية ونظيرتها جامعة القديس يوسف (اليسوعية) خطرَ الإرتطام الكبير الذي ينزلق إليه لبنان، حين بادرتا إلى تحركٍ في إتجاه رئاسة الجمهورية علّ في الإمكان إنقاذ ما يكن إنقاذه … لكن دون جدوى.

السلطةُ، التي أدارت الأذنَ الطرشاء، مضتْ في خياراتها البائسة التي أفقرتْ اللبنانيين وسدّتْ الطريقَ أمام أي تغيير، وجلّ ما حاولتْ القيام به هو تبديل بعض الكراسي على سطح التايتانيك، الأمر الذي فجّر ثورة 17 تشرين 2019 التي تحوّلت رقماً صعباً رغم خفوت صوتها تحت وهج العنف و”كورونا” والهجوم المُعاكِس للإئتلاف الحاكم.

الجامعة الأميركية، الرئاسة، الإدارة، الأساتذة، الطلاب والخرّيجون، لعبتْ دوراً محورياً في إنتفاضة الشعب اللبناني من أجل وطنٍ أفضل. فصحيح أن الجامعة “لا تشتغل سياسة” لكن الأصح أيضاً أنها ليست مُحايِدة في المسائل المصيرية التي تعني قضايا لبنان والعرب ومستقبل شعوبهم.

هذا ما حرص على تأكيده رئيس “الأميركية” فضلو خوري في النداء المشترك مع رئيس “اليسوعية” سليم دكاش، وفي المنتديات ومن على الشاشات، حين حضّ الشبابَ على الإنخراط في هذا “السعي الوطني المشترك”، مدافعاً عن الإنتفاضة “غير المفتعلة” وبوجه إتهامها بأنها “من صنع السفارات”.

الجامعة الأميركية في بيروت لم تكن يوماً جزيرة معزولة عن الواقع اللبناني وما يجري من حولها، فهذه القلعة العلمية التي سبقت ولادة لبنان وكانت حاضرة في قلب تحولاته، دفعت أثماناً إبان الحرب (1975 – 1990) وها هي الآن تدفع فاتورةً موجعة وغير مسبوقة وربما تكون الأكثر كلفة وإيلاماً.

ورغم أن الرئيس فضلو خوري رفع الصوت مراراً وتكراراً في إطلالاتِ مُكاشَفَةٍ لـ “أهل الجامعة” ولمَن بيدهم الحلّ والربط، فإنه بدا أخيراً وكأنه يتجرّع قراراتٍ مؤلمةً أعلن عنها في وقت سابق بـ “أسى وحزن”، كإنهاء عقود وتعديل سعر صرف الدولار بالنسبة إلى الأقساط.

“الأمر لا يتعلق بزيادة الأقساط بل بتخفيف الأعباء، الأمر الذي يمكّن الجامعة من الإستمرار بالحد الأدنى والحفاظ على كادرها الطبي والتعليمي”، هذا ما قاله خوري يومها وقبل أن تؤدي هذه القرارات المؤلمة إلى إحتجاجات طالبية أمام مدخل الجامعة لم تَنْجُ من التوظيف السياسي، في الوقت الذي كان ينبغي بـ “البوصلة” أن تقود الجامعة، الرئاسة والإدارة والأساتذة والطلاب والطاقم الطبي، إلى التظاهر أمام مدخلٍ وحيدٍ عنوانه السلطة التي أسست لكل تلك الأزمات الهائلة وإحتجزتْ أموالَ مؤسسات التعليم العالي والمستشفيات والناس أجمعين.

لن تنكّس “الأميركية” راياتها ولن تغادر حصنها البيروتي المشرّع الأبواب للعالم العربي وعليه… إنه “تسونامي” ويمرّ.