IMLebanon

هل يذيب جليد ألاسكا شيئاً من جليد العلاقات الأميركية-الصينية؟

كتب أنطوان الحاج في “الشرق الأوسط”:

إذا كان من مشهد طغى ويطغى على العلاقات السياسية والاقتصادية في العالم خلال السنوات الأخيرة، فهو حتماً مشهد الشد والجذب بين الولايات المتحدة والصين… ولا عجب في ذلك، لأن المعنيَّين هما صاحبا الاقتصادين الأول والثاني في العالم، وبالتالي لا بد أن يتنافسا، خصوصاً أن النموذجين الاقتصاديين اللذين يتبنّيانهما، بل يعتنقانهما، متنافران والتعايش بينهما صعب جداً. فالأولى تعتمد الرأسمالية «المتوحشة» إن جاز التعبير، والثانية كسرت سلاسل الشيوعية لتنطلق إلى نموذج غريب من اقتصاد السوق – الاشتراكي الذي تنشط فيه شركات تملكها الدولة وشركات خاصة محلية وأجنبية، مع تدخل كبير للدولة في التخطيط الاقتصادي.

في عهد دونالد ترمب، عرفت العلاقات «الكلامية» بين واشنطن وبكين صعوداً وهبوطاً، في حين أن العلاقات الحقيقية لم تعرف إلا حرباً تجارية قاسية هدفها خفض العجز في الميزان التجاري الأميركي الذي يميل بقوة لمصلحة الصين (عام 2020 بلغت الصادرات الأميركية إلى الصين 110 مليارات دولار في حين بلغت الواردات من الصين 393.6 مليار دولار).

ولا شك في أن الصراع بين الجبّارين يتعدّى الاقتصاد إلى الواقع الجيوسياسي في أكثر من منطقة، أبرزها هونغ كونغ والحركة الاحتجاجية فيها التي قمعتها الصين إلى حد كبير، وما يتعرض له الأويغور في الصين، وتايوان ومضيقها ومصيرها، وبحر الصين الجنوبي والدول المشاطئة له، بالإضافة إلى المشروع الصيني الضخم «الحزام والطريق» الرامي ظاهرياً إلى تبادل المنافع الاقتصادية، فيما يخشى الغرب أن تتوسله الصين لمدّ نفوذها السياسي في القارات الخمس.

والواقع أنه بعد سنوات من الصراع بين الولايات المتحدة والصين حول التجارة وغيرها من القضايا، أصبحت فرص التقارب البنّاء نادرة. وفي الواقع على إدارة جو بايدن أن تطوّر استراتيجية أكثر إقناعاً للتعامل مع أهم قضية تتعلق بالسياسة الخارجية في هذا القرن، أقلّه حتى الآن…

لا تزال الحرب التجارية بين البلدين مستمرة منذ بدأ دونالد ترمب رئاسته بالتحقيق في الممارسات التجارية غير العادلة التي تقوم بها الصين، وقد أتبع ذلك بفرض رسوم جمركية نسبتها 25 في المائة على الواردات من الدولة الآسيوية. وراهناً، بعد أربع سنوات لا تزال التعرفات مكانها. وحتى بعد توقيع اتفاق المرحلة الأولى التجارية (كان من المفترض أن يكون الأول في سلسلة من الصفقات) في يناير (كانون الثاني) 2020، ظلت الرسوم الجمركية الأميركية على السلع الصينية سارية.

وربما نسي العالم هذه الحرب، نسبياً، بعد انفجار جائحة «كوفيد – 19» التي تذرعت بها الصين للتملص من تلبية شروط الاتفاق المذكور من حيث شراء 200 مليار دولار إضافية من المنتجات الأميركية سنوياً.

ويقال إن إدارة بايدن تدرس اتفاق المرحلة الأولى، بينما طلب وزير الخارجية الصيني وانغ يي من الرئيس الأميركي استئناف المحادثات مع الصين دون تأخر لإزالة التعرفات والعقوبات.

الحقيقة أن تسارع عملية التلقيح ضد «كوفيد – 19»، ستعطي بايدن وأركان سياسته الخارجية هامشاً اكبر من الوقت للتفكير في العلاقة مع الصين. وهذا أمر شائك فعلاً وسط جو من الارتياب المتبادل الذي ينتظر كل طرف من الآخر أن يخطو الخطوة الأولى في اتجاه تبديده.

اللقاء المنتظر

في 18 آذار الجاري، يلتقي مسؤولون كبار من الجانبين في أنكوردج، كبرى مدن ولاية ألاسكا الأميركية، لمناقشة العلاقات المتوترة. غير أن احتمالات التقارب تتلاشى بسرعة، ويتحمل كلا الجانبين قسطاً من المسؤولية في ذلك. فإدارة بايدن ارتأت دعوة سفير الأمر الواقع التايواني للمشاركة في احتفال تنصيب الرئيس الجديد، وذلك للمرة الأولى منذ أربعة عقود.

كان رد الفعل الصيني ضخماً، فدفعت بكين بعشرات الطائرات الحربية، بما في ذلك ثماني قاذفات حلّقت في وقت واحد، إلى منطقة الدفاع الجوي التايوانية. وفي المقابل، حذّر فريق بايدن، الذي استشعر أن الصين تختبر خطوطها الحمراء، بكين من أن سلوكها «يهدد السلام والاستقرار الإقليميين»، مؤكداً أن التزام واشنطن تجاه تايوان «صلب». ومع ذلك، استمرت الخروق الجوية الصينية، مما دفع الولايات المتحدة إلى إرسال مدمّرة تحمل صواريخ موجّهة عبر مضيق تايوان، كانت الأولى من بين ثلاث سفن حربية تعبر تلك المياه حتى الآن في عهد بايدن.

لاحقاً، في الخطاب الرئيسي حول السياسة الخارجية، وصف بايدن الصين بأنها «أخطر منافس لنا». وأضاف أنه بينما تخطط الولايات المتحدة لمواجهة الصين في مجموعة من التحديات، فإنها أيضاً «مستعدة للعمل مع بكين عندما يكون في مصلحة أميركا أن تفعل ذلك».

وقبل أيام عقد بايدن قمة بواسطة الفيديو مع قادة اليابان والهند وأستراليا، ليكون الهدف المعلن لهذا التجمع الرباعي المعروف باسم «كواد»، تنسيق المواجهة مع الصين في منطقة آسيا – المحيط الهادئ.

في المقابل، تؤكد بكين باستمرار أنها تريد إعادة ترتيب العلاقات مع واشنطن. وأخيراً أعرب وزير الخارجية الصيني وانغ يي عن أمله في أن يكون استئناف التعاون بشأن تغير المناخ، مقدمة لـ«إحداث تغيير إيجابي في مناخ العلاقات الثنائية».

المناخ «الجامع»؟

جليٌّ أن جو بايدن يولي أهمية كبيرة لمكافحة تغير المناخ، وسيحتاج حتماً إلى مساعدة من الصين في هذا المجال. لكن مبعوثه الخاص حول المناخ جون كيري جزم لبكين بأنها لن تحصل على تنازلات في شؤون أخرى مقابل التعاون، وهذا ما من شأنه أن يعقّد المسألة.

بمعنى آخر، لن تحصل بكين على تهاون أو غض نظر من واشنطن عن تشدد الأولى مع المطالبين بالديمقراطية في هونغ كونغ، ولن تكفّ عن إدانة تعامل بكين مع أقلية الأويغور، ولن تخفف معارضتها لأي مطالبات صينية في البحر الجنوبي، ولن تتراجع عن تزويد تايوان أسلحة متطورة، كما لن تنظر بعين الرضى إلى مبادرة «الحزام والطريق»…

ولا شك في أن فريق بايدن للأمن القومي يدرك كل العوائق، والدليل على ذلك أن إرشاداته الموقتة حول العلاقة مع الصين تحدثت عن التعاون الممكن، مع «الترحيب بتعاون الحكومة الصينية في قضايا مثل تغير المناخ، والأمن الصحي العالمي، والحد من التسلح، وعدم انتشار (الأسلحة النووية) حيث يتشابك مصيرا بلدينا».

العين، إذاً، على لقاء ألاسكا، الولاية الجليدية التي يؤمل أن تؤدي المحادثات الأميركية – الصينية فيها إلى ذوبان الجليد المتراكم بين العملاقين، وهو أمر يحتاج إليه العالم كثيراً، كما أثبت العملاق المجهري الذي لا يزال يعيث في الأرض فساداً.