IMLebanon

دكتاتورية الذكاء الإصطناعي: حقبة جديدة للبشرية

كتب بيار الخوري في “الجمهورية”:

الثورة الرقمية غيّرت كل شيء في العالم. بدأت بمساعدة البشر على التواصل بشكل حرّ، ثم جاءت منصّات التواصل الاجتماعي لتقول انّ الأمر يمكن أن يكون مريحاً وسهلاً ومناسباً لكل البشر عبر العالم من كافة الألوان والأجناس.

«نحن نمثل طريقة تعبّرون فيها عن آرائكم من خارج التقليد ومن خارج الافكار المعلّبة. ذلك التقليد الذي كانت تفرضه نظم العالم المختلفة على البشر. قولوا كل شيء، قولوا أي شيء، تصوروا كيفما تشاؤون، أعطوا ردهة الفعل التي تريدونها. كل شيء متاح لكم، تفضلوا!».

«نحن شباب مثلكم! ها انا البس قميصاً رخيصاً اشتريته من سايغون، قميص اخرج بها الى اكبر المؤتمرات العالمية. نحن نخاطب اكبر رجال الاعمال في دافوس بصفتنا الاشكال الجديدة للشباب العالمي».

لكن ذلك يهدف للتعمية على سلاح المؤخّرة والميمنة والميسرة: الذكاء الإصطناعي!

يعرف ذلك الذكاء اليوم على نطاق واسع بكلمة «الالغوريتم» ( او الخوارزمية) التي نردّدها نحن البشر كل يوم، لكن القليل القليل منا يعرف ما هي، ويعرف ما هي مخاطرها على مستقبل الإنسان، حين تُدمج بمنصات التواصل الاجتماعي. لقد سمح استخدام هذه الخوارزميات بمعرفة سلوك الافراد وربطها بالثقافات المختلفة واعادة فرزها بطرق غير متناهية الأعداد، وحاولت ملايين الطرق التجريبية اظهار الجوانب المتماثله من هذا السلوك ونظام ردود الافعال والرغبات. حصل كل ذلك لكي تصل منصّات التواصل الى ما يُسمّى بالتنبؤ عبر انظمة المحاكاة الهائلة الموجودة في هذه اللوغاريتميات.

بفضل الذكاء الاصطناعي تمتلك منصّات التواصل طاقة هائلة من اجل السيطرة على سلوك البشر وتحويل معتقداتهم والتحكّم بالعقل. كل ذلك يحصل ومارك زوكربرغ يتمشى بين مؤتمر وآخر بذلك القميص الذي اشتراه بـ 4 دولارات من احد اسواق شنغهاي. لقد تمّ بناء أنظمة تحكّم كاملة بالبشرية، وسمح ذلك بتراكم الثروات الهائلة في يد عدد قليل من الاشخاص في العالم، هم رواد التكنولوجيا الاجتماعية او ما يُعرف بمجموعة «غافا»، وهي اختصار للأحرف الاولى لشركات غوغل وامازون وفيسبوك وأبل.

هؤلاء يسيطرون ليس فقط على سلوك مستخدمي المنصّات، بل يسيطرون ايضاً على عقول العالم: يصعب ان نجد بحثاً كبيراً في العالم الّا وهناك جزء منه او كله، تموّله احد هذه المجموعات الاربع في المراكز الاكاديمية والبحثية الكبيرة عبر العالم. منصّات التواصل وصلت الآن الى الإمساك بالعامة والإمساك بالعقول، وقد موّلت امساكها بالعقول من خلال شغف العامة بها الذي يدرّ عليها تريليونات الدولارات سنوياً.

القصة لا تقف هنا فقط. دعونا ننظر الى ما حدث في الولايات المتحدة مع الرئيس السابق دونالد ترامب. فهو كان رئيساً سيئ السمعة، وهو أشعل الكراهية بين شعوب الارض، وقد وصلت الكراهية به حدّ تحريض جمهوره بشكل غير مباشر على اقتحام مؤسسة ديمقراطية عريقة، وربما محاولة هذا الجمهور الإيذاء الجسدي لبعض من كان هناك. ولكن ما حصل بعد ذلك كان خارجاً عن اي قانون او اي قرار قضائي. لقد تنطحت وسائل التواصل الاجتماعي لحجب كافة حسابات الرئيس الاميركي المنتهية ولايته، واكملت بأن حجبت مجموعة من الحسابات المرتبطة به سياسياً.

السؤال الآن: من اين حصلت المنصّات على كل هذه السلطة السياسية في جوهرها؟ طبعاً لم يُدن دونالد ترامب في الحادثة قانوناً، ولكنه أدين من قِبل عمالقة صناعة التواصل الاجتماعي، وما حصل بطريقة سياسية مباشرة مع دونالد ترامب، يحصل من خلال التلقين اللوغاريتمي مع كل من يمكن ان يشكّل خطراً على نظام الحوكمة الذي تديره هذه الشركات، التي بدأت تتدخّل في الأبعاد السياسية والكتابات والمضامين التي تحصل عليها، من خلال تلقين الحواسيب الضخمة مجموعة واسعة من الادوات التأشيرية.

بمعنى آخر، نحن اليوم امام نوعين من القوانين، هناك القانون بمعناه المتعارف عليه ضمن وبين الدول، وهناك قانون جديد يُسمّى «الشروط والاحكام» الذي تتحكّم من خلاله هذه المنصّات بسلوك كل البشر والمجموعات، وتعاقب ايضاً بناءً عليه، سلوك البشر واراءهم المختلفة

مارك زوكربرغ بنفسه، لم يستطع ان يجيب امام الكونغرس عن فحوى او مضمون هذه الشروط والأحكام المعروضة على مستخدمي فيسبوك. فماذا ننتظر من مجموع البشرية المتعرّضة اليوم لهذه الشروط والأحكام؟ الغالبية الساحقة لهؤلاء لا يفقهون القانون، ولا يمكن ان يعّينوا محامياً كلما ارادوا ان يسجّلوا على منصّة للتواصل الاجتماعي، او ان يتعاملوا مع التعديلات المتناسلة من هذه الشروط والأحكام. اضافة لذلك، فإنّ الاغلبية الساحقة من المحامين عبر العالم غير مهيئين للتعامل مع المصطلحات والتداعيات الالكترونية، لما فيها من مسائل تقنية عالية الدقة والتعقيد.

انّ انظمة المحاكاة الموجودة في الخوارزميات هي انظمة لا يمكن افتراض مراعاتها اخلاقيات الحوكمة الديمقراطية (وهو امر لم تصل دساتير البشرية بعد للاتفاق على معاييره الدقيقة)، وهذه مسألة خطيرة جداً، قد تفرض نفسها على سلوك البشر مستقبلاً، والذي سيكون مستتبعاً لما تريده فعلياً انظمة الذكاء الاصطناعي ولما تقرّره، وذلك بعيداً من الإدراك السليم لحجم الخطرالأخلاقي لمثل هذه القرارات المشفّرة والاوتوماتيكية.

المشكلة انّ المنصّات تفضل سرعة مردود الخوارزميات واغراء السلطة المتأتي من امكانياتها الهائلة على الاستثمار في الحفاظ على المصلحة الاخلاقية العامة. حادث غريب حصل في غوغل، حين تمّ طرد باحثة تعمل في شؤون اخلاقيات الخوارزميات من الشركة، بعد ان رفضت ان تسحب دراستها التي اتهمت فيها هذه الخوارزميات بالتحيّز القومي للغرب، وبخطر انتقال اللغة العنصرية والمتحيّزة جنسياً وثقافياً للتحكّم بالأخلاق الانسانية.

فيسبوك من ناحيتها، خلقت خوارزميات قادرة على إصدار الأحكام الاخلاقية، وقادرة ايضاً على التنمّر على مستخدميها بطريقة فاضحة. وببرودة اعصاب الكترونية، يتمّ رمي المستخدمين بشتائم مثل الكذب والاحتيال والمناورة، عند القيام بتبرير رفض بعض طلبات الإعلانات، وهذا ايضاً يتجاوز القانون الى التقييم الاخلاقي. كان هذا احد هواجس البحث لدى تيمنت غيبرو، التي تمّ طردها من غوغل.

أختم بما تقوله ماريتشي ساكي، المديرة في مركز السياسة الإلكترونية في جامعة ستانفورد: «من الصعب جداً معرفة كيف تصنف الخوارزميات المُصمّمة بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي المعلومات وتحدّدها بالضبط، وكيف يتمّ جمع البيانات ومن تستهدف. نحن بحاجة إلى مزيد من البحث العلمي المستقل، لفهم التبعات المقصودة وغير المقصودة لهذه الخوارزميات. من دون الوصول إلى هذه المعلومات، من الصعب جداً معرفة ما إذا كان هناك انتهاك لحقوق الأشخاص، وإذا ما كانت الشركات تحترم حتى شروط الاستخدام والقيود أو المعايير والحظر التي وضعتها بنفسها».