IMLebanon

تصريف الأعمال وتفسير الدستور

كتب سعيد مالك في “الجمهورية”:

على أثر إنفجار ونكبة الرابع من شهر آب/2020/ تقدّم الرئيس حسّان دياب بإستقالة حكومته. قَبِلها رئيس الدولة، بعد أن كلّفها تصريف الأعمال، حتى تشكيل حكومة عتيدة. سُمّيَ الرئيس الحريري، وكُلّف مهّمة تشكيل حكومة جديدة. وحتى تاريخه لمّا يزل الحريري مُكلّفًا، وحكومة دياب حكومة تصريف أعمال، والبلاد تنهار، ولا مَنْ يَسْأل !!!

عَلَتْ الأصوات ونادت بضرورة تفعيل حكومة دياب، فيما هو يرفض ذلك مُعتبرًا أنّ في التفعيل مُخالفة دستورية، لن يُقدم عليها لا اليوم ولا غدًا.

وبالتالي، يُطرَح السؤال: هل تفعيل حكومة دياب مُخالف للدستور؟

نصّت الفقرة الثانية من أحكام المادة /64/ من الدستور اللبناني، أنّ الحكومة بعد إستقالتها لا تُمارس صلاحيّاتها، إلاّ بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال. علمًا، أنّ الإضافة المذكورة على أحكام الدستور اللبناني حَصَلَت في الطائف. حيث لم يكن الدستور قبل تعديله عام /1990/ ينُصّ على الفقرة المذكورة. مع أنّ المُمارسة قبل الطائف كانت تلتزم هذه القاعدة دون نصّ، كما هو ثابت وأكيد.

عندما شرّع المشترع أحكام الدستور عام 1926، وعندما عدّله عام /1990/ لم يَكُنْ في باله على الإطلاق، أنّ الحكومات حتى تُشكّل فهي في حاجة إلى أشهُر وفصول. فكان يعتقد أنّ مهلة تصريف الأعمال لن تتجاوز الأيام القليلة، وبالحدّ الأقصى أسابيع معدودة. لكن ما واجهناه (خصوصاً بعد العام /2005/) يؤكّد أنّ المشترع كان مُخطئًا وغير مُصيبًا في رؤيته.

بالتالي، وأمام إمتداد مهلة تصريف الأعمال لأشهُر وفصول، بات لا بُدّ من تحديد الأعمال والتي تدخُل ضمن إطار «المعنى الضيّق لتصريف الأعمال» وما يخرُج عنه.

طالَبَ دياب مجلس النوّاب بتفسير الدستور، سيما المادة /64/ منه (الفقرة الثانية منها) لبيان الأعمال المُجاز له القيام بها، والأعمال المُحظّرة عليه. قابله رئيس مجلس النوّاب نبيه بري بالرّفض، مُعتبرًا أنّ تفسير الدستور يخفي تعديلاً لأحكامه من جهة، والمادة المطلوب تفسيرها ليست في حاجة إلى تفسير من جهة أُخرى.

وبعيدًا عن الحسابات السياسية الضيّقة، ومن الوجهة الدستورية والعلمية المُجرّدة نؤكّد:

¶ إنّ تفسير الدستور، لا يخفي أبدًا تعديلاً للدستور، وهناك فرق شاسع بين تفسير الدستور وبين تعديله. فتفسير الدستور يبقى مُلكًا مُنفردًا للسُلطة التشريعية (بعد أن إنتُزع من المجلس الدّستوري). فيما تعديل الدستور يحصل بمُشاركة السُلطة التنفيذية أي الحكومة، عملاً بالمادتين /76/ و/77/ من الدستور. وبالتالي، تفسير الدستور لا يُعادل على الإطلاق تعديله.

¶ إنّ عبارة «المعنى الضيّق لتصريف الأعمال»، والواردة في الفقرة الثانية من أحكام المادة/ 64/ من الدستور، واضحة ولا لُبْسَ حولها، ولا تتطلّب تفسيرًا على الإطلاق. فالدستور يضع الإطار ويرسم الدائرة، والتي يُمكن لحكومة تصريف الأعمال أن تتحرّك ضمنها، ولا يُمكن للدستور أن يُعدّد الأفعال المُجازة، والأُخرى المحظورة. والفقرة الثانية من أحكام المادة /64/ من الدستور، حدّدت الإطار ورسمت الدائرة، ولم يبقَ على الحكومة المستقيلة إلاّ الإلتزام بهذا الإطار وهذه الدائرة.

¶ إن مفهوم المعنى الضيّق لتصريف الأعمال، هو مفهوم مُتحرّك وليس مفهومًا جامدًا، يَضيق ويَتّسِع سندًا للظروف والأوضاع. ففي الوقت الحالي، يجب أن يكون مفهوم تصريف الأعمال مَرِنًا، حيث يجب على حكومة تصريف الأعمال أن تجتمع وتتصدّى للتحدّيات التي يواجهها الوطن، وتُناقشها، وتجد العلاجات الناجعة لها. يجب عليها أن تجتمع لإقرار الموازنة العامة لسنة /2021/ وإحالتها إلى مجلس النوّاب (سندًا للموجب والإلتزام الدستوري) يجب عليها أن تنعقد لِمُعالجة الأوضاع المعيشية والإقتصادية والمالية المُتردّية. يجب عليها أن تلتئم لِمُناقشة الرؤية المتكاملة والتي تقدّم بها الوزير السابق المحامي الأستاذ كميل أبو سليمان، لِطريقة كَبْح الإنهيار والإجراءات المُلّحة لإستعادة صدقية لبنان، كذلك تعيين أعضاء الهيئة الوطنية لمُكافحة الفساد.

لا يحّق لحكومة تصريف أعمال أن تتذرّع وتتلطّى بِكَوْنها حكومة تصريف أعمال، حتى تتهرّب من مسؤولياتها، إنما يقتضي عليها أن تُفعِّل أعمالها مواجهةً للأوضاع الحرِجة والتي يمُرّ بها الوطن.

صحيح أنّ المسؤولية السياسية على الحكومة سقطت مع إستقالتها، وباتت خاضعة لرقابة القضاء الإداري في تجاوزاتها وأفعالها. لكن الصحيح أيضًا، أنّ المسؤولية الأخلاقية والمسؤولية الوطنية لما تزل قائمة، فعلى مَنْ نَتْرُك الأوضاع، البلاد والعباد؟؟؟

مع الإشارة، إلى أنّ رئيس الحكومة والوزراء أيضًا، ما زالوا مُعرّضين للمُساءلة الدستورية، عملاً بأحكام المادة /70/ من الدستور. ولِمجلس النوّاب أن يتّهمهُم بإخلالهم بالواجبات المُترتّبة عليهم، وإيجاب مُحاكمتهم أمام المجلس الأعلى لمُحاكمة الرؤساء والوزراء (المادة /71/ من الدستور).

كذلك، ما زالوا مُعرّضين للمُساءلة الجزائية والمدنية أمام القضاء المُختّص، في حال مُخالفتهم القوانين والأنظمة المرعية الإجراء.

وفي الخُلاصة،

¶ محاولة دياب رَمي الكُرة في مرمى برّي لن تُفيد. فمجلس النوّاب ليس من صلاحياته وضع قائمة للحكومة بالتصرّفات الجائزة والأُخرى المُحظّرة. وليس من مهماته الرّقابة المُسبقة على أفعال السُلطة التنفيذية، إنما رقابته لاحقة عن طريق المُساءلة والإستجواب وصولاً إلى طرح الثقة. ولا يجوز أصلاً للحكومة أن تستأذن المجلس النيابي قبل التعرُّض لأي ملف طارئ. فالنصّ الدستوري واضح وليس في حاجة إلى تفسير على الإطلاق.

¶ دياب مدعو وبكلّ جدّية الى مُمارسة دوره ومهماته، وعدم التلّطي بكَوْن حكومته «حكومة تصريف أعمال». وإلاّ يُمكن أن يُعرّض نفسه ووزراءه إلى المُساءلة الدستورية، كما المدنية والجزائية.

أمّا حدود تحرُّكه فمُحدّدة في تصريف الأعمال بالمعنى الضيّق، أي بالأعمال العادية والأعمال التصرُّفية المُلّحة والطارئة، والمُتعلّقة بالحقوق والمِهَل والخطر المُحدق والداهم، ومعالجة الحالات الطارئة والمُلّحة، دون ترتيب أي أعباء جديدة على الدولة، أو إدخال أي تعديلات جوهرية على سَيْر المصالح العامة وفي أوضاع البلاد عموماً. علمًا، أنّ القضاء الإداري حدّد الأعمال المُجازة والأخرى المحظّرة في قرارات مُتتالية ومبدئية، أهمّها:

ـ قرار مجلس شورى الدولة الرقم 614 /1969 تاريخ 16/12/1969 (راشد/ الدولة).

– قرار مجلس شورى الدولة الرقم 522 /1999 (نقابة عمّال ومستخدمي شركة قرطاس/ الدولة).

– قرار مجلس شورى الدولة الرقم 575 /2007 تاريخ 31/5/2007 (بلدية إدّه/ الدولة).

مع الإشارة أيضًا، إلى رأي هيئة التشريع والإستشارات عام 2013 (إبّان ولاية حكومة الرئيس ميقاتي المستقيلة) حين إستشارتها في خصوص إمكانية تعرُّض الحكومة المستقيلة إلى موضوع الإنتخابات النيابية العامة، وتشكيل هيئة الإشراف على الإنتخابات. علمًا، أنّ هذا الرأي قد وضع خريطة طريق لأي حكومة مُستقيلة بالتصرّفات المُمكنة والأُخرى الممنوعة.

وفي الختام،

الحكومة مدعوّة الى الإجتماع لإقرار الموازنة وإيجاد الحلول الناجعة للأزمات المعيشية والصحّية، ولمناقشة خطّة معالي الوزير أبوسليمان وتعيين أعضاء الهيئة الوطنية لمُكافحة الفساد.

أمّا أن نَبْقى في إنتظار تشكيل حكومة عتيدة، فربما يطول الإنتظار، ولا يبقَ وطنًا حتى تاريخه.