IMLebanon

الفساد المنظّم معضلة قديمة وذهنية متأصلة

كتب الدكتور هيكل الراعي في “الجمهورية”:

من المسلّم به أنّ ظاهرة الفساد ليست جديدة على المجتمعات البشرية، وهي ظاهرة عرفتها وتعرفها حالياً مجتمعات كثيرة، وتعاني بعض هذه المجتمعات من آثارها السلبية المدمّرة. والفساد حسب أبسط تعريفاته، هو أخذ المال العام وجعله خاصاً، أو هو التسبب بهدر المال العام أو الإستفادة من الوظيفة العامة للفائدة الشخصية أو لفائدة جماعة معينة. وأشكال الفساد عديدة، يمكن اختصارها في: الرشوة، الابتزاز، سرقة الأموال العامة، انتهاك القوانين ومخالفتها، قبول الهدايا والإكراميات والمكافآت، منح العقود والصفقات، محاباة الأقارب والأصحاب والأصدقاء، إقامة مشروعات وهمية، التزوير في تحصيل الضرائب، التدخّل في مجرى العدالة والرقابة، الاحتكار ورفع الأسعار، التلاعب بالرواتب والأجور….

وظاهرة الفساد كإحدى نتائج التناغم بين المال والسلطة، أصبحت تهدّد الاستقرار السياسي والاداري والاجتماعي لأكثر الأنظمة السياسية، مما حدا بالامم المتحدة، منذ ثمانينات القرن الماضي، إلى استنفار أجهزتها لمواجهة هذه الظاهرة العالمية، والسعي الى إيجاد الوسائل الكفيلة بمكافحتها والوقاية منها.

أسباب الفساد

اما أهم أسباب الفساد، فتُختصر بانهيار نظام القيم في المجتمع ونقص مستويات الوعي والمعرفة، ثم تأتي مسألة الفقر والجهل والجشع والمحسوبية وعدم الكفاءة، هذا الى جانب تناقض مصالح السياسيين، والثغرات التي تحتويها القوانين والتي يمكن استغلالها بسهولة.

والفساد كظاهرة لا يرتبط بنظام سياسي معيّن، غير أنّ الأنظمة الاستبدادية والشديدة البيروقراطية هي الأكثر إنتاجاً للفساد بكل اشكاله. كما إنّ الدولة الضعيفة ببنيتها القانونية والمؤسساتية تولّد الفساد وتحمي الفاسدين. وسواء أكانت الدولة غنية أم فقيرة الموارد، فإنّ الفساد يتولّد ليس بسبب وفرة أو ندرة الأموال بل بسبب أمور اخرى، أهمها غياب الشفافية والمراقبة والمحاسبة.

وإذا كان الفساد لا يرتبط بشكل معيّن لنظام الحكم، فإنّ مواجهة هذه الظاهرة تختلف من مجتمع إلى آخر ومن دولة إلى دولة أخرى. ففي المجتمعات الغربية بشكل عام، التي تملك درجةً معيّنة من الوعي السياسي، يتحوّل الحديث عن الفساد إلى أداة ضغط على الفاسدين، تدفعهم الى الاستقالة من مراكزهم، وإلى الخضوع لتحقيقات قضائية مع ما يرافقها من أحكام صارمة.

أما في المجتمعات المتخلّفة بشكل عام، ولبنان منها، فإنّها تشهد طفرات إصلاح، إداري وسياسي، يرافقها ضجيج إعلامي، بحيث لا يشكّل الحديث عن الفساد أداة ضغط لإحداث تغيير عميق، وغالباً ما ينتهي الأمر بتسويات بين الفاسدين أنفسهم، تكون على حساب الوطن والمجتمع.

لبنانياً: الفساد متأصّل

في لبنان، لم يكن الحديث عن الفساد حديثاً نافراً في أية مرحلة من المراحل والعهود. فهو أصبح سلوكاً متأصّلا في حياة اللبناني، أو لنقل ذهنية غالبة ومقبولة، والأسباب كثيرة. فمنذ الاحتلال العثماني برزت ظاهرة بيع وشراء المناصب والمراكز الحكومية، وتعوَد الناس عليها وعاشوا معها وأصبحوا يأتلفونها ويفاجؤون بغيابها. فواليا دمشق وعكا كانا يبيعان المنصب من الأمير أو الإقطاعي الذي يدفع له المبلغ الأكبر من المال. وكان القناصل يدفعون للذين يخدمون مصالح الدول الاجنبية أكثر من غيرهم. وتضخمت ظاهرة شراء وبيع المراكز الى حدّ الكتابة على قبر أحد المتصرفين الذين حكموا جبل لبنان نهاية القرن التاسع عشر: «رنّوا الفلوس على بلاط ضريحه وأنا الكفيل لكم بردّ حياته».

وروائح الفساد والرشوة لم تكن غائبة عن الانتداب الفرنسي ولا عن غالبية العهود الاستقلالية وصولاً إلى أيامنا الحالية، دون أن ننسى سنوات الحرب الأهلية وما رافقها من بيع وشراء لكل المراكز والمناصب ولغالبية القيم والشعارات الوطنية. إنّ ظاهرة بيع وشراء المراكز كأبسط تعبير عن الفساد بعناوينه المختلفة، أحدثت حالة طلاق متأصّلة بين المواطنين والدولة. فمنذ العهد العثماني لم تكن الدولة تعمل من أجل الخير العام بل لمصلحة الولاة والأمراء والاقطاعيين وكبار الموظفين. والأمر عينه كان سائداً في مرحلة الانتداب الفرنسي. ومن يقرأ مراسلات سفراء فرنسا وبريطانيا المحفوظة في أرشيفي الدولتين، يكتشف الكثير من «مواهب» السياسيين الذين حكموا لبنان منذ بداية القرن الماضي. لقد تأصّل شعور عند المواطن اللبناني بأنّ الدولة عدو وليس صديقاً أو هو جزء منها، كون نشاطها كان في أغلب الأحيان يهدف الى تحقيق مصالح الحاكمين والمسؤولين في الدرجة الأولى وليس مصلحة الشعب. وما كان هذا الشعور ليتعمّق ويترسخ لولا ممارسات المسؤولين على مختلف المستويات، وفي كل العهود، التي كانت تصبّ في خانة تحقيق المنافع الشخصية لهم ولأتباعهم ولأزلامهم. هكذا استغل الحاكمون السلطة الى أبعد الحدود، واضطر المحكومون، أو الناس المغلوب على أمرهم، مكرهين، إلى رشوة الحاكمين وموظفيهم، لتأمين حصولهم على الخدمات المطلوبة.

موظف الزعيم

ففي ظل الذهنية السائدة والمترسخة على مستوى السلطة في لبنان، لا يمكن للفرد أن يحصل على وظيفة كفرد، بل عليه أن يكون جزءًا أو عضواً فاعلاً في طائفة معينة أو ينتمي الى مزرعة زعيم معيّن. لذلك لم تعد تحصل المنافسة بين أفراد إلّا في حالات نادرة (كما كان يحصل في ستينات القرن الماضي، حيث شكّلت المباريات أحد المداخل المهمة للوظيفة)، بل تحصل بين حصص الطوائف والمذاهب والزعماء. ولكي يحصل الفرد على المركز الذي يطمح اليه، عليه التقرّب من القوى الفاعلة، (أو من الفاعليات) في الطائفة والسلطة، وعليه أن يُخضع وظيفته لمصالح الجماعة التي ساعدته في الوصول إليها. وأكثر ما يُغضب الزعيم أو السياسي، عندما يقوم أحد ازلامه أو موظفيه (موظف الدولة) بإسداء خدمة مباشرة إلى مواطن من دون معرفة الزعيم أو حضوره المعنوي أو الشخصي

وضمن هذه التركيبة الإدارية، يصبح الموظف موظفاً عند جماعته، في مواجهة موظف آخر ينتمي ويعمل عند جماعة أخرى، وتتحول الدولة إلى مجموعة جماعات متناقضة في أغلب الأهداف، بدل أن تكون مجموعة أفراد متعاونين في وطن. وفي هذا الإطار، يشعر المواطن بقهر وإذلال كلما توجّه إلى مؤسسة تابعة للدولة. فالموظف ليس في خدمة المواطن، إنّه في خدمة مرجعيته التي تُجيَر أجهزة الدولة لتأمين مصالحها. يذهب المواطن إلى أي إدارة حكومية حاملاً معه مشاعر الخوف والقلق إذا لم يكن مسلحاً ببطاقة توصية من مرجعية ما أو إذا لم يكن يعرف موظفاً ما. والمواطن الذي يدخل أعزل من هذه الأسلحة إلى إدارة رسمية، عليه أن يدفع الرشوة المطلوبة منه دون أن يرفع رأسه. عليه أن يتعامل مع الموظف الفاسد ويخضع له مستسلماً كما يستسلم الإنسان للقضاء والقدر.

شراكة في الإفساد

لقد تراكم الفساد خلال العهود المختلفة في ظلّ غياب المحاسبة. فالحكام الفاسدون ما كانوا ليسمحوا بأن يحاكمهم المحكومون، كما إنّ المحكومين، الذين خضعوا ووافقوا، واعتمدوا أساليب الرشوة لتسيير أعمالهم، ما كانوا ليهتموا بمحاسبة الحكام الفاسدين، بعدما أصبحوا شركاءهم في الفساد والإفساد.

هكذا تحول الفساد أسلوباً يعتمده الحاكمون والمحكومون. «برافو عليه، عرف يظبط حالو» أو «حمار فات على الوظيفة نضيف وطلع نضيف» و «الشاطر ما بيموت»، عبارات تتكرّر على ألسنة كثيرين لتبرير ظاهرة الفساد. حتى أننا بتنا نعيش في مجتمع يشرعن الفساد وينظمه ويحميه وفق آلية محكمة تبدأ بالموظف الصغير وتنتهي بالمسؤول الكبير. وعندما تغيب قاعدة الثواب والعقاب، وتغيب قواعد المحاسبة والمفاضلة والجزاء… يذهب الصالح بجريرة الطالح، وتختلط المفاهيم والقيم، ويصبح الفاسد والمرتشي والسارق رموزاً للنجاح، بعد تولّي السلطة والمسؤولية.

المواجهة لبناء المستقبل

هل نيأس؟ بالطبع لا. فإذا كنا نطمح إلى بناء وطن يحتل موقعاً مميزاً على خارطة المنطقة، ويستطيع مواجهة الأزمات والتحدّيات، علينا أن نبدأ بمحاربة الفساد وبكشف أبطاله ورموزه، وبالتصدّي للفاسدين والدعوة إلى محاسبتهم ومعاقبتهم، مع التزام أعلى درجات الشفافية والنزاهة والنظافة من جانب المصلحين في سياق المواجهة مع عصابات الفساد والإفساد. ففي العام 1953 وُضع قانون لمحاربة الإثراء غير المشروع ولكنه لم يُطبّق. فمن منع تطبيقه؟ هل منع المواطنون الشرفاء تطبيق هذا القانون؟ ومن هم الذين استفادوا من عدم تطبيقه؟ لقد جرت محاولات عدة لتطهير الإدارة ومحاسبة الفاسدين في عهود مختلفة، ولكنها انتهت إلى تأصيل الفساد بدل استئصاله من جذوره. ولم تكن الصحوة التشريعية التي شهدناها خلال الأشهر الماضية (بعد انتفاضة 17 تشرين الأول 2019) حول رفع السرية المصرفية والإثراء غير المشروع والتدقيق الجنائي واستعادة الأموال المنهوبة وغير ذلك، إلّا محاولة لتهدئة الرأي العام واستيعاب نقمته، بعد دخول لبنان نفق الانهيار المظلم. لقد أضاعت العصابة السياسية – المصرفية الحاكمة، من خلال ارتجالها وعشوائية قراراتها، بقايا الثقة والأمل لدى المواطنين ببناء دولة القانون والمؤسسات، وأظهرت حقيقة رموز هذه العصابة الذين يبشرون بالطهارة والنظافة كل يوم، ويذرفون دموع التماسيح على جوع اللبنانيين وأمعائهم الخاوية.

إنّ معالجة ظاهرة الفساد يجب ألا تتوقف، وعليها أن تبدأ بتوعية المواطنين على قيم ومبادئ وقواعد سلوك نقية صالحة وخيّرة وأخلاقية. كما أنّه لا بدّ من تأهيل ومحاسبة حقيقيين للذين يرشحهم المجتمع لتولّي مسؤوليات سياسية وإدارية وعلى رأسهم القضاة. فمن غير المقبول أن يصبح تاجر المخدرات والمجرم أو السارق مسؤولاً في الدولة، ومن غير المقبول أن يسمح القانون لمن دمّروا الدولة ومؤسساتها وقتلوا ونكلوا بالأبرياء أن يتولوا إعادة بنائها. وعلى الشرفاء من اللبنانيين أن يستمروا في النقد والصراخ، ويجب ان لا تهدأ أصواتهم كي لا يرتاح الفاسدون ويتنعّموا بما سرقوا ونهبوا.