IMLebanon

بيروت المُنْهَكة “أطفأت قنديلَها” كأنها على قارعة المدن… الحيّة

 

… أن تطفئ مدينةٌ «قنديلَها»، أن تنامَ في عراء العزلة، أن تعانقَ العتمة، أن «تغلق بابها» وكأنها «أصبحتْ في السماء»، فهذا مصيرٌ مُفْجِعٌ لم يتصوَّر أحد أنه «سيتلبّس» بـ«دُرّة الشرق» بيروت في زمنٍ سِلْمٍ افتراضي «استدارَ» نحو فصول مأسوية من تاريخ عاصمة لا تكاد أن تخلع عنها ثوب الدمار حتى تبدو «عروساً بالأسود» تنام في أحضان حربٍ كأنها «أم الحروب»… بلا نار وبارود.

منذ أكثر من عام تحوّلت «ست الدنيا» مؤشراً لحالِ الوطن الصغير الذي أرهقتْه «عاصفةٌ شاملةٌ» (مالية – اقتصادية – نقدية – مصرفية – اجتماعية) ازدادتْ «قوّتُها التدميرية» بفعل الانكشاف السياسي الكامل لـ «بلاد الأرز» التي تعيش منذ أغسطس الماضي أزمةً حكومية مستحكمة تتشابكُ مسبباتها، بين حسابات الداخل وصراعات الخارج التي اقتيد لبنان إلى «فمها» تباعاً في الأعوام الـ 16 الماضية لتصبح الناظمَ الفعلي لواقعه منذ أن «زَحَلَ» نحو تموْضعٍ إستراتيجي «رَحَلَ» معه عن خريطة الاحتضان العربي – الخليجي الذي لطالما شكّل «شبكة الإنقاذ» من شظايا الحروب والاجتياحات والأزمات.

بيروت، قلب لبنان وقُبلته، تتصدّر منذ أيام تقارير إعلامية وكأنها «رثاء» لمدينة «ماتت» فيها أعمدةُ الإنارة ورفعتْ مشاريع الترميم الراية البيضاء… الحفرُ تغزوها، «بقايا» أضواء الأنفاق فيها «تنازِع»، وأزمة نفايات قد تكون على الأبواب.

تعدّدت الأسباب… من فقدان العاصمة عناصرَ الجْذب للمقاولين في ظل أزمة الدولار وعدم حماسة متعهدين على «عمليات انتحارية» يتقاضون أتعابهم عليها بالليرة «المسحوقة»، إلى استنزاف ميزانية أغنى بلديات لبنان وخصوصاً بعد «الإعصار الهيروشيمي» الذي ضرب «زهرة مرافئ الشرق» في 4 أغسطس الماضي… لكن النتيجة واحدة، بيروت لا تشبه نفسها، موحشة، مقفرة يسكنها ظلام التقنين الكهربائي القاسي، منهَكةٌ ومنتهَكة بتاريخها وعراقتها، بسمعتها «الأسطورية» التي بنتْها حرفاً حرفاً وحجراً حجراً من تحت ركام الزلازل والنكبات والغزوات.

بيروت التي كانت «محروسة»، والمتوَّجة كواحدة من أقدم المدن في العالم، تبدو هذه الأيام كـ «الأميرة النائمة»… ثمة مَن يعتقد أنه طبَع على خدّها أكثر من «قبلة موت»، وثمة من يرى أن المدينة التي تعشق الرماد ستتمرّد مرة جديدة على «حُطام» الانهيار المالي الذي جعلها تمشي «مطأطأة الرأس» بين عواصم الحياة وتخرج مجدداً إلى الضوء «مرفوعة الرأس».

ومَن يَجُل في بيروت هذه الأيام، يجد «لؤلؤة الشرق» وقد فقدتْ بريقَها كأنها «تقيم» خلف ستارة حالكة أُسدلت على ليالٍ كانت لا تنام ونهاراتٍ كانت لا تستريح من زحمة الزوار وصخب النشاط الاقتصادي والتجاري… الأرصفة العامرة بالمقاهي وأكشاك الصحف نكّست أبوابها، وصارت مجرّد ضفافٍ لأحياء بلا حياة، في عاصمةٍ وكأنها باتت على قارعة «المدن الحية».

المدينة التي تعرّضت لموجات طاعون في تاريخها و«نجتْ» منها، وأفلتتْ من عتاة الغزاة، تقف في 2021 تقاوم «طاعنيها» بخناجر أزماتٍ تُسدَّد في قلبها الذي صار مدجَّجاً بالحديد الأسود هجره النبضُ وكأنه في سبات عميق. على الجدران كتاباتٌ «ثورجية» من «رائحة» حِراك شعبي استكان، وخلفها في بيوتات أهل بيروت، كل الأحزان والهموم والمخاوف من الآتي الأعظم على بلدٍ يصارع لتخفيف سرعة السقوط في… الجحيم.

آتٍ أعظم، لا يبدو حتى الساعة كافياً لدفْع الأطراف المعنيين في لبنان للتوافق على مخارج للمأزق الحكومي رغم «تدويله»… على العكس فإن الوقت الفاصل عن «الطوفان» الآتي مع الرفْع المرتقب للدعم عن السلع الإستراتيجية خلال أسابيع قليلة، بات يُملأ داخلياً بعملية «لهو» بمعارك تتعدّد عناوينها وليس آخِرها «الموْقعة القضائية» بين مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات والقاضية غادة عون التي تمرّدت على قراره بكفّ يدها عن ملفات مالية تعمل عليها.

ولم يكن ينقص العاصمة المثقلة بالأوجاع، إلا أن يتحوّل قصر عدلها وميزانه ساحةً لـ «مواجهة وجهاً لوجه» بين مناصري «التيار الوطني الحر» (حزب الرئيس ميشال عون) الداعمين للقاضية عون، وآخرين مؤيدين لـ «تيار المستقبل» (يقوده الرئيس المكلف سعد الحريري) دعماً لمدعي عام التمييز، في ما بدا «اختبار قوة» شعبياً على تخوم قضية تشي بأن يخرج منها القضاء، الذي يعاني أصلاً من «اختراقات» سياسية كبّلتْ عملَه، مثخناً بجِراحٍ عميقة.

ولم تمرّ التظاهرتان المتقابلتان من دون «اشتباك» تخلله تضارب ما أدى إلى سقوط جريح على الأقل، وسط حالة من الهرج والمرج قبل أن يتدخل الجيش ويقيم حاجزاً بشرياً فاصلاً.

وتزامن هذا التحرك مع اجتماعٍ لمجلس القضاء الأعلى خُصص لبحث ملف القاضية عون التي كانت نفّذت على مدى يومين متواليين (بعد قرار كف يدها) عمليتيْ دهْمٍ لمكتب إحدى شركات الصيرفة واستيراد الأموال بـ «مؤازرة» من مناصري «التيار الحر»، وسط مفارقة أن رئيس القضاء الأعلى سهيل عبود وعويدات لم يلبيا الدعوة لاجتماع طلبتْه وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال ماري – كلود نجم كان محدداً أيضاً أمس، في ظل مؤشرات إلى امتعاضٍ من مواقفها التي أصدرتْها يوم السبت و«أغرقت» قضية عون بمجمل واقع القضاء وبتهجُّم معلن على أدائه، وفي ظل معلومات عن أن عبود وعويدات ورئيس التفتيش القضائي بركان سعد كانوا أبلغوا نجم الاستياء من أداء غادة عون وأنهم مع إحالتها على التفتيش.

وفيما عُلم أن مجلس القضاء الأعلى دعا القاضية عون لحضور اجتماع اليوم، للبحث في آخر التطورات حول قضيتها، برز موقف لنائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي رداً على عدم التزام القاضية بقرار مدعي عام التمييز، واصفاً إياه بأنه «حدث انقلابي بامتياز، يستدعي تسلم الجيش السلطة وإقامة محاكم عرفية، لملاحقة الفاسدين».

… كل هذا جرى ويجري في بيروت التي تعضّ على جِراحها التي استعادتْها بعد الحرب الأهلية… منذ زلزال 14 فبراير 2005 الذي اغتال الرئيس رفيق الحريري بـ 2.5 طن من المواد الشديدة الانفجار، وصولاً لـ «بيروتشيما» في 4 أغسطس 2020 الذي دمّر المرفأ ونصف العاصمة بمئات الأطنان من نيترات الأمونيوم… وفي الزلزاليْن وما بينهما من انهيارٍ مالي كبير، بدا للبعض أن العاصمة «ركعت على ركبتيْها»، لكنها بالنسبة إلى كثيرين ما زالت… «تصلّي».