IMLebanon

“حمم القضاء” على فوهة “بركان”

كتب جورج شاهين في “الجمهورية”: 

أيّاً كانت النتائج المترتبة على اجتماعات قصر العدل والمنحى الذي ستتخذه قضية القاضية غادة عون فإنّ القضاء في «محنة» لا يمكن تجاوزها إلا بقرارات استثنائية تعيد الثقة به. وعليه، يصح القول ان «حمم القضاء» باتت على فوهة «بركان»، فهل سنشهد على قذفها ام إخمادها؟ وطالما انّ جزءاً من الملف بات على طاولة رئيس هيئة التفتيش القضائي القاضي بركان سعد، فكيف السبيل الى هذه المعادلة؟

في ظل كم الازمات التي يعانيها الجسم القضائي لا يخفي عدد كبير من اركانه القول انّ بعضاً منهم هو من تسبب بالوصول الى ما وصل اليه. لمجرد ان يقف احدهم على باب سياسي ليصل الى موقع ما، إذ بعد غياب الزمن الذي كان يُعيّن فيه «من لا يقف على باب أحد» يمكن توقع ما حصل. والتاريخ شاهد على كثير من المحطات المشابهة التي تنكّر المعيّنون فيها لِمن كلّفهم بالمهمة قبل غيره من اركان السلطة.

ليس في ما سبق أي معادلة مخجلة او مستغربة، فالتجارب الاخيرة تثبت انها حقيقة مجردة لا يمكن تجاهلها، فوقائعها باتت على كل شفة ولسان الى درجة تحوّلت فيها هذه المواقع الى منابر يتخاصم فيها اولياؤها فيدمّرون مواقعهم والسلطة معاً، وإن تصالحوا أطاحوا بالقوانين والدستور من دون رادع او حسيب. ولعل الدليل في ما نشهده من مواجهات اجتاحت مساحات واسعة من البث المباشر بطريقة لا يمكن إخفاؤها او تحويرها لخدمة اي طرف. والأخطر انها فرزت اللبنانيين بين مؤيد ومعارض من دون الحاجة الى التذكير بالاصول المعتمدة والانظمة التي تحكم تصرّف هذا او ذاك، وتوضيح الغاية مما يجري، وان وضعت تحت عناوين برّاقة تدّعي الشفافية والاصلاح فقد حالت دون فرز الخيط الابيض من الاسود.

على هذه الخلفيات، تخشى مراجع قضائية وقانونية ممّا ستتركه هذه المواجهة من آثار سلبية لا يمكن مَحوها بسهولة. فمن يراقب وسائل الاعلام المفروزة بين مؤيّد ومعارض ومعها وسائل التواصل الاجتماعي يكتشف بلا عناء ما يُرافق هذه الازمة من آراء ونظريات بُنيت على اساس الانقسام السياسي في البلد، فحفلت بفقدان الصدقية وهدفت الى زرع «التفاهات» في العقول والقلوب وانقادت اليها جيوش إلكترونية «عمياء» تتجاهل الحقائق وتزرع اوهاماً الى درجة لن يكون من السهل تصحيحها في ظل فقدان المرجعية الصالحة للبَت بالخلافات وتصويب الأداء وتوزيع الصلاحيات في سلطة كلّفت بموجب الدستور مهمة إحقاق الحق ورفض الباطل وردع المخالفين وحماية الحقوق.

وعلى هذه الخلفيات السياسية يتردّد رجال القانون والدستور الكبار في توصيف ما جرى. فما يحصل لم يشهده السلك القضائي سابقاً. حتى في ايام انحلال الدولة وسقوط المؤسسات، فقد بقي للقضاء هيبة ودور يردع البعض ويخفف من اندفاعة آخرين متهوّرين الى أن بدأنا نشهد ما يجري بتغطية رسمية، تشجّع على تحركات شعبية وشعبوية بوجوه مكشوفة لا تخشى محاسبة محتملة إذا استعاد السلك هيبته، ولو بمفعول رجعي.

ويضيف هؤلاء: «انّ ما يجري يجب ان ينتهي فوراً». ويقترحون أن يلجأ القضاء الى ورشة داخلية على خلفية قطع كل العلاقات القائمة فوراً مع السياسيين، والسعي بما أوتي من قوة للجم التحركات الشعبية سعياً الى تجنّب مزيد من الانهيارات في السلك قبل فوات الاوان. وهو امر يستدعي التعاون بين السلطة السياسية الممثلة بوزيرة العدل ماري كلود نجم ومختلف الاجهزة القضائية، وفي مقدمها مجلس القضاء الاعلى وهيئة التفتيش القضائي والنيابة العامة، بَدل التذاكي في تبادل المواقف والإتهامات والتلاعب بالإجراءات التي يجب ان يتخذها كل صاحب صلاحية.

ويستطرد هؤلاء ليقولوا إن كان ثمة جهات سياسية رسمية كانت ام حزبية تتقن طريقة التلاعب بالقضاء وتسخّره لاهداف اخرى، على من قبلوا بأن يكونوا من ادواتهم وقف تعاونهم فوراً والعودة الى الاصول انقاذاً لمواقعهم ووجوههم وتقدير المصير الذي ينتظر السلطة القضائية. وهو امر مُناط بمن بيدهم قرار الحل والربط بعدما نالوا شهادات في الشفافية والصدقية لاستعادة شيء ممّا فقدوه من ثقة، وتنقية صفوفهم ممن لا يريدون خوض المواجهة المحتملة مع سلطة سياسية لم تقصّر يوماً في تشويه صورتهم.

وإن دعت وزيرة العدل السبت الماضي الى مثل هذه «الثورة» في القضاء، فإنّ ما هو مطلوب منها ايضا يوازي ما طلبته. وان على مجلس القضاء الاعلى الذي افتقد عضوين من اعضائه العشرة (القاضي كلود كرم لبلوغه سن التقاعد، والقاضي منذر ذبيان الذي انهيت خدماته في السلك لأسباب مسلكية) أن يتخذ القرارات المناسبة في اسرع وقت. فالمماطلة ليست لمصلحته، وان بقيت الازمة الحكومية مفتوحة على استمرار الشلل، فهو مهدد ايضاً بدخوله مرحلة الشغور في الشهرين المقبلين بحيث سينحلّ بانتهاء ولايته في حزيران المقبل. ولا تستطيع حكومة تصريف الاعمال مواجهة هذا الواقع ولن يبقى في موقعه سوى ثلاثة من اعضائه، هم: رئيسه سهيل عبود والمدعي العام التمييزي غسان عويدات ورئيس هيئة التفتيش القضائي بركان سعد.

وان عادت الامور الى هيئة التفتيش القضائي التي كلفتها وزيرة العدل التحقيق في ملف ما «شهده القضاء في شكل شامل»، فلن يكون بمقدوره البت بالملف كاملاً وهو ممّن سجلوا على الوزيرة توسعها في هذه الاحالة الى ما هو مستحيل. فما كان مطروحاً في اجتماع السبت الماضي بين نجم والمجلس محصور بإحالة القاضية عون نتيجة ما وجّه اليها من اتهامات بمخالفات مسلكية كما جاء في 6 دعاوى قضائية و28 شكوى ضدها من جهات وشخصيات مختلفة وفي مجالات عدة. منها ما يتصل بجرم القدح والذم، وحجز حرية مديرة عامة، والتزوير كما إساءة استعمال السلطة. وهو ما قد يؤدي الى قرار ظني يرفع الى مجلس القضاء الاعلى لإنهاء خدماتها وفقاً لما تقول المادة 95 من قانون التنظيم القضائي التي أعطت مجلس القضاء الأعلى سلطة إعلان عدم أهلية القاضي والتي يؤدي تطبيقها الى «عزل أي قاض من منصبه إذا ثبتت عدم أهليته وعدم احترامه للأصول القانونية».

وأمام هذا الكَم من النظريات والوقائع التي حفلت بها الازمة القضائية الاخيرة، والتي شغلت اللبنانيين عمّا هو مطروح من أزمات حكومية ونقدية وصحية ووبائية، يمكن القول انّ الجسم القضائي يعيش اياماً صعبة. ولا يستغربنّ احد القول انّ «حمم القضاء» باتت على فوهة «بركان» فهل يمكن إخمادها ام انه سيتقاذفها وفي اكثر من اتجاه الى درجة عزّزت الاقتناع بأنه لن يكون هناك أي رابح؟