IMLebanon

الهويّة الكيانيّة قبل الدخول في الدّولة

كتب د. ميشال الشماعي في نداء الوطن:

إنّ ما نعيشه اليوم في لبنان هو مجموع تراكميّ لنتائج بلغ عمرها عقوداً من الزمن. وبالتّحديد بعد عمليّة تشاركيّة بين منظومتي السلاح والفساد التي نتجت عن اتّفاق الدّوحة في العام 2008، والذي تمّ التحضير له في 6 شباط 2006. مع العلم أنّ الأهداف لطرفي هذا الحلف مختلفة. مَن يملك السلاح، أي “حزب الله”، يعمل منذ تأسيسه على تغيير الكيانيّة اللبنانيّة، إن من خلال الغزو الديموغرافي والمناطقي بمشاريع عمرانيّة مشبوهة، وإن من خلال التعطيل المؤسساتي في اتّباعه نهج الديموقراطيّة التعطيليّة، وإن بتغيير الدّستور الذي يضمره ولا يعلنه. أمّا مَن أدخله الحزب إلى صلب مخطّطه لتغطية سلاحه بالعلن، ومشروعه الكياني بالخفاء، أي التيّار الوطني الحرّ، فلقد استغلّ وجوده في صلب التركيبة الدستوريّة لينهش ما استطاعه من خيرات الدّولة تحت حجج سقط معظمها، لعلّ أهمّها حقوق المسيحيّين.

هذا من حيث الأهداف. أمّا النتائج التي أوصلانا إليها فحدّث بلا حرج. من القتال والتدريب في اليمن والعراق، إلى زعزعة الاستقرار في السعوديّة والكويت والبحرين، والحرب في سوريا وحتّى ما بعد المحيطات في أميركا اللاتينيّة. وآخر هذه الفصول ما كشفته السعوديّة في شحنة الرمّان الملغوم بحبوب الأمفيتامين، واليونان بأدوات تصنيع الحلويات الملغومة بالحشيش. والمعروف بحسب أكثر من تقرير أنّ أماكن التصنيع والزراعة موجودة بين البقاع الشمالي الشرقي وسهل القصير أي مناطق نفوذ “حزب الله”.

بالطّبع، لا نتّهم هنا، لكن الحزب الذي يملك الجبروت العسكري والأمني قادر بأقل من 24 ساعة على إقفال هذه المصانع الموجودة في بيئته؛ كما هو قادر أيضاً، أن يمنع الزراعة غير الشرعيّة من خلال السماح للدولة اللبنانيّة ببسط سيطرتها على مناطق نفوذه التي باتت خارجة على القانون والدّستور في لبنان. هذا إذا كان لديه أيّ حسّ بالمسؤوليّة أو الشعور الوطني. لكن ما يدفع الحزب إلى تغطية هذه الأعمال غير الشرعيّة هو أبعد من مجرّد عمليّة تمويل، لا سيّما بعد تجفيف مصادر التمويل الوافدة من الجمهوريّة الاسلاميّة في إيران. إنّها حالة جهاديّة عقائديّة ينطلق منها الحزب لتدمير المجتمعات التي لا يستطيع اختراقها عسكريّاً وتخريبيّاً. وهذا بالطبع بناء على تصريحات بعض المشايخ المقرّبين منه الذين بحسب آخر فتاويهم تَشَرَّعَ التهريب عبر الحدود اللبنانيّة- السوريّة لدعم النظام السوري المتهالك، ولو على حساب لبنان كلّه.

بسبب هذه التجاوزات كلّها، بات لبنان اليوم معزولاً من الجهات كلّها:

– ديبلوماسيّاً: نتيجة لممارسات باسيل في أثناء تولّيه وزارة الخارجيّة اللبنانيّة، حيث حوّل نفسه إلى وزير خارجيّة النظام السوري المعزول ليفكّ عزلته؛ وصار الصوت السوري في المنتديات الدّوليّة من الجامعة العربيّة إلى الأمم المتّحدة.

– سياديّاً: وهنا الطامة الكبرى، وما هذا الانهيار السيادي، إضافة إلى الانتهاكات اليوميّة للعدوّ الاسرائيليّ، ما كان إلا نتيجة لمصادرة قراري الحرب والسلم وسحب هذين القرارين من يد الحكومة اللبنانية لصالح وأهواء “حزب الله”.

– دستوريّاً: نتيجة لتحوّل الدّستور إلى وجهة نظر في خدمة المنظومة، حتّى القضاء تمّ تحويله إلى أداة بيد هؤلاء، وعلى القطعة، لتحقيق المزيد من التحكّم والإحكام للمزيد من السيطرة والإطباق…

– نقديّاً: نتيجة للممارسات النقديّة لهذه الأكثريّة التي ساهمت برسملة بنوك أزلامها، وغطّت المؤسسات الماليّة التابعة لـ”حزب الله” التي تعمل من خارج المنظومة النقديّة اللبنانيّة. ونتيجة لعدم قوننة الكابيتال كونترول، واحتكار الدولار الأميركي من قبل بعض التجار والجهات السياسيّة التي نجحت بتهريب أموالها إلى البنوك الخارجيّة بعد ثورة تشرين 2019، ذلك كلّه أدّى إلى انهيار العملة اللبنانيّة مقابل الدّولار الأميركي.

– إقتصاديّاً: نتيجة لما تمّ تصديره إلى الخليج وأوروبا، تمّ وضع قيود قاسية جدّاً على الصادرات اللبنانيّة؛ لا بل على كلّ ما ينطلق من مرفأ بيروت الذي تحوّل إلى buffer zone تنطلق منها الممنوعات إلى أصقاع العالم الأربعة.

هذا كلّه من دون إغفال الملفّات المرتبطة بما أشرنا إليه آنفًا كالسياحة، والاستشفاء، والتعليم وغيرها من القطاعات التي صارت كلّها بحالة عزلة نتيجة للممارسات التي ذكرناها. ويبقى الحلّ بالعودة إلى الدّولة. لكن على ما يبدو، في ظلّ وجود غطرسة السلاح تمّ إبطال مفعول القانون، لا بل قل: الدّستور برمّته. والحلّ لن يأتي بالقوّة بل بعمليّة استيعاب لسلاح “حزب الله”، هذا إن أراد الحزب العودة إلى الدّولة. أمّا أولئك اليوضاسيّون الذين باعوه أنفسهم بثلاثين فإن استلحقوا أنفسهم، قد لا تنكسر فيهم أغصان أشجار التّين التي ما زالت غضّة.

وحتّى هذه الساعة لا يبدو أنّ الحزب يريد ذلك، بل هو يريد الهويّة الكيانيّة قبل الدخول في الدّولة، وهذا ما لن يتمكّن من تحقيقه في ظلّ وجود مَن يملك القدرة على المواجهة، ولو بيدين فارغتين، لكن بقلب مليء بالايمان، وما يكفي من الصلابة المستمدَّة من تاريخ الآباء والأجداد المؤسّسين ليبقى لبنان. ومَن له أذنان للسماع… فليسمع !