IMLebanon

لهذه الأسباب الفوضى مستبعدة

كتب شارل جبور في “الجمهورية”:

لا ينظر المجتمع الدولي إلى تأليف الحكومة كحلّ نهائي للأزمة اللبنانية، بل يتعامل معها كحلّ مؤقّت وبمهمة محددة في فرملة الانهيار المالي المتمادي تلافياً لفوضى محتمة في حال تواصل الانهيار بالوتيرة المتسارعة نفسها.

قادت باريس التوجُّه الساعي إلى تأليف حكومة في لبنان ووضعت كل رصيدها ودورها تحقيقاً لهذا الهدف، وقد واكبت سعيها بتحذيرات على لسان أكثر من مسؤول فرنسي بأنّ استمرار الفراغ سيفضي إلى زوال لبنان، ولم تكن وحيدة على هذا الخط، حيث عملت موسكو بالاتجاه نفسه واستقبلت للغاية أكثر من مسؤول لبناني، فيما الحراك المصري لا يقل شأناً عن الحراك الفرنسي والروسي، إنما كان وراء الكواليس لا في الإعلام.

ولم تبدِ بالمقابل واشنطن والرياض الاهتمام نفسه سعياً لتأليف حكومة، فالأولى انشغلت بالتسلُّم والتسليم بين إدارتين، والإدارة الجديدة فضّلت ان تحصر اهتمامها بالملف النووي على مستوى المنطقة، والملف الحدودي على المستوى اللبناني، فيما الثانية وصلت إلى حدود عدم الاكتراث بالملف اللبناني برمّته بسبب عجز الفريق الحاكم عن وضع حدّ لتحوّل لبنان إلى ممرّ لاستهداف المملكة في أكثر من اتجاه.

وأمام انسداد أفق التأليف تصدرّت السيناريوهات القاتمة الصورة السياسية، خصوصاً انّ كل يوم هو أسوأ من الذي سبقه، واستمرار الوضع على هذا المنوال سيضع ظهر اللبنانيين على الحائط، ولن يُبقي أمامهم سوى خيار الثورة رفضاً للذلّ والجوع والفقر، فيدخل لبنان في فوضى اجتماعية تُسقط هيكل الدولة المتبقي، وينزلق البلد إلى فصول جديدة من عدم الاستقرار.

ومن الواضح ان المجتمع الدولي تنبّه إلى مخاطر هذا السيناريو الحتمي في ظل رفض القوى المعنية بتأليف الحكومة التجاوب مع الضغوط الخارجية والمساعي لإنهاء الفراغ، ووجد نفسه أمام خيار من اثنين: إما ترك لبنان لقدره ومصيره، وإما التفكير بشكل مختلف ومن خارج تأليف الحكومة التي دخلت في دهاليز خلافات وحسابات القوى السياسية في لبنان.

ويبدو ان هذا المجتمع لا يريد أن يغرق لبنان في وحول فوضى جديدة في مرحلة يعاد فيها رسم معالم المنطقة مع انطلاق المفاوضات غير المباشرة بين واشنطن وطهران، وذلك لثلاثة أسباب أساسية: تجنُّب مواجهة أزمة نزوح جديدة؛ تجنُّب تعكير صفو المفاوضات بمواجهات قد تهدِّد مسارها مع تحوّل الساحة اللبنانية إلى ساحة رسائل ساخنة بين أطراف طاولات المفاوضات؛ تجنُّب تمدُّد السخونة اللبنانية إلى ساحات أخرى، فيما المطلوب في هذه المرحلة التهدئة بانتظار ما ستفضي إليه المفاوضات.

وانطلاق المفاوضات يعني الاستعداد للخروج من الستاتيكو الصراعي، وبمعزل عما يمكن ان تُفضي إليه هذه المفاوضات، إلا ان الثابت في المشهد ان ثمة شيئاً قد تحرّك على مستوى المنطقة، وهذه لحظة منتظرة منذ زمن بعيد، لأنه يتوقّف عليها مصير المنطقة ومن ضمنها لبنان، فإذا فشلت يبقى القديم على قدمه، وفي حال نجحت يكون البلد أمام 3 احتمالات:

الاحتمال الأول ان يقف الاتفاق الأميركي-الإيراني عند حدود الملف النووي، وألا يتمدد إلى دور طهران في المنطقة ومصير أذرعها، وفي هذه الحالة سيبقى الوضع اللبناني على ما هو عليه، علماً ان الإدارة الأميركية الحالية التي تفصل بين النووي والدور في مفاوضاتها غير المباشرة مع طهران خلافاً للإدارة السابقة التي كانت تربط بينهما، تعتبر، اي الإدارة الحالية، انّ بإمكانها دفع إيران إلى طاولة المفاوضات مجدداً بعد الوصول إلى اتفاق في الملف النووي، فيما هناك من يرى خلاف ذلك، وان جلّ ما تريده طهران رفع العقوبات عنها تعزيزاً لدورها الإقليمي.

الاحتمال الثاني ان يكون حدود اي تسوية في لبنان إعادة إنتاج «اتفاق دوحة» بصيغة جديدة، اي اتفاق يُزاوج بين إخراج الدولة من الفراغ وإعادة انتظام عمل المؤسسات، وبين التأكيد على مجموعة مسلمات ومبادئ عامة، ما يعني الاكتفاء بتسوية شكلية ومرحلية ومن دون الولوج إلى عمق الأزمة اللبنانية المتصلة بتطبيق الدستور ومرجعية الدولة وحدها ودور لبنان الخارجي والمساواة بين اللبنانيين.

الاحتمال الثالث ان يكون لبنان على موعد مع تسوية جديدة في ظل تمسُّك الطرف السنّي باتفاق الطائف، وسعي الفريق الشيعي إلى تعديله بما يتناسب مع التحولات التي طرأت على دوره وحجمه منذ إقرار هذا الاتفاق، وتهيّؤ الفريق المسيحي لأي تعديل من أجل إقرار اللامركزية الموسعة إلى أبعد حدود.

وهناك من يرى أن أي تسوية جديدة ستكون بين حدين: حد استبعاد العودة إلى اتفاق الطائف الذي لم يطبّق منذ لحظة إقراره وفي ظل سعي الفريق الشيعي إلى مقايضة سلاحه بالنفوذ السلطوي، وحدّ استبعاد اي وصاية جديدة على لبنان على غرار الوصاية السورية، وبالتالي اي تسوية ستكون بين هذين الحدين، وكل كلام آخر هو بعيد عن الواقع.

ولكن هناك من يستبعد أساساً الوصول إلى أي تسوية بين واشنطن وطهران حول دورها في المنطقة بسبب ارتباط هذا الدور بعقيدتها الإيمانية والسياسية ويشكل جزءاً لا يتجزأ من نهجها وتوجهها، حيث انه يرجّح ان تعزِّز هذا النهج بعد رفع العقوبات عنها لا ان تبدِّله، واي تغيير نوعي في دورها على مستوى المنطقة يُستبعد تحقيقه مع الإدارة الإيرانية الحالية والتي لا يبدو ان إمكانيات تغييرها ديموقراطياً ممكنة في المدى المنظور، ما يعني ان اي تغيير في دور الأذرع الإيرانية سيكون في الشكل لا في الجوهر.

وفي موازاة كل هذه الصورة المتحرِّكة على مستوى المنطقة، وضع المجتمع الدولي هدفاً محدداً له في لبنان وهو استبعاد احتمال الفوضى والحرب نظراً لانعكاس هذا الاحتمال على أكثر من مستوى، وبالتالي الأساس بالنسبة إلى هذا المجتمع تحقيق هذا الهدف بمعزل عن الوسيلة، فإذا كانت عن طريق الحكومة كان به، وإذا لم تكن كذلك فيجب البحث عن البديل الذي يؤمّن الغرض نفسه وهو الاستقرار الأمني، وقد وجد ان الجهد على تأليف حكومة في ظل صراعات لا تنتهي غير مجدٍ، ولذلك، من الأنسب التركيز على جانبين يؤمنان الهدف الدولي المرحلي في لبنان:

الجانب الأول يكمن في توفير الدعم المادي وغير المادي للمؤسسات الأمنية على اختلافها في لبنان وفي طليعتها المؤسسة العسكرية التي تشكل ركيزة الاستقرار الوحيدة مع انهيار الاستقرار السياسي والمالي، إذ طالما المؤسسات الأمنية بخير، فهذا يعني ان الاستقرار الأمني بخير، وقد أُعطي الضوء الأخضر لأكثر من عاصمة غربية وعربية من أجل توفير كل الدعم اللازم للمؤسسات العسكرية والأمنية في لبنان كخيار أوحد للاستقرار بعد الوصول إلى حالة اليأس من أي رهان على القوى الممسكة بمفاصل السلطة.

الجانب الثاني يتمثّل في توفير المساعدات للشعب اللبناني لكي يتمكّن من تجاوز الانهيارات المالية المتتالية، ومن كان يتصوّر مثلاً ان يتمكّن الشعب اللبناني منذ سنة إلى اليوم من الصمود في ظل الأوضاع المذرية القائمة، وفي نهاية المطاف قد صمد، وصموده قد يستمر وحتى لو تمّ رفع الدعم، لأنه ما بين المساعدات الخارجية من منظمات مختلفة، ومساعدات الجمعيات والأحزاب ورجال الأعمال ودور العبادة والمساعدات المباشرة من الدياسبورا اللبنانية، نجح بالتكيُّف مع هذا الوضع، ومن المرجّح ان يواصل تكيُّفه مع هذه الأوضاع ولو ساءت الأمور أكثر، وستسوء.

فلا مكان للفوضى في بلدٍ قواه الأمنية متماسكة وقادرة على حفظ الاستقرار، ولا مكان للفوضى في بلد تتدفّق المساعدات على عائلاته من كل حدب وصوب، ولا مكان للفوضى في بلد يتوحّد شعبه على حبّ الحياة ويُعتبر من أكثر شعوب العالم قدرة على التكيُّف والتأقلم.

فلكل هذه الأسباب الفوضى مستبعدة…