IMLebanon

عسكرة القطب الشمالي… صراعات استراتيجية “حامية” على “صفيح بارد”

كتب أنطوان الحاج في “الشرق الاوسط”:

 

برزت في الأيام الأخيرة مسألة لا تنال الكثير من الضوء في الإعلام العالمي على الرغم من أهميتها الاستراتيجية على مستوى العلاقات بين الدول الكبرى والرهانات الجيوسياسية والجيواقتصادية على المدى الطويل.

فقد سبق انعقاد اجتماع لـ«مجلس المنطقة القطبية الشمالية» في ريكيافيك، عاصمة آيسلندا، كلام مهم لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي قال إن القطب الشمالي هو منطقة نفوذ روسي، محذّراً الدول الغربية من امتلاك طموحات في المنطقة القطبية الشمالية.

وقدّ رد عليه نظيره الأميركي أنطوني بلينكن معبراً عن «مخاوف حيال مسألة زيادة بعض الأنشطة العسكرية في القطب الشمالي التي تزيد أخطار حصول حوادث (…) وتقوّض الهدف المشترك المتمثل بمستقبل سلمي ومستدام للمنطقة». وأكد أن «الأمر الذي يجب أن نتجنّبه هو عسكرة المنطقة».

في المقابل، رحّب بلينكن بخطة الاستثمار الدنماركية لتعزيز المراقبة العسكرية في غرينلاند وشمال المحيط الأطلسي، وقال خلال وجوده في كوبنهاغن: «نتشارك الالتزام بأمن القطب الشمالي ونرحب ترحيباً حاراً بقرار الدنمارك الأخير الاستثمار (…) في الدفاع عن القطب الشمالي وشمال الأطلسي بالتعاون مع حكومتَي غرينلاند وجزر فارو».

وكانت كوبنهاغن قد أعلنت في فبراير (شباط) عن استثمار بقيمة 1.5 مليار كورونة (200 مليون يورو) يشمل طائرات مراقبة مسيّرة فوق غرينلاند والأراضي الدنماركية المتمتعة بحكم ذاتي، ومحطة رادار في جزر فارو.

في أي حال، سيلتقي بلينكن ولافروف في ريكيافيك، مع ممثلي الدول الأخرى الأعضاء في هذه المنظمة التي تضم: كندا، الدنمارك (تمثل غرينلاند أيضاً)، فنلندا، آيسلندا، النرويج، روسيا، السويد، الولايات المتحدة. ويجب أن ننتظر لنرى ما سيحصل في لقاء اليوم (الأربعاء) والغد وأي بيان ختامي سيصدر عنه.

*تعريف

تحققت الخطوة الأولى نحو تشكيل «مجلس المنطقة القطبية الشمالية» عام 1991 عندما وقّعت الدول الثماني خطة استراتيجية لحماية البيئة في القطب الشمالي. وفي العام 1996 أنشأ إعلان أوتاوا المجلس ليكون منتدى لتعزيز التعاون والتنسيق والتفاعل بين دول المنطقة، بمشاركة مجتمعات السكان الأصليين والآخرين، للتعامل مع قضايا مثل التنمية المستدامة والبيئة.

الملاحَظ أن هذه المنظمة نشأت بعد وقت قليل من انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة. وكان معظم الباحثين الذين كتبوا في السنوات الأولى من تلك الفترة يشيدون بالاستقرار الجيوسياسي والتعاون البنّاء في القطب الشمالي، وذلك في ظل غياب تنافس القوى العظمى في المنطقة، معتبرين أن ذلك يشكل نموذجاً للعلاقات بين الدول في «العالم الجديد». إلا أن صعود الصين واعتبارها أنها دولة قريبة جغرافياً من القطب الشمالي، والعسكرة الروسية لمياه القطب، والتقارب بين روسيا والصين، وضعت المنطقة مجدداً في حلبة التنافس بين القوى العظمى.

وكانت الإدارة الأميركية قد حرصت قبل توقيع معاهدة إنشاء المجلس على إدراج ملاحظة تقول: «لا يجوز لمجلس القطب الشمالي أن يتعامل مع المسائل المتعلقة بالأمن العسكري». وبعد 23 عاماً من ذلك، اعترف وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو في كلمة ألقاها في اجتماع المجلس في فنلندا عام 2019 بأن الظروف تغيرت و«أصبحت المنطقة ساحة للنفوذ والتنافس. يجب على دول القطب الشمالي الثماني التكيف مع المستقبل الجديد».

عام 2018، أصدرت الصين وثيقتها الأولى حول استراتيجيتها الخاصة بالقطب الشمالي، وتحدثت عن «طريق الحرير القطبي» كجزء من مبادرة «الحزام والطريق» التي تنفذها في أنحاء عدة من العالم وتشمل مشاريع تعاون مع الدول الراغبة في إنشاء البنى التحتية.

في موازاة ذلك، تعمل روسيا على تعزيز وجودها العسكري والتجاري في القطب الشمالي من خلال إنشاء قواعد عسكرية جديدة، وتجديد القواعد القديمة، وتوسيع أسطولها من كاسحات الجليد والغواصات التي تعمل بالطاقة النووية.

بالتالي يمكن القول إن سباق السيطرة على الموارد في أقصى شمال العالم يكتسب زخماً. بل إنه ازداد حماوة بسبب التغيرات المناخية، لأن ذوبان الجليد في القطب جعل من الممكن الوصول إلى مزيد من موارد الطاقة والممرات المائية، علماً أنه من المعروف أن ثمة احتياطات كبيرة من النفط والغاز والمعادن في المنطقة. وبالتالي من السذاجة الاعتقاد أنه من الممكن المضي بسياسة التعاون التي كانت قائمة قبل ربع قرن أو نحوه هناك، فالتنافس بين القوى العظمى لا يحكمه التعاون، بل ديناميكيات الاعتبارات الأمنية والمصالح الاقتصادية، علماً ان هناك قوتين عظميين تُعتبران قطبيتين حقاً (الولايات المتحدة وروسيا)، وثالثة (الصين) أقحمت نفسها في المعادلة بطريقة أو بأخرى.

*رهان صيني

من ينظر إلى الوضع العالمي ككل لا بد أن يرى أن ميزان القوى العالمي يميل شيئاً فشيئاً نحو الصين. فالحصة الأميركية من التجارة العالمية والناتج المحلي الإجمالي آخذة في الانخفاض. كذلك، تميل واشنطن إلى التراجع عن التزاماتها العالمية وتنكفئ إلى حد ما نحو الداخل، فيما تتحدى الصين بشكل متزايد هيمنة الولايات المتحدة. وهكذا نرى أن بحر الصين الجنوبي في طريقه لأن يصبح بحر الصين بغض النظر عن اعتراضات الدول المشاطِئة.

في موازاة ذلك، تعمل بكين بسرعة على سد الفجوة العسكرية مع واشنطن، وتنهض بقوّة لافتة من التداعيات الاقتصادية لجائحة «كوفيد – 19». ومع تحول ميزان القوى الاستراتيجي، أصبحت الصين أكثر جرأة وحزمًا في الوقت نفسه. وتسعى إلى الحصول على مكانة دولية أكبر، ليس فقط في المحيطين الهندي والهادئ بل أيضًا في أجزاء أخرى من العالم، منها القطب الشمالي حيث تهدد مصالح الولايات المتحدة، خصوصاً في غرينلاند وآيسلندا. ففي الأولى تستثمر الصين في الموارد المعدنية، وفي الثانية تركز جهودها على الطاقة الحرارية الأرضية (الجوفية)، بالإضافة إلى مشروع مشترك في مجال المعلوماتية مع فنلندا لتطوير «طريق حرير البيانات».

وتخشى واشنطن أن تعزز الصين اقتصاد غرينلاند إلى درجة تجعل هذه تفكر في الاستقلال عن الدنمارك، الأمر الذي يهدد النفوذ الأميركي في تلك البلاد الباردة القريبة من الولايات المتحدة التي تملك قاعدة جوية عسكرية مهمة في قرية تدعى تول.

*البُعد الروسي

كان المحيط المتجمد الشمالي خاضعاً للعسكرة إلى أقصى الحدود خلال الحرب الباردة. ونشر كل من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة أسلحة «الردع» النووي على الأطراف الشمالية للقطب. ويكفي النظر إلى الخريطة لإدراك الأهمية الاستراتيجية العسكرية للمحيط المتجمد الشمالي، فهو يجمع جغرافياً بين الولايات المتحدة وروسيا وبالتالي لا بد لكل من الطرفين أن يملكا في المنطقة ما يضمن لهما ردعاً متبادلاً و«يحرس» مصالحهما الاقتصادية.

وإذا سأل سائل كيف يمكن اعتبار روسيا نداً للولايات المتحدة في تلك المنطقة أو غيرها فيما حجم اقتصادها أصغر بكثير من حجم الاقتصاد الأميركي (أو الصيني)، فإننا يجب أن نضع في الاعتبار أن روسيا لطالما امتلكت قوة عسكرية أكبر بأضعاف مضاعفة مما يسمح به اقتصادها، وهي تعتمد على قوة «العضلات» العسكرية للتمكن من تغذية شرايينها الاقتصادية وتوسيع نفوذها العالمي، أو على الأقل ترسيخه حيث هو موجود. وعندما يتعلق الأمر بمنطقة القطب الشمالي، فإن روسيا هي القوة العسكرية والاقتصادية العظمى بلا منازع. وقد عسكر الروس القطب بوتيرة سريعة. ولئن كان وجودهم العسكري هناك ذا طبيعة دفاعية بالدرجة الأولى، فإن القدرات الهجومية ليست غائبة عن الساحة حكمًا.

وتُعتبر قاعدة «آركتيك تريفويل» درّة التاج العسكري الروسي في القطب الشمالي. وهي قائمة في أرخبيل فرانتس يوسف لاند حيث تهبط الحرارة إلى ما دون 40 درجة مئوية تحت الصفر في الشتاء، وتضم عدداً كبيراً من الصواريخ والرادارات ويمكن لمدرجها التعامل مع جميع أنواع الطائرات، بما في ذلك القاذفات الاستراتيجية ذات القدرات النووية.

الرهانات كبيرة إذاً في منطقة حساسة تتلامس فيها مصالح دول تتنافس في ساحات عدة، ولا يتوقع أكبر المتفائلين أن تؤدي لقاءات الأربعاء والخميس في ريكيافيك إلى تحقيق الوئام والتفاهم والإنضواء تحت لواء حماية البيئة والحيوانات القطبية، فموارد الطاقة وما في جوف الأرض والممرات البحرية هي المرمى الحقيقي في هذا الملعب وكل ملعب.