IMLebanon

هل يمكن الخروج من دوامة الفشل؟

كتب شارل جبور في “الجمهورية”:

تحوّل الفراغ في لبنان إلى قاعدة العمل السياسي، حيث يتمّ التنقّل بين فراغ نيابي وآخر حكومي وأخير رئاسي وهكذا دواليك. وأي مراجعة لواقع الحال منذ العام 2005 تثبّت انّ انتظام عمل المؤسسات هو الاستثناء، فيما التعطيل والفراغ هما القاعدة.

الكلام في هذا الموضوع يرتقي إلى مصاف المحرمات، لأنه يؤشّر إلى رغبة أو نية في تعديل الدستور، وبالتالي حتى النقاش يعدّ من المحظورات والممنوعات، ويخرج عليك من يصنّف نفسه بأنه الأب الشرعي لاتفاق الطائف، ما قد يعرِّضك لحرم شديد في حال حاولت الاسترسال في هذه المسألة.

فالفراغ والتعطيل، بالنسبة إلى هذا البعض، هو أهون الشرور من إعطاء الانطباع بنية البحث في الآليات التي تضع حداً لهذا التعطيل المتمادي والفراغ المستدام، والبحث في الآليات لا يعني المس إطلاقاً بالتوازنات الميثاقية ولا في دور الرئاسات وصلاحياتها، ولكن هل يعقل انه لا يوجد وسيلة او طريقة تُرسي قواعد الانتظام المؤسساتي بشكل ثابت ودائم من دون المس بالصلاحيات والأدوار والتوازنات؟

فما الوسيلة مثلاً لتجنُّب الفراغ الرئاسي، وان يكون موعد الانتخابات الرئاسية ثابت لا متحرِّك، وان يكون الشعب اللبناني على بَيّنة دائماً من موعد انتخاب رئيس جديد له؟ وما الطريقة التي تحول دون الفراغ الحكومي فيُصار إلى اعتماد قواعد للتأليف واضحة وصارمة تُفضي إلى تأليف سريع بعيداً عن المماطلة والجَرجرة وأهواء الرؤساء وأطباعهم؟

ولا يجب أن تتأثّر إدارة شؤون البلاد بالعلاقات الشخصية بين الرؤساء، فإذا كانت جيدة تَتسهّل الأمور، وفي حال كانت سيئة تتعقّد، فيما المعيار على مستوى أي ممارسة عامة يكمن في الالتزام بقواعد الدستور والمصلحة العليا للدولة والناس، وليس بطبيعة العلاقات الشخصية وتقلباتها المصلحية السلطوية التي تطيح الدستور ومصالح هؤلاء الناس.

فهناك ورشة مطلوبة ليس لتعديل الدستور، إنما من أجل وضع آليات تطبيقية للنصوص القائمة، فلا يجوز في دولة يفترض ان تكون حديثة وشعبها متحضِّر غير قادرة باستمرار لا على تشكيل الحكومات ولا على إجراء الانتخابات الرئاسية، حيث يتمّ التلطّي بالنصوص من أجل التعطيل لحسابات سياسية. وبالتالي، جلّ ما هو مطلوب رفع هذا التلطي، لأن هناك من سيقول انّ المشكلة تكمن في تغييب الدولة من قبل السلاح غير الشرعي، وهذا صحيح، ولكن هذا لا يمنع الالتباس في النصوص، فأين السلاح اليوم في منع التأليف؟ وإذا كان من سلاح سيستخدم للتعطيل، فليستخدم مباشرة على طريقة 7 أيار 2008 وليس مواربة.

لا شك انّ السلاح خارج الدولة يمثِّل معضلة المعضلات، لأنه إذا استخدم أو لم يستخدم يضرب هيبة الدولة ويعطِّل المؤسسات ويفرض التمييز بين الناس والجماعات، واحتكار الدولة للسلاح يجب ان يبقى هدفاً جوهرياً وأساسياً ومن دونه عبثاً البحث عن استقرار سياسي ومالي واجتماعي، ولكن هذا لا يمنع تضييق الخناق على هذا السلاح عن طريق توضيح الآليات الدستورية منعاً للفراغ والتعطيل الذي ينعكس سلباً على الأوضاع المالية والاقتصادية.

فهل من انتقاص من صلاحيات رئاسة الجمهورية في حال تحول موعد الانتخابات الرئاسية إلى موعد ثابت ومُلزم للكتل النيابية، حيث يُنتخب الرئيس في نفس التاريخ كل 6 سنوات؟ وهل من انتقاص من صلاحيات رئيسي الجمهورية والرئيس المكلّف في حال توضّحت آليات تأليف الحكومات التي تدخل في كل مرة بِـ”عَلٍّ” طويل الأمد ومتاهات وخلافات؟

ومع التأكيد على الفصل التام بين رفض اي تعديل دستوري يمسّ بالتوازنات الميثاقية ودور الرئاسات وصلاحياتها، وبين ضرورة الاتفاق على وضع آليات تسهِّل الانتظام المؤسساتي وتمنع الفراغ وتحدّ من التعطيل، وبالتالي لا للتعديل الدستوري حُكماً، ولكن نعم لوضع آليّات تطبيقية طالما انّ المسؤولين لا يعملون بوحي الدستور الذي يترك لهؤلاء المسؤولين حقّ التقدير، اي تقدير المصلحة العليا. وبما انّ هذا التقدير تحوّل إلى عرقلة وتعطيل، فمن الأجدى وضع آليّات لا علاقة لها بالصلاحيات ولا تنتقص من أدوار الرئاسات.

فهل هناك مثلاً أسوأ من الوضع الحالي مالياً واقتصادياً والبلاد على شفير الفوضى والناس جاعت والبنك الدولي صنّف الأزمة المالية في لبنان كواحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية عالمياً منذ القرن التاسع عشر؟ وعلى رغم ذلك لا الحكومة تتشكّل، ولا القوى المُمسكة بقرار السلطة تبحث عن البدائل التي تجنِّب البلد والناس الأسوأ، والصراعات تتواصل وكأنّ لبنان في حالة طبيعية تسمح بالانقسام والتعطيل والفراغ.

ومن الأمور الرائجة في لبنان انّ اقتصاد البلد هو اقتصاد الصدفة، إذ على رغم التصنيف الدولي للأزمة اللبنانية يصعب ان يجد المواطن طاولة في مطعم ليل السبت او شاليه على البحر، وقد يكون ذلك بفِعل تحويلات المغتربين الذين يضخّون العملة الصعبة التي تُبقي البلد في حال من التوازن النسبي، ولكن الصدفة الموجودة على المستوى الاقتصادي لا يجوز ان تبقى على المستوى السياسي أيضاً وكأنّ البلد يُدار عشائرياً لا دستورياً، ومن هذا المنطلق ضرورة إزالة الالتباس في النصوص وتوضيح الآليات.

والأزمة الحالية ليست بالتأكيد طائفية، والخلاف المستحكم بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف ليس على صلاحيات الموارنة ولا السنّة، إنما حول نظرتين مختلفتين للحكومة العتيدة، بين من يعتبرها آخر حكومات عهده ويسعى لتعزيز قبضته تحضيراً لمرحلة الفراغ الرئاسي، وبين من لا يريدها نسخة طبق الأصل عن الحكومة المستقيلة مكبّلة وعاجزة، وبمعزل عَمّن وجهة نظره على الحقّ، إلا انّ النتيجة نفسها تُفضي الى انّ الفراغ سيّد اللعبة السياسية، ومن يدفع الثمن هو المواطن والبلد.

فقد يكون هذا الرئيس على حقّ أو ذاك، ولكن الحقّ لا يفيد بشيء طالما انه لا يبدِّل في الفراغ القائم، والحقّ في لبنان يتحوّل إلى وجهة نظر، وكل فريق يدافع عن حقه من وجهة نظره، فتضيع الحقيقة ويغرق البلد وتموت الناس جوعاً وفقراً. وبالتالي، لا يجوز الاستمرار في هذه الدوامة من الفشل، إنما يجب وضع قواعد وآليات تطبيقية واضحة تجنِّب البلد والناس جلجلة الفراغ عند كل استحقاق دستوري.

والصورة بحد ذاتها مسيئة ومهينة، من الوفود الدولية التي تجول على الرؤساء سعياً لتأليف الحكومة، إلى الوساطات الداخلية التي تتنوّع بحسب المبادرين إليها، فتارةً بكركي، وطوراً عين التينة، وأحياناً حارة حريك والمختارة، وهكذا دواليك. وعلى رغم كل هذه المبادرات الخارجية منها والداخلية، وقوة الدفع الفرنسية بداية، وانتهاءً بقوة الدفع الشيعية، ما زال الفراغ هو الغالب، ولم تتمكّن كل هذه الوساطات من جَمع الرئيسين حول مساحة مشتركة تُفضي إلى ولادة الحكومة.

ولماذا هذا الإصرار على إظهار اللبنانيين بأنهم ما دون سن الرشد وبحاجة لوصاية، وعند كل استحقاق دستوري يجب ان يتحرّك مجلس الأمن والجامعة العربية والصليب الأحمر الدولي وان تستنفر القوى السياسية في الداخل، فيما مجرّد آليّات تطبيقية واضحة وبسيطة وشفافة قادرة على تجنيب اللبنانيين هذه البهدلة المعطوفة على المهزلة وما بينهما فشل الدولة؟

وتوازياً، عادت كل مساعي التأليف التي قادها الرئيس نبيه يري إلى المربّع الأول، وأكدت المحاولة الأخيرة المؤكّد بأنّ الاتفاق بين الرئيسين متعذِّر، وان لا حكومة في الأفق، ولا استقالات من مجلس النواب لا لـ»التيار الوطني الحر» ولا لتيار «المستقبل»، وانّ المراوحة في الفراغ مستمرة حتى إشعار آخر.