IMLebanon

مساعٍ لـ”تبريد الأرض” السياسية إنقاذاً لمبادرة بري

ليست المرة الأولى منذ سقوط لبنان في الحفرة المالية السحيقة ووقوعه في قبضة أزمة حكومية مستحكمة منذ 10 أشهر، تستعير أوساطٌ سياسية معادلة «الأفواه الجائعة والأرانب السياسية» لتوصيف الوضع الذي بات «خارج التصنيفات» الذي تعيشه «بلاد الأرز» التي تتهيأ لـ «دخول التاريخ» من باب «أسوأ أزمات الكوكب» في 170 عاماً.

فعشية أسبوعٍ جديدٍ من عمر المأزق الحكومي الذي يختصر تعقيداته وصْفُ رئيس البرلمان نبيه بري المبادرة التي يقوم بها لاجتراح مخرج توافقي بأنها على طريقة «الحفر في الصخر»، تسارعتْ مَظاهر الانهيار الجارف الذي يُخشى أن يكون بات أقوى من أن توقفه «أرانب سياسية» من زمن «تبويس اللحى» و«تدوير الزوايا» الذي طبع أزمات لبنان ولا سيما في الأعوام الـ 16 الأخيرة، في حين تشي أفواه البؤساء الذين يتدحرجون على سلّم الفقر وتحت خطوطه بثورةٍ متجددة يعتقد كثيرون أنها لم تَعُد إلا «مسألة وقت».

وفي حين كانت محاولات بري ووسطاء آخَرين لتبريد الأرضية السياسية التي «اشتعلت» في الأيام الأخيرة على جبهة رئيس الجمهورية ميشال عون – الرئيس المكلف سعد الحريري تتعرّض لـ «قنْصٍ» عَكَس أن مساعي رئيس البرلمان لاستيلاد حكومة الـثلاث ثمانيات (24 وزيراً) تدور فوق مسرح عمليات ليس من المبالغة أن تُسقَط عليه شراسةُ واحدة من أشهر معارك الحرب اللبنانية في تلة الـ 888 (في الجبل)، رسمتْ مؤشراتٌ عدة أفقاً بالغ القتامة لِما ينتظر اللبنانيين الذين تكبر كل يوم «الصخرة» التي يحملونها في رحلة السقوط إلى… الجحيم.

ولم تعُد خطواتٌ مثل قرار «مصرف لبنان» بإلزام المصارف بتسديد 400 دولار نقداً شهرياً بالاضافة إلى ما يوازيها بالليرة اللبنانية (وفق سعر 12 الف ليرة للدولار) للحسابات التي كانت قائمة بتاريخ تشرين الأول 2019 وكما أصبحت في آذار 2021 كافية لاختراق «الجدار الأسود» الذي يُطْبِق على يوميات اللبنانيين مع تجديد الدولار مساره التصاعدي ليلامس 13500 ليرة في السوق السوداء، في موازاة منافسة مُفجِعة بين «عتمتيْن»: واحدة تطلّ من «برنامج إطفاء معامل إنتاج الكهرباء» تباعاً خلال ايام قليلة بفعل النقص الحاد في الفيول وضياع مسؤولية عدم توافر الاعتمادات اللازمة وتحميلها تارة لـ «المركزي» وطوراً للتشدد غير المسبوق الذي تعتمده المصارف المراسلة. والثانية من التقنين القاسي الذي ستبدأه المولدات الخاصة بمعدّل 5 ساعات يومياً الأسبوع الطالع نتيجة غياب القدرة على تأمين المازوت.

وإذ سـ «تصطفّ» هذه الأزمة المرتقبة خلف سلسلة الفواجع التي تضرب لبنان، من نقص البنزين الذي دفع أحد المواطنين في البقاع لحرق سيارته بعدما عجز عن تعبئة ولو بضعة ليترات، إلى تحوُّل المستشفيات «عاطلة عن العمل» في أقسام كبيرة منها بفعل فقدان مستلزمات طبية ضرورية والتعاطي مع تسعيرات الجهات الضامنة كأنها من «كوكب آخر» في ظل انسحاق الليرة، لم تكن عابرة التقارير التي تحدثت عن تعزيز بعض السفارات إجراءاتها الأمنية، في موازاة تقاطُع تقديرات عند أن «استيقاظ» غضب الشارع (الذي بدأ يتحرك في بعض المناطق) بات وشيكاً وسط تسريباتٍ استوقفت دوائر مراقبة وحاولت استباق أي مَظاهر تفلُّت وفوضى بالغمز من احتمالات ترْكها تتمدد ربطاً بأجندات سياسية.

وفيما تأتي كل «العوارض» المتعاظمة للانهيار على وقع إشاراتِ «يأسٍ» دولي متزايد من الطبقة السياسية اللبنانية وأدائها الأقرب الى «عليّ وعلى أعدائي»، وهو ما عبّرتْ عنه أخيراً «استغاثة» المحكمة الدولية الخاصة بلبنان (تتولى النظر في اغتيال الرئيس رفيق الحريري وسائر الجرائم المتصلة) وتوجيهها نداء إلى المجتمع الدولي لتوفير التمويل لسنة 2021 وإلا «خرجت من الخدمة» في تموز وسط تمنُّع غالبية الدول المانحة عن سداد تعهداتها المالية (إلى جانب عدم قدرة لبنان على الوفاء بالتزاماته التمويلية)، فإن الوقائع الداخلية المتصلة بالملف الحكومي لا تعكس إمكان التوصل إلى تفاهماتٍ قريبة لا يمكن فصلها بطبيعة الحال عن البُعد الاقليمي للمشهد اللبناني وصراعاته.

وعلى أهمية تأكيد الرئيس بري بعد أيام من انفجار علاقة عون – الحريري بمسعاه «لن أتراجع عن مبادرتي بوصفها فرصة لن تتكرّر، والمبادرة لن تستسلم، وستبقى تحفر في الصخر وتسعى الى عبور كلّ الموانع التي تبقي لبنان في حاله الكارثي المتفاقم»، فإن الوقائع التي تتوالى تشير إلى أن عملية «ليّ الأذرع» بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف ما زالت على أشدّها في ظل استمرار التلويح بـ «أوراق الاحتياط»، من اعتذار الحريري فتْحاً للطريق أمام حكومة انتخابات أو لترْك «كرة النار» تحرق حامليها، إلى استقالة نواب «التيار الوطني الحر» من البرلمان لاستدراج انتخابات مبكرة و«إبطال» تكليف زعيم «المستقبل»، ولو احتفظ كل من الفريقين بحقه في أن يختار هو توقيت نقل «المعركة» إلى أبعاد ستكون مختلفة تماماً ومن الصعب التكهن بمداها.

ولم يكن عابراً أنه في موازاة حرص فريق عون على إشاعة أنه متمسك بمقاربة إيجابية لمبادرة بري، أثار هذا الفريق عنصراً يُعتبر ناسفاً لأصل المبادرة القائم على توزيعة الـ ثلاث ثمانيات (التي تضمن عدم نيل اي فريق الثلث المعطّل) عبر رفْض هذه الصيغة بوصفها تكريساً لـ «مثالثة» مسيحية – سنية – شيعية على قاعدة أن المكوّن السني سيقود ثلثاً (يضم الوزيرين المسيحيين اللذين يعترض عون على أن يسميهما الحريري) والشيعي ثلثاً آخَر (بينهم 3 وزراء مسيحيين) والمسيحي (عون والتيار) ثلثاً ثالثاً.

وتحت وطأة تفاعلات هذا الموقف، معطوفاً على ما كُشف عن أن باسيل كان أبلغ الى موفدي بري و«حزب الله» قبل أيام عدم حسْم إعطائه الثقة للحكومة، برزت أمس محاولة من «التيار الحر» لتدارُك الأمر بإضفاء طابع ملتبس على مسألة الثلاث ثمانيات من خلال تأكيده في بيان «الالتزام بحكومة اختصاصيين وبرئاسة الحريري، والانفتاح على أي حكومة يتوافق عليها اللبنانيون لكنه يرفض قطعاً أي انقلاب على الدستور بتخطي المناصفة الفعلية وتكريس أعراف جديدة بالحديث عن مثالثة مقنّعة يحاول البعض الترويج لها على قاعدة ثلاث مجموعات من ثمانية وزراء يقود كلاً منها أحدُ المكونات الأساسية في البلاد، مع تأييده استثنائياً لهذه المرّة، ألاّ يكون لأي فريق أكثر من 8 وزراء».

وترافقت كل هذه الضوضاء مع معطياتٍ عن متابعة فرنسية ومصرية لصيقة، كما من البطريركية المارونية، لـ «آخر محاولات» توفير مخارج للأزمة الحكومية ولمكامن تعطيلها، وسط اتجاه الأنظار إلى زيارة سيقوم بها المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم لموسكو في الأيام المقبلة، علماً أن رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط سيقصد روسيا أيضاً منتصف الشهر الجاري.