IMLebanon

ملاكمة اميركية – ايرانية على الشاطئ اللبناني

كتب جوني منير في “الجمهورية”:

الإنهيار المتسارع الذي يسحق السواد الاعظم من اللبنانيين ويدفع بالكيان الى آفاق مظلمة ومجهولة، يضاعف من خطورته وآلامه السلوك الذي تنتهجه الطبقة السياسية في لبنان، هو سلوك يرتكز على حسابات المصالح الضيّقة والذاتية لهذه القوى. وهو في الوقت نفسه يخضع لاستثمار القوى الدولية في اطار اعادة صياغة خارطة النفوذ السياسي في الشرق الاوسط، ورسم خارطة جيوسياسية جديدة، على أنقاض الصراعات الدموية التي دارت منذ العام 2003 تاريخ الاحتلال الاميركي للعراق.

صحيح انّ ايران رفضت ان تقترن مفاوضاتها حول ملفي الصواريخ البالستية الايرانية وخارطة نفوذها على المستوى الاقليمي، لكن هذا لا يعني أنّ واشنطن ستضع هذين الملفين جانباً.

من الواضح انّ اعادة العمل بالاتفاق النووي معدّلاً، سيتبعه صراع حول الصواريخ وخارطة النفوذ، وبالتالي فإنّ الساحة اللبنانية هي معنية بشكل مباشر واساسي، انطلاقاً من «حزب الله»، خصوصاً لناحية دوره العسكري الاقليمي.

وفيما راجت نظرية مقايضة الدور العسكري الاقليمي بنظام سياسي جديد في لبنان، فإنّ الرسائل الاميركية والاوروبية تضمنت رفضاً لذلك. هكذا يمكن قراءة خلفية الكلام الذي أطلقته السفيرة الاميركية في لبنان دوروثي شيا في مقابلتها مع تلفزيون «الجديد»، وهو الموقف الأول لها بعد عودتها من واشنطن، فهي قالت انّ ايران تتطلع الى دولة تابعة يمكنها ان تستغلها لتنفيذ جدول اعمالها، وكانت تقصد لبنان. ولكن الردّ الايراني لم يتأخّر، فبعد ساعات معدودة وصفت السفارة الايرانية في لبنان كلام شيا بالتفاهات، رافضة التدخّلات الاميركية في العلاقات الاخوية بين البلدين والشعبين الايراني واللبناني.

في الواقع، ارادت شيا ان تقول بأنّ بلادها ترفض حجم النفوذ الايراني في لبنان، او الاتجاه الى ترجمته على مستوى النظام السياسي في لبنان، وفي المقابل جاء الردّ الايراني على اساس انّ حلفاء ايران هم الفريق الأقوى في لبنان، وأنّ هذا واقع قائم لا يحتاج لاعتراف أحد.

في الواقع، فإنّ احد اهم اسباب الاعتراض الايراني على التفاوض على الصواريخ، كونها السلاح الفعلي القادر على تحقيق تفوقها العسكري في ظل مشاكل تعانيها بقية القطاعات العسكرية.

أما بالنسبة لخارطة النفوذ، فإنّ طهران تعتقد أنّ ما حققته من نجاحات ميدانية خلال المراحل الماضية، إنما جاء نتيجة جهودها وقدراتها الذاتية، إن في اليمن او العراق او سوريا او لبنان. قد تكون ايران ترى أنّها تريد ترجمة ما حققته ميدانياً على مستوى السلطة، ففي العراق حصل ذلك، ولو أنّه لا يزال بحاجة لبعض المتممات. وفي اليمن فإنّ الترجمة باتجاه النظام السياسي الجديد على قاب قوسين أو أدنى. وفي سوريا هنالك ورشة متشعبة، وتبقى الساحة اللبنانية التي تحتضن اقوى وابرز حلفاء ايران في المنطقة.

في المقابل، تنطلق واشنطن ومعها باريس وفق حسابات مختلفة. فحتى خلال ولاية دونالد ترامب، والتي سادت فيها البرودة في العلاقات الاميركية – الاوروبية، إلاّ أنّ ادارة ترامب أقرّت بدور فرنسا في لبنان، حين دعمت مبادرة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون. صحيح أنّ هذا الدعم غابت عنه الحماسة المطلوبة إلّا أنّه كان موجوداً. ومع دخول جو بايدن الى البيت الأبيض اصبحت الحماسة الاميركية ظاهرة، خصوصاً وأنّ فرنسا وضعت الملف اللبناني في طليعة اهتماماتها الخارجية. وللتذكير، أنّه خلال المحادثة الهاتفية الرسمية الاولى مع نظيره الاميركي بتاريخ 27 كانون الثاني، طرح وزير الخارجية الفرنسية العديد من الملفات على المستوى الدولي كساحات تعاون مشتركة بين البلدين، ومنها الساحة اللبنانية. يومها أبدى لودريان خوف بلاده من تفتت لبنان وزواله، وبعدها بدأ تنسيق اميركي – فرنسي حيال الملف اللبناني، وهو ما تُرجم تعاوناً وتنسيقاً على مستوى السفيرتين في لبنان.

وجاءت الاشارة الأقوى مع الزيارة الأخيرة لأنطوني بلينكن الى باريس، فعدا الكلام القوي الذي تشارك في اطلاقه بلينكن ولودريان حيال لبنان، فإنّ اللقاء الأبرز الذي أجراه الوزير الاميركي كان مع الخلية الديبلوماسية الفرنسية.

باختصار، ستواكب واشنطن عن كثب حركة باريس في لبنان، وستعمل على دعمها، ليس فقط لتأمين سبل نجاحها، بل في اطار تكريس خارطة النفوذ الجديدة في المنطقة، والتي لا تلحظ، وفق المنظار الاميركي، نفوذاً شرعياً ورسمياً لحلفاء ايران على الشاطئ اللبناني.

صحيح أنّ واشنطن خسرت الكثير من معاركها الميدانية في الشرق الاوسط بمواجهة ايران، هي خسرت في لبنان ايضاً، حينما اضطرت قوات المارينز للانسحاب، تحت وطأة الانفجار الهائل الذي أدّى الى احدى أكبر الخسارات في ارواح المارينز.

لكن النتائج قد تأتي مختلفة في بعض الاحيان. ووفق احصاء لمرحلة الحرب الباردة في زمن الاتحاد السوفياتي، فإنّ واشنطن وموسكو خسرتا يومها 45% من الحروب التي خاضوها مباشرة مع خصوم أضعف منهما وفق الميزان العسكري، لكن النتائج السياسية لهذه الحروب الخاسرة جاءت مغايرة للمسار الحربي.

وعلى سبيل المثال، فإنّ حرب فييتنام، والتي شكّلت كارثة حربية على الولايات المتحدة الاميركية وحفرت عميقاً في الوجدان الاميركي وانتهت بهزيمة قاسية للاميركيين، انتجت واقعاً مغايراً للمسار الحربي. تكفي الاشارة الى انّ فييتنام تعدّ اليوم من الدول الحليفة لواشنطن.

في الواقع، هنالك ورشتان كبيرتان متجاورتان ومتداخلتان تنتظران حلولاً، خصوصاً وانّ الانهيارات الاقتصادية تخنقهما، وثمة لاعب كبير لا يمكن تجاوز مصالحه، والمقصود هنا روسيا. صحيح انّ المصالح الفعلية لروسيا في سوريا، لكن التداخل بين الساحتين يجذب موسكو ايضاً الى الساحة اللبنانية.

وبعد القمة الاميركية – الروسية عملت موسكو على استباق جولة جديدة من محادثات استانة والمخصّصة للإشراف على وقف اطلاق النار في منطقة خفض التصعيد. فباشر الجيش الروسي تدريبات عززتها باستقدام طائرات نوعية وقطع بحرية متطورة، ما شكّل استعراضاً لقوتها العسكرية الجوية والبحرية. والرسالة الروسية تقول، لنا اليد الطولى عسكرياً في شرق البحر الابيض المتوسط.

والى واشنطن، يصل الرئيس الاسرائيلي رؤوفين ريفلين للقاء الرئيس الاميركي، حاملاً رسالة واحدة: لن نسمح بإقامة قاعدة ايرانية امامية في سوريا او لبنان. وقبلها كانت زيارة لرئيس الاركان الاسرائيلي افيف كوخافي قال انّها حققت اهدافها حيال نقطتين، الاولى حول الملف الصاروخي الايراني، والثانية حول النفوذ الايراني في سوريا ولبنان.

في المقابل، يزور اسماعيل هنية لبنان، ليلتقي بمسؤوليه، قبل ان يزور طهران، حيث سيلتقي مرشد الثورة السيد علي خامنئي. هي جلبة مرشحة لأن تتصاعد اكثر وتلفح لبنان بقوة. لكن هذه الرياح الساخنة تحرق الناس على لهيب الانهيارات الاقتصادية والمالية المتسارعة. واذا كان البعض يتوقع ان تكون محطتها الاولى عند موعد الانتخابات النيابية، فالسؤال البديهي هو هل يستطيع اللبنانيون اجتياز عشرة أشهر مع هذه الكوارث الاقتصادية والصحية والمعيشية والحياتية؟ بالتأكيد كلا، خصوصاً وانّ اطراف السلطة في لبنان يرون في اشتداد الأزمات فرصة لاستعادة حضورهم وفرض أنفسهم من جديد في الاستحقاق القادم، ما يعني عدم حماسهم لتقديم تنازلات واعطاء مساحة تنفّس من خلال ولادة حكومة جديدة.

والسؤال الثاني الأهم، هل أنّ «حزب» الله سيسلّم بسهولة الذهاب طوعاً الى انتخابات نيابية ستؤدي الى خسارته الاغلبية من دون اي ردة فعل من عنده؟ من هنا تبدو المبادرة الفرنسية متنفساً للجميع في الوقت الصعب. وخلال لقائه مع نظيره الاميركي قال لودريان، بأنّه وبلينكن لديهما التقييم نفسه للوضع بشأن الانهيار في لبنان. هو يتحضّر لزيارة رسمية الى واشنطن منتصف تموز. والملف اللبناني سيكون موجوداً على الطاولة دون شك، وهو سيحضّر لزيارة رئيسه الى واشنطن قبل نهاية الصيف.

وفي المقابل، يدرس الاتحاد الاوروبي فكرة تشكيل لجنة لمراقبة الانتخابات النيابية اللبنانية بالتعاون مع المنظمة الفرنكوفونية، وهذا ما يؤشر الى قرب فتح هذا الملف بكافة تفاصيله على المستوى الاوروبي والدولي.

لكن ثمة مسألتين اساسيتين لا بدّ من ان تتحققا قبل ذلك، الاولى تنشيط التفاهمات والحوارات في الكواليس، والثانية الضغط اكثر وبقوة اكبر، لإنتاج حكومة تسمح بفتح كوة يتنفس منها اللبنانيون، طالما انّ مسؤوليهم لا همّ لهم سوى مصالحهم الذاتية.