IMLebanon

“الهجرة الافتراضية” في لبنان.. ضخّ العملة الصعبة لكسْر الواقع

كتبت زيزي أسطفان في “الراي الكويتية”:

حين أقفلتْ كل الأبواب في وجهه وصار التدحْرج نحو «جهنّم» قدَراً لا مفرّ منه، حفر الشباب اللبناني لنفسه ولبلده، بفكره وطاقاته، طريقاً معبداً بـ «الفريش دولار» يقوده من «بلاد الأرز» نحو الأفاق الواسعة ويوفّر له وهو ثابت في أرضه وبيته فرصَ عملٍ كثيرةً تصحّح المسار الانحداري وتجعل من هذا الشباب الحلقة الأقوى في اقتصاد بلده بعدما كان قبل أعوام قليلة الحلقة الأضعف فيه.

إنها «الهجرة الافتراضية» التي تستبدل «هجرة الأدمغة» التي طالما عانى منها لبنان باستغلال خبرات الشباب في اقتصاد المعرفة لتصديرها إلى العالم فيما هم راسخون في أرضهم.

بعض الخبراء رأوا الكارثة آتية وحذّروا منها وكانوا الصوت الصارخ الذي يطرح الحلول من دون أن يلقى آذاناً تصغي أو تعمل لرسم مسار الحل. الخبير الاقتصادي والأستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت جهاد الحكيّم وعبر ترؤسه لجمعية Rethinking Lebanon التي تعنى بتمكين الشباب أطلق منذ العام 2017 نداءً إلى المغتربين اللبنانيين لمطالبتهم بإرسال فرص عمل من الخارج للشباب اللبناني في ميادين اقتصاد المعرفة يمكن تنفيذها عن بُعد، لكن الاستجابة ظلت بطيئة إلى أن جاءت جائحة كورونا وعجلت هذه الآلية وأوْجدتْ للشباب اللبناني المتخبط في أزمات لبنان الفرص التي كانوا ينتظرونها.

الشباب… الحلقة الأقوى

ويقول الحكيّم: «في الأعوام السابقة كان لبنان يعاني وضعاً غير طبيعي إذ كان كل مَن له وظيفة مرتاحاً إلى وضعه وراضياً به، فيما كان الشباب يعانون لإيجاد وظيفة في ظل بطالة مستشرية ويتم استغلالهم من أصحاب العمل في وظائف ذات مردود متدنٍ نظراً إلى عدم التوازن الكبير بين أعداد الشباب الساعين للعمل وندرة الوظائف، بحيث كانوا يشكلون الحلقة الأضعف في سوق العمل. وهذا ما كان يضطر الكثيرين منهم الى الهجرة الفعلية للبحث عن وظائف خارج لبنان تؤمن لهم مردوداً كافياً. واليوم الأمر تبدّل، فالشباب اللبناني بات الحلقة الأقوى بما لديه من جهوزية تامة وقدرة تنافسية عالية تجعله قابلاً للتوظيف سواء كان موجوداً في لبنان أم الخارج ولا سيما في مجالات اقتصاد المعرفة مثل البرمجة والاستشارات والتسويق الديجيتال وتطوير المواقع الإلكترونية وحتى البيع والشراء إلكترونياً والصحافة الإلكترونية وغيرها».

ويضيف: «اقتصاد المعرفة قادر على تقديم الكثير للبنان ودفع العجلة الاقتصادية برمّتها الى الأمام لأنه على خلاف الزراعة أو الصناعة لا يحتاج إلى استثمارات مالية كبيرة ونفقات بالعملة الصعبة تدفع الى الخارج لاستيراد المعدات والمواد الأولية، بل كل ما يتطلّبه هو المعرفة والخبرة ليدرّ من الخارج تدفقات مالية بالعملة الصعبة يحتاجها لبنان بشدة خصوصاً في هذه الظروف».

لقد برهن الشباب اللبنانيون اليوم أنهم أقوى من الأزمة وقادرون على إيجاد وظائف في الخارج تدرّ عليهم «الفريش دولار» إما عبر الهجرة الفعلية أو عبر الهجرة الافتراضية، فيما تبيّن أن العمالة التقليدية النائمة على حرير الوظيفة باتت اليوم غير قابلة للتوظيف لأن أصحابها عاجزون عن الإبداع والتكيّف مع متطلبات اقتصاد المعرفة. وخير، أو على الأصح، أسوأ دليل على ذلك موظّفو القطاع العام المعتادون على قلة الإنتاجية، والمعتمدون على الاقتصاد الريعي من أصحاب الرساميل الموضوعة في المصارف الذين كانوا يعتاشون من الفوائد الهائلة من دون أي جهد، أو الذين استثمروا في العقارات حصراً لتدرّ عليهم أرباحاً. وأتت الأزمة في لبنان لتُظْهِر وجود فئات كبيرة غير قادرة على الإنتاج وكانت الأكثر تأثراً بتراجُع الوضع الاقتصادي.

القدرة التنافسية في أوجها

ويؤكد جهاد الحكيّم مقولته: «كل مَن جهّز نفسه لاقتصاد المعرفة هو اليوم قادر على العمل والإنتاج. وأفضلية الشباب اللبناني بالنسبة للعمل عن بُعد أي من خلال «الهجرة الافتراضية» أنه بات يتمتع، نسبةً لغيره من الجنسيات، بقدرة تنافسية كبيرة. فالراتب المرتفع الذي كان يطلبه سابقاً بالعملة الصعبة صار يرضى بنصفه تقريباً أو أقلّ بعد انهيار قيمة عملته الوطنية. والحصول على أي مدخول بالعملة الصعبة يشكل فارقاً كبيراً في الداخل اللبناني، ولذا بات هؤلاء الشباب مطلوبين من أصحاب العمل في الخارج نظراً لشمولية معرفتهم وجودة خدماتهم وكلفتها التنافسية. وبالنسبة إليهم صارت الأعمال عن بُعد تدرّ عليهم الفريش دولار الذي يساعدهم على رسم مستقبلهم في وطنٍ يبدو الغدُ فيه قاتماً والذي يُبْعدهم عن البطالة التي لا تساهم إلا في تراكم الأزمات الاجتماعية».

ولا يختلف اثنان على أهلية الشباب اللبناني وبراعته في ميادين اقتصاد المعرفة ولا سيما أن هؤلاء الشباب تتلْمذوا على أيدي أساتذة كبار وخبراء وأطباء وبارعين في مجالهم قبل أن تجبر الأوضاع الاقتصادية وحال لبنان هؤلاء على الهجرة.

تدفقات مالية تنعش الدورة الاقتصادية

أكثر من أن تُعدّ حسناتُ الهجرة الافتراضية التي باتت «نصيب» الشاب والفتاة اللبنانية. فهي تجلب تدفقات مالية من الخارج بالدولار الأميركي وغيرها من العملات الصعبة وتساهم في تسيير عجلة الاقتصاد.

ويقول الحكيّم «إن الشاب أو الشابة الذي يتقاضى راتبه بالدولار قادر على مساعدة أهله على الصمود في لبنان وتأمين معيشتهم وطبابتهم ودوائهم الذي بات يتطلب شراؤه عملة صعبة، وهو قادر بدوره على تأمين مستقبله الخاص، إما من خلال متابعة تخصصه العالي في الجامعات أو عبر استئجار أو شراء شقة لتأسيس عائلة أو إنشاء عمله الخاص. هؤلاء الشباب يشغلون المطاعم وأماكن السهر ومحلات الألبسة وشركات السيارات وغيرها ويضخون الدولارات في الدورة الاقتصادية بأكملها فيما هم راسخون في بلدهم و مناطقهم. وما أحوج لبنان اليوم إلى عملة صعبة تأتيه من الخارج لأجل استمرارية الحياة فيه. كذلك هم قادرون على توظيف غيرهم من الشباب في المشاريع والشركات الناشئة التي ينشئونها بالأموال التي يجنونها من الخارج».

الهجرة الافتراضية التي باتت ميزة من ميزات لبنان والتي حوّلت الشباب الحلقة الأقوى في الدائرة الاقتصادية بحيث بات الشاب صاحب الكلمة والقدرة التفاوضية الأعلى، يمكن أن تساهم أيضاً بحسب رأي الاقتصادي جهاد الحكيّم في الحدّ من الهجرة إلى خارج لبنان ومن الأرياف إلى المدينة وفي تحقيق نوع من الإنماء المتوازن وتخفيف الضغط عن المدينة سواء في السكن او التنقلات أو التلوث.

كذلك تساهم في التخفيف من حدة التفرقة الجندرية بين الذكور والإناث. فسابقاً لم تكن هجرة البنات إلى الخارج للعمل تلقى القبول المطلوب من بعض فئات المجتمع أما اليوم فباتت الفرص متكافئة بين الشابات والشبان عبر الهجرة الافتراضية التي تتيح للصبية العمل من بيتها وبين أهلها وعائلتها كما تتيح للمرأة المتزوجة الاهتمام بأسرتها ومنزلها وإتمام عملها في الوقت ذاته.

وتقول سارة وهي صبية تخرجت حديثاً من قسم الغرافيك ديزاين أنها كانت خائفة من الابتعاد عن أهلها وأصدقائها والخروج من منطقة الأمان الخاصة بها. وقد تردّدتْ في قبول عرض عمل أتاها من دولة خليجية ولذا جاء العمل عن بُعد للشركة نفسها كخشبةِ خلاصٍ لها أبقتْها في محيطها من جهة وساعدتْها في اكتساب خبرة لم تكن لتنالها في العمل مع شركة محلية، وأتاح لها كذلك التخطيط لوضع مبالغ جانباً بالدولار الأميركي ستستفيد منها لإكمال دراستها للماستر في أوروبا.

وبشكل عام يتيح العمل «عن بُعد» زيادة في الإنتاجية لكلا الجنسين لأنه يتم في بيئة مريحة مؤاتية لهم قد تمكّنهم من العمل على أكثر من مشروع في مجالات اقتصاد المعرفة في وقت واحد. ويؤكد الحكيّم «أن غالبية هذه الأعمال ليست فيها خسارة لأنها لا تحتاج إلى رأسمال، فمن يحصل على أعمال من الخارج ينل مردوداً سريعاً وفورياً بالعملة الصعبة أما مَن يخسر بعضها لسبب من الأسباب فلا خسارة تُذكر».

أخيراً لا بد من الإضاءة على عامل في غاية الأهمية مرتبط بصعوبة أن يحصل اللبنانيون على تأشيرة للدخول إلى بعض البلدان إذ قد تُرفض أحياناً أو تتأخر كثيراً في الصدور، ومن هنا أتت «الهجرة الافتراضية» لتفتح أبواب العالم بأكمله أمام الشباب اللبناني كون اقتصاد المعرفة عابراً للحدود.

لكن يبقى السؤال الأبرز كيف يمكن للشباب اللبناني الكفوء أن يحقق كل هذه الإنجازات إن لم تتوافر له الكهرباء ومعها الاتصال بالإنترنت؟ كيف يمكن له أن يبدع في الداخل والخارج إن كان لا يأمن ليومه وغده ولا لمصير بلده؟