IMLebanon

من حقّ التنقّل إلى ترف التنقّل

كتبت البروفيسور ندى الملاح البستاني في “الجمهورية”: 

إنّ قدر اللبنانيّ أن يتلقّى الصفعات المفاجئة التي باتت تبرمج حياته اليوميّة، فإن استطاع النوم في هذه الليالي الصيفيّة الحارّة مع انعدام التيّار الكهربائيّ، فهو سيستيقظ على كابوس موجع، في انعدام توافر المصادر النفطيّة ليقوم بمهماته الاعتياديّة، أقلّه في وصوله إلى مكان عمله ومصدر رزقه وضمان أدنى حقوقه في العيش الكريم. وفي الحديث عن الحقوق، برز تيّار نادى بحقّ المواطن المشروع في التنقّل إبّان اندلاع ثورة تشرين في لبنان، ومحاولة بعضهم قطع الطرق لزيادة الضغط على الحكومة.

بالطبع، لم يكن احتجاجه من باب الشرعة الدوليّة، بل من باب المصالح الشخصيّة الضيّقة، والأساليب المواربة… وإلّا لكنّا نسمع صوته اليوم أعلى في مشهد أصبح التنقّل بالوسائل الاعتياديّة ترفاً، بل انّه دعا الطبقة المتوسّطة والفقيرة إلى استبدال تلك الوسائل بأخرى لتبقى حكراً على طبقة معيّنة، وإذ بلبنان يبتكر تقسيماً طبقيّاً لا يقوم على الجنس أو العرق أو الدين، بل على نوعيّة البنزين، سيكون لطبقة صغيرة رفاهيّة التنقّل، وطبقة أخرى الجمود المميت في قوقعتها، ويكون التجوّل في بلدها حلماً.

لكن، لِمَ نتفاجأ مع كلّ أزمة؟ فالحلم الورديّ في استمرار دعم المشتقّات النفطيّة كان لا بدّ أن ينتهي عاجلاً أم آجلاً، وها نحن نعيش أحد فصول الكابوس اللبنانيّ، إذ مَن تناوب على وزارة الطاقة وغيرها لم يأتِ بخططٍ بديلة، ورأى في سياسة دعم المشتقّات النفطيّة «البقرة الحلوب» التي تدرّ له الدولارات من جهة، ومباركة الشعب غير المباشرة من جهة أخرى، فمَن منّا لا يحبّ أن «يفَوّل» سيّارته بأبخس الأسعار؟ ويقوم بتحرّكاته اليوميّة بمعزلٍ عن حرّ الصيف، وأمطار الشتاء، وبأسرع الطرق وأقصرها؟

نتفاجئ لأنّنا نتجاهل قراءة التاريخ، ونتغنّى بصمودنا في الأزمات مع أنّنا نستطيع تفاديها للوصول إلى نموّ أعظم، فقط لو!!! لو نوجّه استثمارات لبنان في موارده البشريّة والماليّة وفق الطرائق الصحيحة. فمع نهاية الحرب الأهليّة، قام لبنان باستثمار طاقاتٍ هائلة في عمليّة إعادة الإعمار، وعندها اكتسبت الحكومة اللبنانيّة الثقة لدى المستثمرين الدوليّين في إعادة تأهيل البنى التحتيّة للبلاد. لكنّ المناقصات رَست على أشخاص مقرّبين من السلطة الحاكمة، وبإضافة عامل الفساد على المعادلة أصبحت تكلفة الكيلومتر الواحد من الطرق الرئيسيّة في لبنان نحو الأربعة ملايين دولار أميركيّ، أي ما يعادل أربع أضعاف تكلفته في الولايات المتّحدة الأميركيّة. وكانت المشكلة الرئيسيّة حينها نقص موارد الدولة وعدم التوافق بين إيراداتها ونفقاتها في الموازنة.

وهنا سنعرض بانوراما سريعة عن الوضع الاقتصاديّ قبل الحرب الأهليّة وبعدها، لعلّنا نستطيع أن نستخلص الحلول والعِبر في تناول موضوع البنى التحتيّة وشبكة الطرق في لبنان.

– من 1940 إلى 1950: كان الوضع الاقتصاديّ يتيماً من دون أيّ تدخّل ملموس، وكان الإجراء الاقتصاديّ الوحيد إيجاد بنك الائتمان الزراعيّ الصناعيّ العقاريّ. وكان الاستقرار السياسيّ العامل الأساسيّ في الازدهار الاقتصاديّ، في شبكات الاتّصالات، وتطوير تجارة الترانزيت، واستقطاب الثروات من بلدان عربيّة نفطيّة عدة.

– من 1950 إلى منتصف الستّينات: قامت حقبة سياسة الرئيس فؤاد شهاب التنمويّة على خطّة خمسيّة عامّة. حينها، تمّ وضع الخطّة الخضراء، ومجلس الإسكان، ومصرف لبنان المركزيّ، ومنظومة الضمان الاجتماعيّ، وغيرها… لكنّ الحقبة الشهابيّة لم تحقّق أهدافها المرجوّة لأنّ الإصلاح الإداريّ والاقتصاديّ كانا بمعزلٍ عن الإصلاح السياسيّ في البلد.

– من منتصف الستّينات إلى بداية الحرب الأهليّة 1975: اهتزّ الاقتصاد اللبنانيّ نتيجة لأزمة بنك أنترا وإفلاسه العام 1966. لكنّ لبنان استفاد من ارتفاع أسعار النفط العالميّة بأربعة أضعاف في العام 1973، وكان نظامه المصرفيّ محور جذبٍ لرؤوس أموال البلدان العربيّة.

– من 1975 حتى نهاية الحرب الأهليّة 1990: أدّى التدهور الاقتصاديّ إلى خللٍ في سوق العمل، وتراجع الناتج المحلّي الإجماليّ، وتسجيل عجزٍ في ميزان المدفوعات، ممّا أدّى بالتالي إلى انخفاض قيمة الليرة اللبنانيّة وزيادة الدين العامّ.

– بين العامين 1990 – 1991: أخّرت حرب الخليج الثانية إنشاء صندوق مساعدات دوليّة من أجل لبنان، ممّا زاد من شرخ الانفصال بين الاقتصاد النقديّ عن الاقتصاد الحقيقيّ.

– العام 1993: مرحلة إعادة الإعمار وكانت المشكلة الرئيسيّة فيها تكمن في تدنّي مستوى الاستثمار العامّ والخاصّ.

بعدها، تسارعت عمليّة الانتعاش الاقتصاديّ بفضل قطاع إعادة البناء بوجهٍ رئيسيّ، ولكن بقي لدى لبنان مشكلة العجز المتزايد لدى القطاع العامّ ونموّ الدين العامّ. علاوة على ذلك، كان السياق السياسيّ غير المستقرّ عاملاً غير مطمئن لضمان استمراريّة النموّ الاقتصاديّ، وبالتالي تأثيره على البنى التحتيّة وإعادة تأهيلها أو تطويرها.

وبالتركيز على قطاع النقل والطرق في لبنان، يمكننا أن نلاحظ ما يلي:

– يسيطر قطاع النقل البريّ تقريباً على كامل حركة المرور داخل لبنان ومع البلدان المجاورة. كما تصبّ شبكة المواصلات لتغذية طريق بيروت-دمشق الدوليّ الرئيسيّ. أمّا السكك الحديديّة التي كانت تربط المدن اللبنانيّة وكذلك المدن الإقليميّة فهي ذهبت مع آخر رحلة مسجّلة لها في العام 1995 ولم تعد، في حين أبقت على موظّفيها على رجاء بقاء السكك الحديديّة من دون أن تتم سرقتها وبيعها كغيرها من ممتلكات العامّة.

– أمّا الملاحة البحريّة، فكانت تعتمد على ميناء بيروت الذي عصف به انفجار 4 آب 2020، وبقي ميناء طرابلس رديفاً من دون خطط تطويريّة، وبالطبع فإنّ في كلّ عجز تنمويّ ثمّة خلفيّات سياسيّة – طائفيّة متشابكة لن نغوص فيها.

– ما يخصّ ميناء بيروت، ينطبق أيضاً على مطار بيروت (حماه الله من أي عبث)، فاليوم يبقى المطار الوحيد الذي يحتكر المجال الجويّ اللبنانيّ، الأمر الذي يولّد ضغطاً يشهده في المواسم السياحيّة والأعياد، ممّا يحول دوماً على تطوير مرفقاته، أو التفكير بحلول بديلة كمطار عكّار الّذي أُشفِق عليه يوماً بوقفة رمزيّة تُطالب بإعادته إلى الخدمة في ثورة تشرين.

لم يكن من الممكن تطبيق مرحلة إعادة الإعمار والانتعاش الاقتصاديّ من دون مساعدة القطاع الخاصّ الذي تجاوزت مساهمته في الدخل القوميّ 80 % في لبنان. لكن على القطاع العامّ أن يكون قادراً على توفير البيئة المواتية للقطاعات الخاصّة لاستكمال أنشطتها التنمويّة والاستثماريّة وتطويرها، وذلك بواسطة إعادة تأهيل البنى التحتيّة الماديّة والاجتماعيّة.

تبلغ حصّة قطاعات البنية التحتيّة الأساسيّة 37 % من الموازنة، تُصرف بوجهٍ أساسيّ على الطرق. ومع ذلك، في لبناننا العزيز، ما زلنا نواجه مشكلات الاختناقات المروريّة، وضياع الوقت، وندرة مواقف السيّارات، وشبكة مواصلات عامّة متفكّكة، أمّا في ما يخصّ الأمان العامّ، فحدّث ولا حرج، فالإشارات المروريّة إن وجدت أو صمدت، لا يمكنك الوثوق بها. ناهيك عن المضار البيئيّة، إذ اعتادت عيوننا على لون سماء بيروت المائل إلى البنّي وما زلنا نأمل بوسائط نقل صديقة للبيئة تقوم على الهيدروجين أو الكهرباء أسوةً بالبلدان المتقدّمة.

ولتكتمل اللوحة الهزليّة لواقع الطوابير المصطفّة للتزوّد بالوقود، وتزيد من ضبابيّة المشهد العامّ. نجد أنّ ثمّة مجموعة سارعت إلى إعلان لبنان دولة نفطيّة مع احتمال اكتشاف حقول في المياه الإقليميّة اللبنانيّة، تلك الحملة التي ابتغَت أن يكون لديها أثر المورفين قبل الانهيار الاقتصاديّ التامّ. فلبنان، وإن كان احتمال امتلاكه على الغاز الطبيعيّ والنفط مرتفعاً، ستبقى مصادره من دون إمكانيّة استخراجها في المستقبل، ولن يحلّ مشكلة توافر المواد النفطيّة في المدى القريب، خصوصاً أن لا إجراءات تحدّ من واقع التهريب إلى البلدان المجاورة ضمن شبكة تعمل في انتظام أكبر من شبكة مواصلاته.

في لبنان، يتمّ تمويل الطرق من مخصّصات الموازنة، وغالباً ما يتم التعامل معها كونها «الصالح العامّ»، فتموّل كخدمة اجتماعيّة في الحالات الطبيعيّة، وكدعم للحملات في المواسم الانتخابيّة، وفق قاعدة «بزَفّتلك بتنتخِبني». لذلك، نجد أنّ لا صلة مباشرة بين ميزان الإيرادات وميزان النفقات.

علاوة على ما ذُكِر، نجد أنّ الأموال المتاحة أقل من تلك المطلوبة في توقعّات الموازنة الأوّليّة، وعادة ما توجد مشكلات ترتبط بتوقيت الموافقة على الموازنة النهائيّة، وهي إمّا أن تؤجّل مراراً وتكراراً، أو تُقَر من دون دراسة، فقط لدواعي حفظ ماء الوجه. فعادةً ما تخضع الطرق للضريبة من خلال رسوم الترخيص والتصاريح، ورسوم الوقود، ودخول المركبات وقطع الغيار، التي تشكّل مجموعها الإيرادات في الموازنة، في حين أنّ المصاريف تتمثّل بإنشاء الطرق الرئيسيّة الجديدة أو صيانتها الدوريّة. (كما في الشكل المرفق).

بحسب آخر أحد الإحصاءات الرسميّة، تتلقّى الحكومة اللبنانيّة عائدات ضريبيّة من مستخدمي الطرق بمبالغ تزيد عن 750 مليون دولار أميركيّ في كلّ سنة، وتنفق نحو 150 مليون دولار على شبكة الطرق وتحسينها. كما تشير التقديرات إلى تكلفة صيانة هذه الطرق، المصنّفة ضمن خطّة متوسّطة الأجل، تبلغ 50 مليون دولار، وتبلغ تكلفة صيانة الشبكات المصنّفة وغير المصنّفة 83 مليون دولار سنويّاً.

كما يجب التنويه والتشديد على أنّه في أيّ دولة تحترم مواطنيها، وتسعى الى ترسيخ مبادئ العدالة وتكافؤ الفرص، فإنّ تكاليف المحروقات تمثّل لديها مصدراً موحّداً لتحصيل الأموال. لهذا، فالمنطق يُملي عدم التمييز بين مواد نفطيّة مدعومة، وأُخرى غير مدعومة. لأنّ بعضهم بات يميل للبحث في حلّ على مبدأ «ناس بسمنة وناس بزيت» لفصل محطّات الوقود إلى توزيع بنزين مدعوم، وأخرى غير مدعوم، كما اعتدنا على فصل كل المرافق العامّة لترسيخ الطبقيّة في المجتمع اللبنانيّ. فأيّ إنصاف بين اللبنانيّين؟ سواء دفع أم لم يدفع بأسعارٍ تفضيليّة أو مدعومة…

إنّ هذه النظرة السريعة الى واقع النقل والتنقّل في لبنان، تعرض لنا نافذة أُخرى على التخبّط الحكوميّ في خططه الإصلاحيّة والتنمويّة، وهي دائماً تكشف إمّا بعده عن واقع المواطن على مبدأ «إذا ما مَعُن حقّ بنزين يدبَّرو شي تاني»، أو طمعه بمقدّرات المواطن وامتصاصه لها حتّى آخر نقطة.

تكمن مشكلة حكوماتنا الرشيدة أنّها تأخذ من الدول الأوروبيّة والمتقدّمة الواجهة فقط من دون أن تعي أُسس حالتها الاقتصاديّة، وسُبل تماسكها كدولة. فهذه الدول لا تقدّم إلى شعوبها المراكز التجاريّة الفخمة، والشواطئ الخاصّة، وخدمة السوق السوداء لكلّ سلعة. بل هي تؤمّن لهم أُسس الحياة الكريمة، التي تقوم على الحفاظ على المرافق العامّة، وضمان الحقوق المتساوية التي من بينها حقّ التنقّل. وهذه المبادئ والحقوق لا تخضع لمزاجيّة المجموعات السياسيّة، فتنادي بها عندما تخدم أجندة معيّنة، وتغفل عنها عندما لا تخدم مصالحها.

إن مرض السلطة الحاكمة يكشفها أمام مرآة الحقيقة، لأنّها ما زالت تفكّر بمنطق الدولار، وهي تشاهد اليوم لبنان «أرخص في معيشته» كما زعم أحد النوّاب أنّ فواتير المطاعم أصبحت «أوفر على الجيبة»، ونسي أنّ ارتياد المطاعم بات حلماً لدى شريحة واسعة من اللبنانيّين. وكذلك أمر ركوب السيّارة والتنقّل، بالطبع، من «يقبض ويستفيد بالدولار» سيجد أنّ معيشة لبنان اليوم رخيصة، لكنّه منفصل عن واقع مواطنيه الذين يمثّلهم، ولم يستوعب انكماش القدرة الشرائيّة لدى المواطن اللبنانيّ.

وفق عمليّة حسابيّة بسيطة يمكن تطبيقها على خدمة السرفيس (كونها الوسيلة الأرخص) الذي يُقِلّ الموظّف العادي من وإلى عمله. فقد كانت 2000 ل.ل. أو ما يُعادل 1,3 دولار أميركيّ، واليوم هي 8000 ل.ل. أي ما يُعادل 25 سنتا، هكذا يقوم بحسابها النائب عن الشعب. أمّا الشعب نفسه الذي ما زال راتبه لم يخضع لأيّ تعديل، وكذلك بدل النقل، فإنّه قد يدفع ما يعادل 30 % من راتبه ثمن تنقّله اليوميّ.

إنّ حكوماتنا قصيرة البصر، لا بل معدومة البصيرة، لطالما اعتادت على حلّ شكليّ وسريع لمشكلاتنا الاقتصاديّة، وأنّ حل رفع دعم البنزين المؤقّت هو مثال واضح على عجز هذه الحكومات الاختصاصيّة في الشكل على النهوض بواقع لبنان على أيّ صعيد. إنّ رفع الدعم عن البنزين وما يرافقه من أزمة اقتصاديّة قاهرة أدّى إلى انخفاض حادّ في أرقام شراء السيّارات الجديدة وبالتالي خفض إيرادات الرسوم الجمركيّة، وكذلك نجد مَيل كثيرين إلى تخطّي أو تأجيل دفع الرسوم السنويّة، وغيرها… ومن الواضح أنّ المديونيّة الحاليّة لقطاع النقل هي الحجّة الرئيسيّة لكبح الاستثمارات في هذا المجال، التي ستتدهور أكثر فأكثر، ممّا سيزيد من إعاقة تطوير البنية التحتيّة، التي تُعتبر الركيزة الأساسيّة للمشاريع الاستثماريّة.

ندعو اليوم إلى مَن يتبجّح بحفاظه على حقوق المواطنين، أن يستقلّ أحد باصات النقل العامّ، وينظر في عيني تلك الأمّ التي تفكّر أكثر من مرّة إن كانت ستستقلّ تلك الحافلة وتدفع المبلغ «المرقوم» لكونها تجرّأت وتنقّلت مع ابنيها خارج منطقتها. أو يُصغي إلى ذلك العامل بعد انتهاء نهاره يقول للسائق: «ما معي مصاري لحتّى أدفعلك»، وبلغة الأرقام «لا أملك 3000 ل.ل.»، وبلغة أهل السلطة: «لا أملك 12 سنتاً، لأحصل على حقّي في التنقّل».