IMLebanon

“المستقبل” يتجه إلى أن يكون من الماضي

كتب عامر جلول في “اللواء”: 

إن غرقت سفينةٍ أو تعرضت إلى خللٍ ما في بنيتها الخارجية بسبب إصطدامها بصخورٍ أو جبل جليد أو سببٍ أخر أدى إلى تسرب المياه إلى الداخل، فإن الخطوة الأولى التي يقوم بها فريق العمل من مهندسين ومختصين في مجال السفن بعد إنقاذ السفينة أو إنتشالها من قاع البحر هو فهم ما حصل بالضبط (Micro & Macro).

إن عملية فهم ما حصل لهذه السفينة هي أساسية لتجنب الأخطاء لاحقًا وتدعيم  السفن الأخرى كي لا تتعرض لنفس المشكلة التي تعرضت لها تلك السفينة أثناء إبحارها في وسط المحيط، أما على المستوى الإنساني الفردي، فمن منّا لم يمر بتجربة سيئة إما على الصعيد العملي أو على صعيدٍ آخر؟ من منّا لم يقع في أخطاءٍ وأغلاطٍ تجبره على إعادة النظر في مساره وخططه؟ ولكن إن الإنسان اللبيب والحكيم هو من يقوم بقراءة المشهد والتجربة بشكلٍ موضوعي وعلمي مُتبعًا منهاجٍا معينا كي يصل إلى الحقيقة، فهذه القراءة النقدية للعقل والتجربة هي من أهم الخطوات التي لا بد من إتباعها لفهم مجريات الأحداث التي أحاطت تلك التجربة وسبب فشلها، كذلك الأمر بالنسبة للتجارب السياسية والإجتماعية، لا بد من نقد الحركة ذاتيًا كي يتم إعادة المسار، حتى لو كانت التجربة ناجحة فهذه العملية تُشخص أسباب النجاح ومدى نسبة نجاحها.

17 تشرين، تاريخٌ مفصلي في تاريخ لبنان من حيث سيكولوجيا ومزاج الجماهير تجاه تبعيتهم الحزبية والطائفية نوعًا ما، ففي هذا التاريخ  خرج المزاج العام من التنويم المغناطيسي  الذي كانت تمارسه أحزاب السلطة على جماهيرها كي تُبقيهم في حالة اللاوعي المُبرمج على الطائفية والغرائزية، ففي هذه اللحظة المفصلية تغير المزاج العام ولو نسبيًا، ولكن اليوم وبعد التدهور السريع الحاصل في الدولة والبنية المجتمعية والاقتصادية، فلقد تغير لبنان ولم يعد كالسابق والحياة تغيرت بشكلٍ كبيرٍ وأصبحت أشبه بالجحيم، وهذه المتغيرات ساهمت  كثيرًا في تغير المزاج العام وسلوكيات المناصرين وزادت الفجوة بين الأحزاب والناس، ولكن السؤال هل قامت الأحزاب القائمة وعلى رأسهم تيار «المستقبل»  بقراءة نقدية ذاتية لفهم المجريات وسبب  إنكفاء الجمهور وتراجع الشعبية وبات ذلك جليًا في إنتخابات نقابة المهندسين في بيروت؟

لن أدخل في  كيفية بداية تلك التجربة والأسباب الداخلية والخارجية وعن الطبقة البورجوازية وتمكين المتملقين والمطبلين من الإستيلاء على مناصب القرار الذين أساؤوا جدًا للتيار نفسه، ولكنهم كانوا قادرين على السيطرة على الجمهور من خلال المال والمساعدات الكبيرة التي زرعت في عقول الناس ثقافة الكرتونة والكسل والاعتماد على الآخرين، ولكن كل هذا لم يشكل فارقًا حقيقًا في عهد رفيق الحريري لأن حجم المال انذاك قد غطى على كل الفجوات البنيوية في تشكيلة التيار، فكان التيار في تلك الفترة هي لحظة صعوده الناري والسريع المدعوم خارجيًا بشكٍل كبير، فالعقيدة السياسية وكل تلك التفاصيل الجوهرية لم تكن مهمة في تلك المرحلة، ولكن بعد إغتيال رفيق الحريري وبداية مرحلةٍ سياسيةٍ جديدةٍ مختلفةٍ عن السابق، بدأت تظهر هشاشة التيار داخليًا وفكريًا، وبسبب طبيعة المواجهة والتغير الحاصل في الشرق الأوسط أبتداءً من العراق مرورًا بسوريا، بدأ التيار يدرك مدى هشاشة بنيته رغم الضخ الكبير للمال ولكن دون أي جدوى، فإن المؤسسات والتيارات السياسية لا تعتمد فقط على عصب المال والذي يُعتبر أساسيًا لخطة التطوير والأنتشار، ولكن ينقصه أيضًا كوادر جيدة وجيلٍ قادر على مواجهة الصعاب والتحديات إضافةً إلى الرؤية السياسية والعقيدة التي تُعتبر صمام الأمان لهيكل الحزب، ولكن للأسف كل ذلك لم يكن موجودا.

لقد مر التيار بعدة إنتكاسات مفصلية بدأت بإغتيال رفيق الحريري ثم 7 أيار 2008 ثم إستقالة الثلث المعطل في حكومة سعد الحريري أثناء تواجده في واشنطن سنة 2011 ثم الثورة السورية والفراغ الرئاسي والتسوية الرئاسية التي أدت إلى إنتخاب ميشال عون رئيسًا للجمهورية وبداية عهدٍ لم يعرف إلا الإنهيار وإقرار قانون إنتخابي عفن أدى إلى خسارة التيار قرابة 15 نائبا من كتلته النيابية ثم تشكيل حكومة برئاسة سعد الحريري والمُسيطر عليها من قبل جبران باسيل ثم مجيء ثورة 17 تشرين والإرهاصات التي تلت تلك الثورة والنكسة الأهم هي إنقطاع العلاقة بين الحريري والسعودية والتي ظهرت جليًا خلال إختفاء الحريري في السعودية سنة 2017، وبالرغم من كل تلك النكسات والمصائب، إلا أن التيار لم يغير من نهجه السياسي وبقي مُتمكسًا بشعارٍ فارغ ولى عليه الزمن وهو «نهج رفيق الحريري»، هذا النهج يصلح لفترة معينة من الزمن وهو زمن الإعمار المادي والمُدني بعد إنتهاء الحرب الأهلية، فلقد انتهت صلاحية هذا الشعار ولم يعد موجودًا، فلكل زمانٍ خطابه السياسي الذي يجب تعديله وتحديثه كل فترة، حتى منظمة العمل الشيوعي فلقد قامت بقراءة نقدية لحركتها والآن هي في طور تحديث رؤيتها الفكرية كي تكون حركة علمانية ديمقراطية، وهذا ما لم يفعله التيار الأرزق، بدايةً فقد أبقى على المستشارين الذين ساهموا في تدمير إرث رفيق الحريري وساهموا في زيادة الفجوة بين الجمهور والقيادة وغيره من قراراتٍ قاتلة كتقسيم محافظة جبل لبنان إلى محافظتين وتسليم وزارة المال لحركة أمل والقبول بالتسوية الرئاسية والقانون الإنتخابي المسخ، لم يقم التيار بقراءة نقدية فعلية في بنيته وفي رؤيته وفي تركيبته المتهالكة، ولم يقم بقراءة نقدية كيف تم تسكير قناة المستقبل وهي منبره الإعلامي الوحيد  وإغلاق جريدة المستقبل، ولم يقم بقراءة نقدية للتحالفات السياسية التي أدت في نهاية المطاف إلى خصومة الجميع، ولم يقم بقراءة نقدية للأسباب التي زادت في الهوة الحاصلة بين النواب والناخبين، ولم يقم بقراءة نقدية للفظائع التي قامت بها بلدية بيروت وحجم الهدر والسرقات والحفلات التي أُقيمت من أموال الناس، والأهم من ذلك أنه لم يقم بقراءة نقدية للأسباب التي أدت إلى إنسحاب صقور التيار من التيار نفسه وأصبحوا أشد الخصوم للتيار نفسه.

يقول ألبرت أينشتاين: «الغباء هو فعل نفس الشيء مرتين بنفس الاسلوب ونفس الخطوات وانتظار نتائج مختلفه»، فلقد اقترب المستقبل من أن يكون جزءًا من الماضي بسبب تكرير المكرر وعدم تجنب الأخطاء التي وقع فيها في الماضي، وهذا بسبب عدم اتباعه القراءة النقدية لتجربته بعيدًا عن الشعبوية والخطابات الفارغة.