IMLebanon

تحت ركام بيروت… قصص منسية حوّلها الحب “رماداً حياً”

 

 

لم يكن مرفأ بيروت هو ما انفجر في ذلك الرابع من أغسطس، المشؤوم ولا «النيترات النتن» القاتل، بل أجساد أهل بيروت وأفئدتهم وشرايينهم… حيواتهم هي التي تبعثرت أشلاء وألماً وتَشَرُّداً وضياعاً، وعائلاتهم هي التي اكتوت بلهب «بيروتشيما» وغرقت تحت رماده فضاعت معالمها وتشتَّت أفرادها.

هم ناس بيروت، أهلاً وضيوفاً مَن حَبَكَ عصفُ الانفجار قصصَهم وكَتَبَها رغماً عنهم وحوّلهم ضحايا… أرادوهم رماداً مندثراً تحمله رياح النسيان، لكنهم صاروا، بعدما جُمعت حكاياهم وحُفظت، ذكرى حيّة لا تزال نابضة وكأنها شاهدة على ذاك الزلزال الذي «ابتلع» المرفأ ونصف العاصمة بمَن فيه.

215 ضحية سقطوا ظلماً نتيجة انفجار مرفأ بيروت، غافلهم الموت القسري في بيوتهم وأمكنة عملهم و على الطرق… بعضهم سقط بالضربة الأولى «الهيروشيمية» وآخرون قاوموا الموت في المستشفيات قبل أن ينتصر عليهم ويضمّهم إلى لائحته التي طالت.

ضحايا جمعت حكاياهم مبادرة «معاً» (مبادرة العدالة الاجتماعية والاقتصادية ) ووثقتْها تحت عنوان «رماد حي» ليبقى رمادهم وإن تحت التراب حياً في القلوب.

«الراي» قلبّت في قصص الضحايا واختارت منها تلك المَنْسِيّة الصامتة التي لم يرتفع صوتُ أهلها، لترويها على الملأ… حكايا بقيت «في العتمة»، ليس لأن تضحية «أبطالها – الضحايا» أقلّ من سواهم بل لأنهم غرباء اختاروا لبنان بلداً لهم فيه يسترزقون، فكان الموت لهم في المرصاد ليسرق حياتهم ورزقهم وأبناءهم.

سوريون، مصريون، غربيون وآسيويون جَمَعَهُم مصيرٌ واحدٌ ووجعٌ واحد تحت «أجنحة الموت» الذي قتَلهم ولكنه لم يقوَ على… ذكراهم.

بيسان سامر الطيباتي، طفلة سورية وُلدت في البلد الجريح العام 2013، وكي يجنّبها ذووها ويلات الحرب السورية، انتقلوا بها إلى لبنان في 2015. سكنتْ العائلة الصغيرة قرب المرفأ في بيتٍ يقع فوق محل لتصليح الدواليب حيث وجد الأب عملاً.

حين دوى الانفجار وزلْزل كل تلك المنطقة، هرع الأب لإنقاذ عائلته فوجد البيت مدمَراً، وبيسان الطفلة الذكية ابنة السبع سنوات مرمية على الأرض في حالة حرجة جداً.

استنجد الوالد بالمارّة ليحمل طفلته إلى المستشفى، فنقلهما أحد الشبان إلى مستشفى قريب لم يجد لها مكاناً فيه، فحُملت إلى آخر ليتبين أنها تعرّضت لضربات قوية لم يحتمل جسمها الصغير وزرها.

قاومت الطفلة المُحِبّة للحياة الموت لنحو أسبوعٍ كان الوالد يسعى فيه لتأمين الدم لها، لكنها استسلمت في اليوم الثامن ورحلت تاركة أبا مفجوعا وأماً ثكلى وأخاً صغيراً لم ير من الحياة بعد إلا الغربة والموت…

آيزاك أو الطفولة المذبوحة

آيزاك اولرز لم يكن قد تجاوز السنتين من عمره حين خطفه الموت من أحضان عائلته الأسترالية الصغيرة التي شاء لها القدَر أن تكون في بيروت في اليوم المشؤوم بعدما كانت عائلته انتقلت إليها عقب قبول والدته (سارة كوبلاند) عرض عمل في العاصمة اللبنانية مع «الإسكوا» في 2019.

الطفل الصغير (أصغر ضحايا انفجار المرفأ) الذي يشعّ حياة وذكاء وفضولاً كان فرحاً في العيش في لبنان، وكان يتجول مع أهله في محيط سكنه يلاطف الحيوانات ويحادث الناس في الحي.

سارة وكريغ كانا يحلمان لايزاك بمستقبل مليء بالإنجازات لِما لاحظوه فيه من توقّد الذكاء وحب المعرفة، وفرحا بكونه يتعلّم في لبنان لغات ثلاث.

حين دوى الانفجار في السادسة و7 دقائق كان آيزاك جالساً في كرسيه المرتفع يتناول العشاء مع العائلة، ففجّر عصفُه النوافذَ ونثر شظايا الزجاج المسنّن في كل مكان وانغرزت قطع منها في الجسد الصغير.

سارة التي كانت حامل في شهرها السابع سقطت أرضاً لكنها سرعان ما أدركت وزوجها أن ايزاك ينزف بغزارة… حاولا الضغط على الجرح لوقف النزيف، وحَمَلتْه سارة إلى الخارج طلباً للمساعدة.

وسط الدمار الهائل نقلهم أحد الغرباء إلى مستشفى رفيق الحريري فأُدخلت الوالدة المصابة فوراً لتلقي العناية، ونُقل طفل السنتين إلى غرفة العمليات حيث أمضى ساعات يصارع الموت… حين تسلّل كريغ المنتظر في الخارج ليتفقّد طفله رأى صورةً لن ينساها مدى الحياة: رأى خط القلب على الجهاز مسطحاً.

آيزاك فارق الحياة وانتهى باكراً مشواره فيها، سرقه الموت قبل أسابيع ثلاثة من عودة العائلة مكتملة إلى أستراليا.

الأمومة حتى الموت

ايتانو ديشاسا تولو او تيغيت، كما يعرفها المحيطون بها، تركت بلدها الأمّ إثيوبيا وقصدتْ لبنان بحثاً عن مصدر رزق تؤمّن بواسطته معيشة ابنتها الوحيدة.

قررتْ البقاءَ في لبنان سنةً إضافية لتأمين ما يكفي لتسديد أقساط دراسة ابنتها.

وبعد موت رب عملها الذي بكتْه كوالدٍ، راحتْ تتنقل بين بيوت بناته الثلاث.

في الرابع من أغسطس، كانت في الأشرفية عند واحدة من البنات العائدات من السفر… تطايرت نوافذ البيت وأبوابه وأثاثه وتَصَدَّعَتْ جدرانُه وأصيبت تيغيت بجروح بالغة.

أربعة أيام ناضلت في المستشفى علها تستعيد الروحَ لتعود إلى ابنتها، لكنها خسرت المعركة في الثامن من أغسطس. عائلة الشامي التي حضنتْها لأعوام، تعهّدت بإكمال تعليم ابنتها حتى تخرُّجها من الجامعة.

وتيغيت التي كانت ستعود إلى بلدها في الأول من أكتوبر رجعت إليه… جثة هامدة.

اللقمة المغمسة بالدم

راسيل مسعود ميا، واحد من عمال بنغلاديشيين كثر قصدوا لبنان بحثاً عن عمل ورغبةً بتأمين حياة أفضل لعائلاتهم هناك في الوطن البعيد.

التحق الشاب العشريني بشقيقه الذي سبقه إلى بيروت، وكان يعمل على محطة وقود في منطقة بيروتية بعيدة عن المرفأ، لكن القدَر أبى إلا أن يكون له بالمرصاد ولو عن حُسن نية.

فالأخ الأكبر أراد أن يكون شقيقه تحت نظره و في حمايته، فطلب من رب عمله أن يؤمن له عملاً معه في المحطة الواقعة قرب المرفأ.

يوم الانفجار، خاف راسيل الشاب النحيل البنية من النار المتصاعدة من العنبر رقم 12 فهدأه صديقه ومازحه، وفجأة دوى الانفجار الجهنمي فرمى عصفه براسيل إلى داخل المكتب وانغرز الزجاج في أنحاء جسمه.

حمله شقيقه المفجوع على غطاء سيارة نحو مستشفى الجامعة الأميركية حيث خضع لعملية جراحية فورية.

تفاءل الأخ الأكبر بنتيجتها ليفاجأ في اليوم التالي بالرحيل المُفْجِع لشقيقه.

شهر ونيف بقي الشاب البنغلاديشي في براد المستشفى ريثما تنجز كل تحضيرات السفر إلى بلده الأم.

وهكذا ودّع أحلامه وآماله وعاد جثة باردة إلى الأرض التي شهدت مولده مع قريبٍ له حصده الانفجار أيضاً.

كأس الألم حتى الموت

قصة خالدية بكري، الأم التي حملت بناتها من سورية الغارقة في الحرب الدامية وجاءت بهن إلى بيروت هرباً من الموت، لا تتوقف عندها بل تمتدّ تشعباتها الدامية إلى ابنتيها لطيفة وجود في مأساةٍ رهيبة ضربت عائلة صطيف السورية واقتلعت جذورها وأغصانها.

خالدية التي أرادت أن توافي زوجها إلى بيروت لتلمّ شمل العائلة، مارست دورها كأم على أكمل وجه، فحضنت بناتها الأربع لطيفة، ديانا، ديما وجود في بيتها الكائن في منطقة الكرنتينا المحاذية لمرفأ بيروت.

في تلك الأمسية كانت مشغولة بأعمالها البيتية كعادتها، وقد اجتمعت العائلةُ في انتظار الوالد العائد من العمل لكن القدَر سبقه إليهن.

دوى الانفجارُ ووصل عَصْفُه المدمّر المجنون إلى البيت الصغير، فانهار فوق رؤوس ساكنيه.

أصيب الجميع من هول الركام المتساقط عليهن.

خالدية لفظت أنفاسَها على الفور، وعند وصول الوالد ومَن معه لإزالة الأنقاض تكشفت المأساة… الابنة الكبرى لطيفة وهي في السابعة والعشرين من عمرها و جود ابنة الثلاثة عشر ربيعاً، قضتا تحت الركام، وأصيبت كل من ديما وديانا إصابات بالغةً لا تزالان تعانيان تداعياتها.

لم تعرف العائلة التي هربت من ظلم الإرهاب وأخْفت بناتها عن ناظريْه أن الموت يتربص بهن في مكانٍ ظنوه ملجأ آمناً. جود التي كانت تحلم بأن تعيش حياة أفضل وتكمل دراستها في لبنان، انكسر حلمها كما انكسر جسر عائلتها.

هي التي بقيت في البيت برفقة والدتها في أزمة «كورونا»، رحلتْ معها، فيما لطيفة التي جهدت في عملها لتعين عائلتها تركت والدها وأختيها وحيدتيْن لترقد بجانب أمها وشقيقتها في مدافن على أرض لبنان.

وُلد في لبنان ودُفن في باكستان

زولباب ساجد علي، مُراهِق يحمل الجنسية الباكستانية، لكنه ولد ونشأ في بيروت التي أَحَبَّها والدُه واستقر فيها، وأراد أن ينشئ عائلةً في ربوعها، لكن العاصمة اللبنانية لم تُبادِلْه هذا الحب فسرق منه انفجارها أغلى ما يملك.

زولباب المراهق الهادئ التواق للعلم والتلميذ الطموح كان يلعب البلايستايشن في تلك العشية بهدوء في منزله الكائن في منطقة المرفأ.

حين دوى الانفجارُ هرع الوالدُ المصاب إلى بيته فصُدم بمشهد الدمار الذي طاله وبرائحة الدماء المنبعثة من المكان: عائلته كلّها هنا تحت الأنقاض، فمَن ينقذ؟ ابنة السنوات الثلاث، أم رفيقة الدرب، أو ابنه الشاب وأمله في الحياة الذي كان فاقداً الوعي.

نُقلت العائلة الى مستشفى مار يوسف القريب، فيما أُدخِل الوالد مستشفى أبعد… اطمأن إلى أنهم سينالون الرعاية الطبية التي تنقذ حياتهم ولم يستفق إلا في اليوم التالي على صدمة مفارقة ابنه للحياة.

رحل زولباب الهادئ المؤمن المليء بالحب، وتَرَكَ أباً خسِر ساقه وبُترت أصابع يده، وأماً وشقيقة مصابتين إصابات بالغة.

أنهت العائلة المنكوبة إقامتها في لبنان وعادت إلى باكستان لتدفن وحيدَها في العشرين من أغسطس الأسود.

مصر المفجوعة

لم تتخيّل مدينة سمنود المصرية أن الكارثة التي حلّت ببيروت ستصيبها في الصميم.

ولم تعرف مطلقاً أن مشاهد الموت والرعب التي شاهدها أبناؤها على الشاشات، ستكون في… عقر دارها.

سمنود، المدينة الهادئة، خسرت ثلاثاً من أبنائها في انفجار مرفأ بيروت أحدهم علي إسماعيل شحاتة، الخمسيني الذي أمضى عمره مغترباً ليؤمن معيشة عائلته وأقام في بيروت منذ أعوام وعمل فيها لتكون آخر محطة له في رحلة البحث عن لقمة العيش.

عائلته التي سمعت بالخبر عبر الإنترنت لم تعرف مصيره.

لم يخبرها أصدقاؤه برحيله خوفاً على مشاعر أفرادها، فكانت الصدمة قوية عليهم حين تلقوا ظرفاً مختوماً يحمل شهادة وفاته. سمندون ودّعت أبناءها الثلاث مثلها مثل قرى ومدن لبنان وشاركتْ في تَجَرُّع الكأس المُرة مع البلد الشقيق.

رحلوا على السكت

قصة بايبي لين سيروهيجوس، تشبه قصص كل العاملين المُهاجِرين الذين قضوا «على السكت» في انفجار بيروت.

لم يُسمع لقصصهم صوتٌ مدوٍّ رغم ما شكّله رحيلهم من مآسٍ في بلدانهم.

كلهم تركوا أمهات ثكالى وآباء مفجوعين وأولاداً لم يعد لهم معيل.

بايبي لين، سيدة فيلبينية وأم لطفلين هجرهما والدهما صغيريْن، فصارت هي الأم والأب. قصدت بيروت عاملةً، فجهدت لترسل المال الى عائلتها التي تركتْها في عهدة والديْها. عصْفُ الانفجار ترك آثاره على جسدها الصغير فتوفيت ابنة الثمانية وعشرين عاماً نتيجة جلطة قلبية.

ربما لم يحتمل قلبها خطراً رأته قادماً أنبأها بأنها ستترك ابنتيْها فانهارت واستسلمتْ وفارقتْ الحياة لتعود بعد أسبوعين إلى مَن أفنت العمر من أجلهما جثة هامدة.

وتطول لائحة الضحايا… أولئك المنسيين الذين لم تضجّ بهم وسائل الإعلام ولا نزل أهلهم إلى الشوارع ليطالبوا لأرواحهم بالعدالة… هم ضيوف لبنان الذين شاركوا أهله مآسيهم حتى… الرمق الأخير.

آرام… 6 أشهر جثة بلا عنوان
لم يكن آرام ديرسركسيان غريباً في لبنان.
هو الأرمني الأصل وُلد وكبر وشاب على أرض «بلاد الأرز»، لكن قصته من تلك الحكايا المَنْسية التي كادت تتلاشى مع الوقت لو لم يبادر فريق تقصي الحقيقة في مبادرة «معاً» لكشف النقاب عنها وإعادة إحيائها.

آرام السبعيني الذي يعيش وحيداً في مدينة برج حمود، ذهب عصر الرابع من أغسطس ليتمشى في المنطقة حين غافله عصف الانفجار.

اختفى آرام ولم تعرف عنه العائلة شيئاً، راودتْها شكوك أن يكون بين الضحايا، لكن لم يُعثر على جثته في أي مستشفى.

سُجّل اسمه في لائحة وزارة الصحة اللبنانية بين الذين قضوا في الانفجار لكن لم يلبث أن أزيل بعدما لم يُعثر على جثته. شقيقه وأهله ظنوا أنها واحدة من غيْباته السابقة… بحثوا طويلاً ولم يجدوا له أثَراً.

لكن جثة آرام كانت تقبع وحيدة في مستشفى مشغرة الحكومي، وهي بلدة جنوبية تبعد أكثر من 150 كيلومتراً عن بيروت. لستة أشهر بقيت جثة آرام في البراد جثة مجهولة لم يطالب بها أحد حتى تحلّلتْ.

لم يخطر ببال أحد أن تكون الجثة في هذا المستشفى البعيد لأحد ضحايا انفجار بيروت.

وحده فريق «مبادرة معاً» تابع كل قضايا المفقودين إلى أن وصل إلى الحقيقة.

إنه آرام الذي تم تسليمه لعائلته، ليس جثة متفحّمة بل متحلّلة دُفنت بعد ستة أشهر على كارثة بيروت.