IMLebanon

مرضى السرطان في لبنان… مأساة ترقى إلى “جريمة ضد الإنسانية”

كتبت زيزي أسطفان في الراي الكويتية:

…”إبادةٌ جَماعية”، «جريمةٌ ضد الإنسانية»، قتْلٌ بطيء، عملياتُ تعذيبٍ، إعدامٌ وحشي، تقصيرُ عمرٍ عن سابق تَصَوُّر وتصميم… هذا غيْضٌ من فيْض «التوصيف الجُرمي» لِما يعانيه مصابون بالمرض الخبيث في لبنان تُركوا فريسةَ «هيديك» الطبقة السياسية «السرطانية» وتَفَشّي الانهيار المالي.

مرضى سرطان، معلَّقون أصلاً بين «الألم والأمل» يتعلّقون بعلاجٍ هو «حبْل النجاة» وقطرة الضوء في النفق المظلم وطاقة الحُلْم بأن ينتهي الكابوس، فإذ بهم في مواجهة مزدوجة على جبهتيْ المرض اللعين والدواء الذي صار العثور عليه… داء.

حين يُحجب الدواء عن مريض السرطان ألا يصبح الأمر جريمة موصوفة؟ والرصاصة غير الرحيمة التي تصيب منه مقتلاً؟

… أطباء، مستشفيات، مرضى وأهل يستغيثون في دولةٍ تصم آذانها عن صرخاتهم.

أين أدوية السرطان؟ ومَن المسؤول عن فقدانها؟ كيف يُعالَج الأطفال والشباب والكبار؟

مرضى نعرفهم أو سمعنا قصصهم الموجعة عبر الإعلام، صاروا عنوان مأساة التي يعيشونها ومعهم الأهل والأحباء.

سالم ا. ص، رجل ستيني لا يزال في عزّ عطائه، أصيب بسرطان البنكرياس وتدهورت حاله سريعاً، لكن الأهل لم يقطعوا الأمل وعملوا المستحيل ليبقى معهم ينعمون بحضوره وإن على فراش المرض.

ورغم أوجاعه كان سالم يواظب على العلاج بشكل دائم، إلى أن بدأ المستشفى يباعد بين جلسات العلاج نظراً لشحّ الأدوية.

هو حالة ميؤوس من شفائها وربما منْح الأدوية لمريض آخَر خيار مؤلم إنما صائب في نظر الأطباء.

وبات الشغل الشاغل لأبنائه وإخوته البحث عن الدواء، بحيث تركوا وظائفهم وانصرفوا لإجراء الاتصالات مع الخارج علّهم يستطيعون تأمين العلاج.

لكن سالم، العارف بحاله، لم يشأ أن تُكابِدَ عائلته هذه المعاناة فما كان منه إلا أن انتظر نومَ الجميع ليعاجل نفسه برصاصة رحمة من مسدس يملكه قضت بلحظة على ما تبقى له من حياة، مفضّلاً الرحيل على رؤية مَن حوله يعيشون عذاب مرضه وقهر استجداء الدواء له.

ليست هذه قصة وهمية، ولم تضجّ بها وسائل الإعلام لسبب بسيط وهو أن الأهل أخْفوا حقيقة انتحاره عن الجميع لكنها حصلت ووُثقت لتكون وصمة عار على جبين الطبقة السياسية في لبنان.

أما سامي خ. فهو والد لصبية لم تتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها مصابة بسرطان الثدي.

ما إن بدأت أزمة الدواء في لبنان حتى سارع إلى تخزين الأدوية الضرورية لعلاج ابنته حيث إنها تحتاج إلى تناول حقنة أسبوعياً تكون بديلاً عن العلاج الكيميائي، لكن هذه الحقن تحتاج إلى وضعها في الثلاجة حتى تبقى ضمن معدل الحرارة المنخفضة المطلوبة.

والمشكلة حصلت مع الانقطاع الدائم للتيار الكهربائي، حيث باتت كمية الحقن التي يملكها والتي لم تَعُد متوافرة في السوق معرّضة للتلف ومعها صحة ابنته ومستقبلها.

بحث الوالد المنكوب عن حلّ، ولم يجد أمامه إلا تركيب إمدادات للطاقة الشمسية على سطح منزله لإبقاء ثلاجته شغالة ليضمن وصول العلاج إلى ابنته الصبية…

وإذا كان سامي تمكّن من ابتداع حل، فإن كثيرين من مرضى السرطان يقفون عاجزين عن إيجاد أدويتهم في ظل نفاد كمياتها من وزارة الصحة، وهي المرجعية الأولى لتأمينها، بعدما انفجر صراعٌ حول فتح الاعتمادات اللازمة لاستيراد هذه الأدوية بين الوزارة ومصرف لبنان ومستوردي الأدوية، ويضاف إليه جشع بعض المواطنين الذين يعملون على تهريب هذه الأدوية المدعومة إلى بلدان أخرى حيث يتجاوز سعرها هناك سعرها في «بلاد الأرز» بأضعاف فيستفيدون بالربح على حساب صحة مواطنيهم وحياتهم.

قلب يحترق على أطفال لا يجدون علاجاً

هذه الصورة القاتمة للواقع تبدو أشدّ قتامة وإيلاماً من الداخل، أي في المستشفيات والجمعيات التي تعنى بمساعدة مرضى السرطان وتأمين العلاج لهم.

جمعية Chance أو Children Against Cancer التي بدأت عملها في بيروت قبل نحو 20 عاماً استطاعت خلالها تأمين الاستشفاء لآلاف الأطفال المصابين بالسرطان وإنقاذ المئات منهم وتوفير الدواء لهم كلهم، تُطْلِق اليوم صرخةَ استغاثة بلسان مؤسستها ورئيستها الدكتورة رولا فرح الاختصاصية بأمراض الدم والأورام عند الأطفال… صرخة نابعة من قلبٍ معطاء محروق على ما يراه أمامه من مآس يومية.

تقول فرح لـ«الراي»: «نحن نتعذب وعذابنا كما عذاب الأهل كبير جداً، وقد حُمّلنا مسؤولية ليست مسؤوليتنا في الأساس وهي تأمين الأدوية لأولادنا ومرضانا مكان وزارة الصحة وشركات استيراد الأدوية والصيدليات.

وارتضينا هذه المسؤولية وكنا نبذل جهدنا ووقتنا لتوفير الأدوية المقطوعة من السوق ونُجْري اتصالاتنا مع أطباء أصدقاء لنا في الخارج وذلك لمتابعة تأمين العلاج لأطفالنا.

وكنا نطلق الإنذارات إذا شعرنا بأن دواء ما سيفقد ونحاول الاستحصال عليه، ولكن منذ أسبوعين باتت ستة أدوية من أدوية السرطان الأساسية غير متوافرة مطلقاً ولا بديل لها، فيما هناك نقص كبير في غالبية الأدوية».

واقع مُبْكٍ حقاً وظالم أن يُحرم طفلٌ من حقه بالعلاج بسبب فقدان الأدوية في حين أن نسبة الشفاء من السرطان عند الأطفال تقارب 85 في المئة.

«أخيراً زادت طلبات المساعدة بنسبة 45 في المئة»، تؤكد فرح و«كذلك ازداد الضغط علينا لتأمين الأدوية.

سابقاً لم تكن تلك مشكلة بالنسبة إلينا، إذ كنا نقوم بذلك لكن الأدوية اليوم غير متوافرة والأطفال المصابون بالسرطان مُعرَّضون لخطر حقيقي. فأول عامل للشفاء هو العلاج.

وبانقطاعه هناك خطر حقيقي إما بالموت أو بمعاودة ظهور المرض من جديد. تأخير العلاج أو عدم القدرة على البدء به هو قنبلة موقوتة تُعَرّض حياة المصابين وتحرمهم من واحد من أهم حقوقهم وهو حق الحصول على الطبابة.

ومن جهة الأهل يصبح الألم مضاعفاً بين الخوف على ولدهم المريض وعدم قدرتهم على تأمين الدواء له».

مشكلة غالبية أدوية السرطان أن لا بديل لها ولتركيباتها ولو كان البديل متوافراً لَما علت الصرخة.

فنداءات الاستغاثة انطلقت حين سُدّت كل الطرق.

مرضى متروكون لمصيرهم

«المشكلة متشعبة جداً» تضيف فرح «فمصرف لبنان لا يفتح الاعتمادات لشراء الدواء فيما شركات الأدوية لا تعرف كيف تسعر الدواء في ظل وجود أسعار عدة للدولار ويطلب المستوردون من الصيدليات والمستشفيات دفع ثمن الأدوية نقداً في حين أن هذه الأخيرة لم تستوف بعد ما لها في ذمة الوزارة.

أما وزارة الصحة فهي تشتري أدوية السرطان من المستوردين لتؤمنها لمرضى السرطان الذي يتلقون العلاج على حسابها، فيما المرضى غير الخاضعين لوزارة الصحة والتابعين لشركات تأمين خاصة فيُطلب منهم تأمين الدواء بأنفسهم وهو أمر في غاية الصعوبة حتى بالنسبة للميسورين منهم.

ففي الخارج سعر الأدوية نار باليورو أو الدولار، ويصعب على المرضى الحصول عليها لأن ذلك يتطلب آلية خاصة ومعقّدة، وأحياناً موافقة من طبيب مختص في البلد المذكور حتى يتم إعطاء الدواء».

باختصار تؤكد رولا فرح أنه «أمر غير مقبول وغير إنساني فاللبناني يحق له أن يتطبّب، وكانت وزارة الصحة تقوم لسنوات بواجبها بتأمين أدوية الأمراض المستعصية.

أما اليوم فهي لم تعد قادرة وقد حاولت حل المشكلة بالذهاب نحو مصادر غير معروفة مثل الدواء الإيراني أو الهندي أو الروسي».

هل يكون حل المشكلة بمصادر دواء مجهولة وغير موثوق بها أم أنها مشكلة إضافية تساهم في تأزيم وضع مرضى السرطان.

فرح مثل كل أطباء السرطان ترفض استخدام أي دواء من مصدر غير معروف، لا لأسباب سياسية بل لعدم توافر معلومات علمية كافية حوله.

فما دامت لم تُنشر أبحاث حوله في مراجع ومجلات علمية موثوقة فلا يمكن الركون إليه، وتقول «أنا أضع اسمي على الوصفة التي أعطيها للمريض، إذاً أنا مسؤولة عن الدواء الذي أصفه وبالتالي لا يمكن أن أصف أي دواء لست واثقة منه».

بالنسبة للمستشفيات، المشكلة لا تكمن فقط في الدواء بل في تأخر دفْع الوزارة لِما عليها من مستحقات لها بحيث باتت المستشفيات ترفض دخول أي مريض سرطان للاستشفاء إن كان على حساب وزارة الصحة، وكأن المريض بات محكوماً عليه بالإعدام، من جهة لعدم استقبال المستشفى له ومن جهة أخرى لعدم توافر الدواء الذي يعالجه.

وأتت مشكلة انقطاع التيار الكهربائي وفقدان مادة المازوت لتفاقم من وضع المستشفيات والمرضى، بحيث أصدر مستشفى «المقاصد» مثلاً بياناً أعلن فيه عن عدم قدرته على استقبال وعلاج المرضى لأن مادة المازوت المتوافرة لديه تكفي ليومين فقط.

وما يزيد الطين بلة وساهم في مفاقمة الوضع المأزوم أن الجمعيات التي تعمل على دعم مرضى السرطان ومساعدتهم وتأمين أدويتهم غير قادرة على الوصول إلى مدخراتها في المصارف بحيث يتم تقطير سحوباتها وتُمنع تحويلاتها إلى الخارج، كما أنها غير قادرة على القيام بنشاطات مختلفة لجمع الأموال والتبرعات كما اعتادت، وتالياً لم يعد في استطاعتها شراء الأدوية من الداخل أو الخارج ودفع ثمنها نقداً ولا الدفع نقداً للمستشفيات للمعالجة.

«أنا أحترق من الداخل» تؤكد فرح «وفي عهدة الجمعية 120 طفلاً لا نستطيع إكمال علاجهم، ولا نستطيع التوقف اليوم حتى لا نضعهم في فم مصير مجهول يهدد بابتلاعهم. الأهل باتوا غير قادرين حتى على الوصول إلى المستشفى».

والصرخة ذاتها التي تطلقها الدكتورة رولا فرح تعلو أيضاً بصوت كل أطباء معالجة السرطان والجمعيات التي تعنى بمساعدة مرضاه وكأنها نشيد كئيب يخشى التحوّل إلى نشيد للموت.

قصة آية

منذ 25 يوماً، وآية الطفلة المصابة بسرطان الدم بلا دواء.

هذا الدواء الذي تبلغ تكلفته 6 ملايين ليرة غير متوافر والأهل لا يمكنهم شراءه من مصدر آخر ولا هم قادرون على تأمين مأكلهم اليومي أو الوصول إلى المستشفى.

آية التي كان يمكن إنقاذها بستة ملايين ليرة قد تحتاج إلى زراعة نقي العظم في عملية كبيرة ومكلّفة لأن الدواء حُجب عنها…