IMLebanon

تصحيح الأخطاء الفرنسيّة من المحيط إلى الخليج

كتب شربل بو مارون في “الجمهورية”:

في 24 آب 2021، أعلنت الجزائر قطعها العلاقات الديبلوماسية مع جارتها المغرب. بعد عدة أشهر من التوترات المتزايدة، يمثّل القرار مرحلة جديدة مُقلقة في العلاقات المتوترة منذ فترة طويلة بين هاتين الدولتين. هذه الخطوة هي بلا شكّ مثيرة للقلق، خصوصاً أنّ قرار قطع العلاقات الديبلوماسية يمكن أن يكون في بعض الأحيان مقدمة لنزاع مسلّح. إذاً، ما الذي أدى بالضبط إلى القرار الجزائري بقطع العلاقات الديبلوماسية؟ وما مدى خطورته؟ وما تأثير الموضوع على الشّرق الأدنى عموماً وعلى لبنان خصوصاً؟

لطالما كانت العلاقة بين الجزائر والمغرب صعبة جداً، على رغم أن البلدين ينتميان ثقافيّا للعروبة ودينيّا للإسلام السّني، مع وجود تجمّعات كبيرة للأمهازيغ في كليهما. وقد ظهرت التوترات بينهما للمرة الأولى بعد فترة وجيزة من حصولهما على الإستقلال من فرنسا، عندما بدأ المغرب بالمُطالبة بإقليمين جزائريين (تِندوف وبِشار) اقتطعتهما منه سلطات الإنتداب الفرنسيّة. ولقد أدى ذلك في نهاية المطاف إلى نزاع مسلّح قصير، عُرف بحرب الرمال عام 1963. انتهت الحرب بعد مفاوضات بين الدولتين، نتيجة وساطة منظمة الوحدة الإفريقيّة والجامعة العربيّة، وأوصَلت إلى توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في 20 شباط 1964 وتحديد منطقة منزوعة السلاح، وتعيين مراقبين من الدولتين لضمان الحياة والسلام في هذه المنطقة، بالإضافة إلى تشكيل لجنة تحكيم لتحديد المسؤولية حول من بدأ العمليات الحربية بين البلدين ودرس مشكلة الحدود بين الطرفين وتقديم مقترحات إيجابية لهما.

وفي حين تخلى المغرب عن مطالبته بالمناطق المُتنازع عليها، غير انّ المواجهة أبقت النّار تحت الرّماد حتى يومنا هذا. على وجه الخصوص كان البَلدان على خلاف حول الصحراء الغربية. وبينما يدّعي المغرب أنها منطقة تابعة له، دعمت الجزائر جبهة البوليساريو التي تقاتل من أجل استقلال الصحراء الغربية، وسمحت لها بإقامة حكومة منفى في تندوف. ويعتبر النزاع على الصحراء الغربيّة أحد أطول النزاعات في افريقيا الذي لا يزال مستمرّا حتى اليوم، وقد حصلت مبادرات أمميّة كثيرة لحلّه، من بينها اتفاقيّة مدريد في تشرين الثاني 1975 بين اسبانيا والمغرب وموريتانيا، ومن ثمّ تشكيل بعثة المينوروسو التابعة للأمم المتّحدة (ما عُرف بخطة التّسوية) لمراقبة وقف إطلاق النار بين المغرب والبوليساريو، وكذلك لإجراء استفتاء لتقرير الوضع النهائي للصحراء الغربية بين الإنضمام للمغرب أو الإنفصال عنه، لكن هذا الإستفتاء لم يتم بسبب الخلاف حول العدد الحقيقي للسكان الذين يحق لهم التصويت، حين كان جيمس بايكر وزيرا للخارجيّة الأميركيّة في عهد بوش الأب.

في آذار 1997، أصبح جيمس بيكر المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة للصحراء الغربية، ووضع خطّة (بإصدارين) باتت تُعرف رسميا بإسم خطة السلام من أجل تقرير المصير لشعب الصحراء الغربية، وكان المقصود من المبادرة أن تحل مكان خطة التسوية التي وُضعت عام 1991. الإصدار الأوّل من مقترحات بيكر قدَّم لشعب الصحراء الغربية مُقتَرح الحكم الذاتي في إطار الدولة المغربية، مع استثناء القرارت السياسة خصوصاً الخارجية منها. أمّا الإصدار الثاني (خطة بيكر الثانية) فقد اقترح على الصحراويين الحكم الذاتي لمدة 5 سنوات، ثم القيام بعد ذلك باستفتاء لمعرفة ما إذا كان سيبقى الأمر كما هو عليه أم ستنضَمّ المنطقة للمملكة المغربية.

أولقد صبح الوضع أكثر صعوبة بسبب اختلاف الأنظمة السياسية بينهما اختلافًا جذريًا، بالإضافة إلى العلاقات الدولية للبلدين. لكنّ جذور التوترات الحالية تكمن في سلسلة من التطورات التي حدثت منذ نهاية عام 2020، وشملت اعتراف الولايات المتحدة بضمّ المغرب للصحراء الغربية، مقابل اعترافها بدولة إسرائيل. بالإضافة إلى دعم الحركة الانفصالية البربرية في منطقة القبائل في الجزائر التي تضعها المغرب في مقابل قضية الصحراء الغربيّة، فضلا عن اتهام الجزائر للمغرب واسرئيل والحركة من أجل تقرير المصير في منطقة القبائل بافتعال الحرائق التي اجتاحت الجزائر أخيراً، أمّا القّشة التي قصمت ظهر البعير فكانت استعمال المغرب نظام «بيغاسوس» للتجسّس على الجزائر.

كلّ هذه التطوّرات أدّت إلى قرار الجزائر بقطع العلاقات الديبلوماسية. السؤال هو ماذا سيحدث بعد ذلك؟ ماذا يعني أن يكون بايدن على رأس الولايات المتّحدة؟ وما أثر ذلك في الشرق الأدنى كله؟

هذا في مقلب المحيط. أمّا في الخليج، فقد كان لمعركتي الخليج الأولى (الإيرانيّة-العراقيّة) والثانية (اجتياح الكويت) الأثر الكبير في انتهاء الحرب الباردة. فمع اندلاع ثورة الخميني في ايران، خاف صدّام حسين من تَمَدد الثورة الى العراق، فشَنّ معركة استباقيّة جويّة على إيران معتمدا على الطيران الفرنسي، وبدأ بمعركة طويلة مع إيران جعلته لاعبا إقليميّا كبيرا حتى العام 1988.

في العام 1986، وقعت فضيحة إيران-كونترا، التّي غُضّ فيها النظر عن ايران لبيع «الفيول» كي تستطيع شراء سلاح أميركي للاستمرار في حربها ضدّ العراق، في المقابل تستعمل الولايات المتحدة أموال الصفقة لتمويل حركات «الكونترا» اليمينيّة المناوئة للنظام الشيوعي في نيكاراغوا، وقد كان مهندس العمليّة إيليوت أبرامز (الممثّل الخاص للولايات المتحدة لفنزويلا من 2019 إلى 2021 وممثل الولايات المتحدة الخاص لإيران من 2020 إلى 2021).

في العام نفسه، أراد صدام حسين تصفية حساباته القديمة مع نظام البعث السّوري، بتوطيده علاقاته مع مسيحيي «المنطقة الشّرقيّة» في لبنان، خصوم النظام السّوري، ففي هذا العام انتفضَ سمير جعجع على إيلي حبيقة و»أَسقط» الإتفاق الثّلاثي المدعوم من سوريا، وتسلّم قيادة «القوات اللبنانية» فأقفل مكتب تمثيل اسرائيل في «الشّرقيّة» وبدأ بالإنفتاح عربياً، وما لبث أن وطّد العلاقة مع قائد الجيش حينها (الرئيس ميشال عون) وبدأ يمدّ الجيش بمثل ما مَدّ «القوّات اللبنانيّة».

في العام 1989، وصل جورج بوش الأب الى رئاسة الجمهوريّة، واعتمد سياسة خارجية وضعت أميركا مجدّدا على قمة العالم. ففي عهده حصلت تطورات جيوسياسية جوهرية، كحرب الخليج الثانية التي أضعفت العراق وأطلقت يد حافظ الأسد في لبنان (نتيجة وقوفه الى جانب الغرب ضد العراق) والغزو الأميركي لـ بنما، بالإضافة إلى تفكك الاتحاد السوفياتي، وانتهاء الحرب الباردة.

وكان المهندس الأبرز للسياسة الخارجية الوزير جيمس بايكر.

فما علاقة ما حصل بين الجزائر والغرب والعراق في لبنان؟

في أيار 1988، عقدت قمة عربية طارئة في الدار البيضاء في المغرب لدرس حل القضيّة اللبنانية، وتم تشكيل لجنة ثلاثية عليا برئاسة ملك المغرب الحسن الثاني والعاهل السعودي الملك فهد بن عبد العزيز والرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد. وخوّلت صلاحيات شاملة وكاملة لتحقيق الأهداف التي أقرّها المؤتمر لحل الأزمة اللبنانية. أما مهمات اللجنة فقد نَصّت على حل مشكلات لبنان وفَرض السلام بكل الوسائل المتاحة وإجراء الاتصالات المناسبة لتوفير مناخ ملائم لدعوة أعضاء مجلس النواب اللبناني حتى خارج لبنان عند الضرورة لصَوغ ميثاق وطني جديد… فكان «اتفاق الطائف». وهناك مَن اتهم بيكر بإطلاق يد الأسد في لبنان. هو الذي هَندسَ اتفاقية مدريد للسلام التي أوصلت الى اتفاقيّة أوسلو. والكاظمي في الأمس وجّه ضربة استباقية ديبلوماسية للإيرانيين بسلاح فرنسي مباشر (حضور الرئيس ايمانويل ماكرون شخصياً مؤتمر جوار العراق). في الأمس أيضاً بَدا الملك الأردني مرتاحا جدّا في مؤتمر جوار العراق، وكان الرئيس اللبناني قد أعلن الاستعداد لإطلاق مبادرة سوق اقتصادية مشتركة من لبنان الى الأردن مرورا بالعراق.

كلّ الدلائل تشير الى تغيير حتمي في المنطقة، ففرنسا اليوم تحاول إصلاح أخطاء الإنتداب اليوم مستعملة قلما أميركيا، تغيير الخرائط الذي يراعي المجموعات الحضاريّة بات على نار حامية في غرب المتوسّط، العراق عاد لاعبا إقليميا، ايران بدأت تغرق في الوحول الأفغانيّة، ورئيس أميركا رجل يؤمن بالـ»إستابليشمنت» ومراكز الأبحاث التي ترسم السياسات الخارجيّة. صحيح أن بايكر غائب اليوم، لكنّه أنجَب تلامذته اليوم في مركز القرار. فويليام بيرنز هو اليوم رئيس وكالة المخابرات المركزية، ودينيس روس كبير باحثي مركز واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، وايليوت أبرامز في «مجلس العلاقات الخارجيّة»، وقد خَلفه روبيرت مالي في ادارة الملف الإيرني، علماً أن مالي كان الرئيس التنفيذي لـ»كراسيس غروب» التابع لجورج سوروس، والذي سعى جاهداً لتخفيف العقوبات عن ايران و«حزب الله»، مع الإشارة الى أنّ روبير فاضل هو عضو مجلس ادارة في المجموعة نفسها، وكان أحد مهندسي «الحلّ» في فنزويلا.

ما كان يانعاً في العام 1990، يبدو أنه نَضج اليوم، وخطيئة فرنسا بخَلق هوية وطنية تلغي حقوق المجموعات الحضاريّة يتم تصحيحها، فهل نحن أمام حلف بغداد جديد، هل نحن سائرون نحو لبنان الصغير؟ أم اننا سنلجأ الى الفديرالية مَقرونة بالحياد حفاظاً على حقوق الجميع ومنعاً لتكرار اخطاء الماضي؟