IMLebanon

الأمن التعليمي… كي لا يسقط آخر الحصون!

كتب ماجد جابر في الأخبار:

في تقريره الأخير بعنوان «التأسيس لمستقبل أفضل»، دعا البنك الدولي لبنان إلى تنفيذ أجندة للإصلاح التربوي والارتقاء بجودة التعليم، في ظلّ انخفاض مستويات التعلم وعدم توافق مهارات المتخرجين واحتياجات سوق العمل، ما يعرّض الأجيال الصاعدة للخطر.

هذه التوصيات أتت في ضوء تقويم جرى بعيد انطلاق العام الدراسي السابق وما صاحبه من تفشٍّ لوباء كورونا وتداعيات تفجير مرفأ بيروت وبداية انهيار الأمن الاقتصادي والمعيشي الاجتماعي الذي وصل إلى هاوية عميقة، زادت من حجم تحديات المنظومة التعليمية ومكوّناتها، وأدخلت الأمن التعليمي في مرحلة انهيار متسارع بنيوياً وهيكلياً، ما خلّف قلقاً متنامياً لدى المعلمين وإدارات المدارس والتلامذة وأولياء الأمور.

توفر الأمن التعليمي لا يقتصر على توفير مقاعد دراسية للتلامذة، بل يتعدّاها إلى أبعاد أخرى، كإنتاج تعليم جيد النوعية، وضمان وصول التلامذة إليه، والاستثمار فيه بطريقة فعالة، وضمان استمراريته.

في ما يتعلق بتوفير تعليم جيد النوعية، فإن التحديات كثيرة، بين المزمن والمستجدّ. إذ إن المشكلة لم تعُد محصورة في استمرار العمل بمناهج بالية وطرائق تعليم تلقينية وامتحانات تقليدية، بل إن التحديات الاقتصادية ستزيد من رداءة التعليم وتراجع مستويات التعلم، إما بسبب استقالة أو هجرة معلمين أكفّاء (نحو 17% من معلمي المدارس الخاصة) والاستعاضة عنهم بمعلمين من ذوي الخبرة الجديدة من دون إخضاعهم للإعداد، وإمّا بسبب إجراءات تقشفية للمدارس في ظلّ تضخم الميزانية التشغيلية، تبدأ بتقليص عدد الساعات التعليمية لبعض المواد أو إلغاء بعضها، والحدّ من استخدام الوسائل التعليمية والمخبرية والتكنولوجية خشية تعطلها وعدم القدرة على صيانتها، وترشيد استهلاك الموارد اللوجستية للعملية التعليمية مثل الورق وأقلام اللوح، فضلاً عن تكاليف الصيانة ومستلزمات البيئة المدرسية صحياً وتربوياً، والبيئة الصفّية لناحية التدفئة والتهوئة والإنارة والوسائل السمعية والبصرية، إلى جانب التكاليف المتعلقة بتدابير الوقاية من «كورونا».

أما التعليم عن بعد، فقد يصبح أكثر رداءة في ظلّ تدهور البنية التحتية المرتبطة به، وارتفاع تكاليفه، وصعوبة توفير مستلزماته (تابليت، هاتف، لابتوب، إنترنت…)، وعدم توفر المنصات والمحتويات الرقمية الناجعة له، وتوقف تدريب المعلمين عليه. كما أن التحاق المعلمين بصفوفهم من دون تحسين رواتبهم (100 دولار كمعدل وسطي)، وتأمين أبسط مقومات عيشهم وتنقلهم، سيقلّل من دافعهم ويؤدي بالتالي إلى تدني جودة تعليم التلامذة وتحصيلهم التعليمي.

أما البعد الثاني المتعلّق بالحصول على التعليم، فالتحديات عدة سواء أكان التعليم حضوريا أم عن بعد. إذ إن أزمة المحروقات وارتفاع أسعارها ستكون العائق الأكبر أمام التعليم الحضوري، إما لعدم قدرة المعلمين على شرائها، أو لعدم إمكانية الحصول عليها، أو للارتفاع الخيالي في أسعار النقل المدرسي بما قد يتخطّى كلفة القسط المدرسي. هذا الواقع سيدفع المدارس إلى تقليص أيام التعليم الحضوري، وقد يدفع أهالي كثراً إلى استبدال مدارس أولادهم بأخرى قريبة من منازلهم، أو ربما استبدال أماكن سكنهم في حال عدم توافر مقاعد لأولادهم في مدارس قريبة أقلّ كلفة، لا سيما المدارس الرسمية، وبالتالي يتوقع أن تشهد المدرسة الرسمية موجة نزوح بعشرات الآلاف من التعليم الخاص هذا العام بعدما شهد عام 2020 – 2021 نزوح نحو 55 ألف تلميذ. كلّ هذا يأتي بالتوازي مع الارتفاع الجنوني لأسعار الكتب والقرطاسية والملابس المدرسية والكتب.

أما التلميذ فسيكون أكثر المتضررين، إما لناحية الحصول على نوعية تعليم جيدة، أو لصعوبة التأقلم مع بيئة مدرسية جديدة، أو لجهة الشعور بالتفاوت الطبقي مع زملائه، بما ينعكس سلباً على وضعه النفسي ودافعه للتعلم، خصوصاً إذا كانت المدرسة ذات مستوى تعليمي أقل، وتعاني من نقص في الإمكانات والموارد التعليمية والبشرية والمادية. أما التعليم عن بعد، فالتجربة أثبتت ضعف فاعليته بسبب كثرة مشكلاته واحتمال تفاقمها، ما يعني أن التلامذة لن يتمكنوا من الوصول إلى صفوفهَم الافتراضية بانتظام وحصولهم على التعلم المجدي.

في ما يتعلق بالبعد الثالث المتمثل في استثمار التعلم مستقبلاً وقدرة المخرجات التعليمية على تحقيق شخصية تلميذ متكاملة ومواكبة للتطورات العلمية وسوق العمل، فإن المناهج الرديئة، وضعف جودة التعليم، وتزايد الفاقد التعليمي من دون معالجات، وغياب التوجيه الذي يحتاج إليه التلامذة، في ظلّ اعتماد تقويم تقليدي وامتحانات رسمية تفتقر إلى العلمية والمصداقية والموضوعية وغياب الخطط والسياسات التربوية الناجعة، ستؤدي إلى مخرجات تعليمية ضعيفة، ولن تمكن من إنتاج متعلم يتمتع بالمواصفات والمهارات والمعارف اللازمة والقدرة على الابتكار والإبداع.

وفي ما يتعلق البعد الرابع المرتبط باستقرار استمرار التعليم والتعلم. فالمؤشرات تؤكد أن التعليم سيشهد تعثراً من وقت إلى آخر، إما بسبب احتمال تزايد الإصابات بوباء «كورونا»، أو لناحية رداءة التعليم عن بعد، أو بسبب اضطرابات قد تشهدها مناطق احتجاجاً على الواقع المعيشي، فضلاً عن الإضرابات التي سيشهدها التعليم الرسمي للمطالبة بزيادة الرواتب والأجور. كما أن الظروف الاقتصادية والمعيشية الخانقة قد تدفع أسراً فقيرة إلى عدم إلحاق أولادها بالمدرسة ودفعهم للعمل لتحسين ظروف العيش، وبالتالي ارتفاع حالات التسرب المدرسي خصوصاً بين طلاب الثانويات والجامعات الذين قرر عدد كبير منهم ترك الدراسة وفضّل الهجرة.

ترك الأمن التعليمي يتهاوى من دون أي معالجات ناجعة في ظل غياب رؤية وخطط استراتيجية تربوية واقعية وعلمية، سيقضي على آخر ما تبقى لهذا الوطن من رصيد.