IMLebanon

هل تنتقل باريس إلى الشق الثاني من مبادرتها؟

كتب شارل جبور في “الجمهورية”:

المبادرة الفرنسية بنسختها الأصلية مقسومة إلى شقين: الشق الأول حكومة وإصلاحات ومساعدات وفرملة انهيار وإطلاق مسار التعافي، والشق الثاني النظام السياسي والانقسام الوطني والخلاف على البديهيات والأوليات المتعلقة بالسيادة والدولة والحياد ودور لبنان.

صحيح انّ الشقّ الأول من المبادرة الفرنسية تأخر كثيراً قبل ان يدخل حيّز التنفيذ، واختلف بصورته الأخيرة عن الصورة التي رُسمت له في أساس المبادرة، ولكن الحكومة تألفت في نهاية المطاف بالشكل الذي تألفت فيه وبمباركة ودعم فرنسيين، ما يعني ان الفصل الأول من الشق الأول قد تحقق، ويبقى متابعة الفصل الثاني من هذا الشق المتعلق بالتطبيق لناحية فتح طريق معالجة الأزمة المالية من خلال الإدارة الحكومية الجديدة بدءاً من مفاوضاتها مع صندوق النقد، وصولا إلى إقرارها رزمة من الإصلاحات التي بإمكانها تحقيقها وانتزاعها.

وبمعزل عن وتيرة التعافي، أكانت سريعة أم بطيئة، إلا ان البلد دخل في مرحلة جديدة وإدارة قادرة، بشكل أو بآخر، على تحسين الأوضاع، ما يؤكد بأن حكومة اللون الواحد التي كانت تحظى بغطاء العهد العوني و»حزب الله» فشلت فشلا ذريعا، وانّ هذا الفريق غير قادر منفردا على قيادة البلاد، لا بل ان وجوده بالشكل الموجود فيه تحوّل إلى عبء كبير لم يعد بإمكان اللبنانيين تحمله، كما ان دخول لبنان في هذه المرحلة الانتقالية يستدعي من الإدارة الفرنسية ان تبدأ بإعداد العدة وتهيئة الأرضية من أجل الانتقال إلى الشق الثاني من مبادرتها.

وإذا كان وقف الانهيار يشكل مطلبا شعبيا لبنانيا تجنّباً لفوضى مرفوضة، ويشكل مطلبا دوليا بالقدر نفسه، وقد ظهر هذا الأمر بوضوح من خلال المبادرات والمواقف والسعي الدولي، إلا انّ وقف الانهيار لا يعني إنهاء الأزمة اللبنانية التي لم تعد تحتمل الانتظار ولا التسويات الجزئية، خصوصا ان حجم التردي لم يعد يسمح بمواصلة الترقيع، فضلاً عن ان جوهر الأزمة سياسي بامتياز لأنّ لبنان لم يصل إلى ما وصل إليه سوى بسبب التغييب المتمادي للدولة، وإذا لم يُصَر إلى معالجة جوهر المشكلة فلا أمل بالخروج من الأزمة اللبنانية.

وكل نظرية ربط مصير لبنان بالتسوية الأميركية مع إيران سقطت مع الانهيار اللبناني وعدم قدرة بيروت على الصمود بانتظار ما ستؤول إليه المفاوضات مع طهران، وليس من المنطقي بشيء أساسا إبقاء الوضع اللبناني معلقا بالوضع الإيراني، بل حان الوقت لفصل التسوية في لبنان عن التسوية في المنطقة، فهل ستتولى باريس هذه المهمة انطلاقاً من مبادرتها التي نصّت بوضوح على الانتقال إلى المرحلة الثانية بمعالجة الانقسام السياسي بعد انتهائها من المرحلة الأولى المتعلقة بالحكومة؟

لا مؤشرات لغاية اللحظة تفيد بأن باريس في هذا الوارد، ولكن لم يصدر اي موقف علني يؤكد خلاف ذلك، ما يعني ان الأمر قد يخضع للبحث بعد ان تكون الحكومة قد شَقّت طريقها في وضع البلد على طريق التعافي، علماً ان تجربة باريس في تأليف الحكومة جعلتها تتيقّن حجم التعقيدات اللبنانية في ظل سؤال يطرح نفسه بقوة: كيف ستتمكن فرنسا من الدفع باتجاه تسوية سياسية بعمق إقليمي، فيما تسوية حكومية أنهكتها وأفرغت مبادرتها من مضمونها وولدت بشق النفس؟

تدرك باريس حجم التعقيدات والصعوبات التي ستعترض اي مبادرة حوارية تتولاها بسبب رفض طهران التخلي عن الورقة اللبنانية بصيغتها الحالية المتمثلة بسلاح «حزب الله»، وبالتالي لن توافق في الظروف الراهنة وفي اي ظرف عادي على إخراج لبنان من دائرة نفوذها وخسارتها ورقة من أبرز أوراقها في المنطقة وأقدمها، ولكن هذا لا ينفي وجود ثلاثة عوامل تشكّل دافعاً لباريس من أجل الإعلان عن استضافتها لطاولة حوار لبنانية في باريس:

العامل الأول فرنسي بامتياز انطلاقاً من حاجة باريس لدور خارجي وإطلالة على الملفات الدولية، ويمثِّل لبنان المساحة الأفضل على هذا المستوى بسبب الحضور الفرنسي التاريخي فيه، والتفويض الأميركي لباريس بإدارة الملف اللبناني، كما ان اي مبادرة من هذا النوع تمنح فرنسا دورا مهما حيث يبدأ الكلام عن مؤتمر باريس على غرار الكلام عن مؤتمر الطائف، فيما اي تحرُّك من هذا القبيل لا يمكن ان تتولاه سوى دولة مؤثرة ولها علاقاتها الدولية والإقليمية، الأمر الذي ينطبق على فرنسا التي أمامها فرصة إعادة صياغة دورها في الشرق الأوسط من البوابة اللبنانية.

العامل الثاني فاتيكاني بامتياز الذي يولي اهتماما خاصا بلبنان ولم يعقد مؤتمرا حول وضعه من أجل تأليف الحكومة فحسب، والتي يَنظُر إليها كالدواء المسكن، إنما بغية السعي لإخراج البلد من أزمته حفاظا على ما تبقى من مسيحيين في الشرق الأوسط وتجربة يحرص الفاتيكان على استمرارها، وهناك مصلحة فرنسية بتلبية الرغبة الفاتيكانية نظرا لتأثير عاصمة الكثلكة ي عواصم العالم، ولأن حصولها على تفويض من هذا النوع يقوّي دورها على المسرح الدولي.

العامل الثالث لبناني بامتياز على أثر وصول شريحة لبنانية واسعة إلى حافة الفقر واليأس من واقع الحال في لبنان ورفضها الاستمرار في التأزّم المفتوح وغياب الدولة والوضع الاستثنائي القائم وحاجتها إلى تسوية تعيد البلد إلى وضع طبيعي، على غرار ما كان عليه قبل الحرب اللبنانية.

وأي مبادرة فرنسية باتجاه إنهاء الأزمة اللبنانية ستحظى بتأييد لبناني واسع، ما يصبّ في مصلحة فرنسا بخَلق جو شعبي متعاطف معها ومؤيّد لمساعيها وداعم لسياساتها، لأن لبنان، بالنسبة إلى شعبه، لم يعد مساحة قابلة للعيش وأصبح من الملحّ إنهاء أزمته بالتلازم بين الإرادة الداخلية والمساعي الخارجية.

فلا يمكن ان تعالج الأزمة اللبنانية سوى عن طريق مؤتمر دولي، وهذا المؤتمر بالذات كان دعا إليه البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي برعاية مجلس الأمن، واي مؤتمر تدعو إليه باريس سيكون برعاية أممية، فضلا عن انها لم تعد تستند إلى أحد بنود مبادرتها فحسب، إنما ترتكز على مطالبة واضحة وصريحة من الكنيسة المارونية، وتأييد شعبي عارم. وبالتالي، يكفي ان توجِّه الدعوة إلى مؤتمر في عاصمتها وبرعايتها لتُطلق دينامية سياسية تُدخل لبنان في مرحلة جديدة.

ومن غير المتوقع طبعا ان تتخلى طهران بسهولة عن نفوذها العسكري في لبنان، وهذا أمر معلوم، إنما الأساس يكمن في وضع مصير لبنان على طاولة التفاوض الدولية واللبنانية، وهذا بحد ذاته كافٍ لخلق دينامية دولية ولبنانية تنقل النقاش من التفاصيل اللبنانية إلى عمق الأزمة وجوهرها، فصحيح ان إيران مثلاً لا تُبدي لغاية اللحظة ليونة في مفاوضات فيينا النووية، ولكن نتيجة الإصرار والعقوبات الدولية ستضطر في نهاية المطاف إلى التنازل والوصول إلى تسوية كما حصل سابقا.

فالمشكلة الأساس تكمن في التخلي عن لبنان وربط مصيره بمفاوضات فيينا والدور الإيراني في المنطقة، فيما لا يوجد ما يؤكد انّ الوصول إلى اتفاق نووي يعني الوصول حكماً إلى اتفاق على تغيير الدور الإيراني في المنطقة، بل قد يعزِّز الاتفاق النووي، بفِعل رفع العقوبات، الدور الإيراني بالشكل القائم. ولذلك، يجب التعامل مع لبنان كقضية قائمة بذاتها ومنفصلة عن كل القضايا الأخرى والدعوة إلى مؤتمر يضع طهران تحت الضغوط الدولية لوَقف تدخلاتها في لبنان من جهة، ويمنع «حزب الله» من مواصلة التهرُّب من بحث سلاحه ودوره من جهة ثانية، وينقل النقاش اللبناني إلى الأولويات المتصلة بالسيادة والدولة.

قد تؤجّل باريس دعوتها لمؤتمر دولي لِما بعد الانتخابات النيابية التي تتعامل معها كمحطة تأسيسية لمرحلة جديدة، خصوصا انها تراهن على تغيير في نتائجها ربطاً بالثورة ونقمة الناس. ولا يهمّ توقيت الدعوة، ولكن الأصح ما بعد الانتخابات بمعزل عن نتائجها، إنْ إفساحاً في المجال أمام الحكومة من أجل ان تقوم بعملها الإنقاذي مالياً وإبعاد كل ما ينعكس على عملها، أو كَون الانتخابات ستفتح الباب أمام مرحلة جديدة بدءاً من إعادة تكوين السلطة في لبنان، وصولا إلى مزاج شعبي وحيوية سياسية. وبالتالي، في هذا التوقيت بالذات يجب ضرب الحديد وهو حامٍ من خلال أن تتولى باريس رعاية مؤتمر دولي لإنهاء الأزمة اللبنانية.

فلا أمل بإنهاء الأزمة اللبنانية سوى عن طريق الدعوة إلى مؤتمر دولي يُفضي إلى قيام الدولة وليس تكريس الوصايات ولا الدويلات، حيث لم يعد من الجائز ان تتحكّم فئة من اللبنانيين بمصير البلد والفئات الأخرى. وبالتالي، إمّا ان تكون الدولة المساحة المشتركة الجامعة للجميع، وإمّا البحث عن خيارات بديلة لا تُلزم فيها فئة الفئات الأخرى بخياراتها وتوجهاتها.