IMLebanon

ماكرون يتحرك في كل الاتجاهات

كتب مسعود المعلوف في “الجمهورية”:

يتحرك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، منذ فترة، على جبهات دولية عدة، في محاولات لاستعادة دور فرنسا في المحافل الدولية، بعد أن تراجع هذا الدور في الآونة الأخيرة، خصوصاً داخل الإتحاد الأوروبي حيث كانت فرنسا تؤدي دورا قياديا الى جانب ألمانيا.

تحركات ماكرون تناولت أموراً دولية مختلفة، أهمها: التوتر مع تركيا منذ النصف الأول من عام 2020 حول حقول الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط والتطورات في ليبيا، الأوضاع في العراق عبر تنظيم قمة بغداد بالشراكة مع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في أواخر آب المنصرم، الأزمة الديبلوماسية مع الولايات المتحدة حول إلغاء أوستراليا صفقة الغواصات الفرنسية واستبدالها بغواصات أميركية، والوضع في لبنان منذ تفجير مرفأ بيروت في آب من العام الماضي.

أولاً، التوتر بين فرنسا وتركيا:

إشتد هذا التوتر بعض الشيء بعد إقدام أحد الإسلاميين المتطرفين في باريس على قطع رأس استاذ فرنسي وردة فعل ماكرون القوية عبر قيامه بحملة شديدة اللهجة لتأكيد أهمية النظام العلماني المدني في فرنسا، وما تَبع ذلك من انتقادات لاذعة لماكرون وجّهها الرئيس التركي أردوغان الذي اتهم نظيره الفرنسي بعدم تقبّله الحريات الدينية، موحياً بضرورة إخضاعه لعلاج نفسي.

هذا الخلاف الذي بدا وكأنه خلاف شخصي بين ماكرون وأردوغان أتى على خلفية دعم فرنسا لليونان وقبرص في نزاعهما مع تركيا حول حدود المناطق الإقتصادية الخالصة في شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث ظهرت مخزونات مهمة من الغاز الطبيعي.

يضاف الى ذلك المواقف المتضاربة بين فرنسا وتركيا في الأزمة الليبية، إذ يؤيّد الرئيس الفرنسي حكومة الجنرال خليفة حفتر، بينما يؤيّد الرئيس التركي الحكومة المدعومة من الأمم المتحدة والقريبة من تنظيم «الإخوان المسلمين». ومن خلال تدخله في ليبيا، يسعى ماكرون الى استعادة بعض الدور الفرنسي في شمال أفريقيا الذي يعتبره تاريخياً منطقة نفوذ فرنسية، كما أنه يبغي من ذلك تأمين مصادر بترول قريبة لبلاده.

طموحات أردوغان في إعادة تكوين إمبراطورية عثمانية جديدة عبر تدخلاته في سوريا ولبنان وليبيا، ومساعيه لتأدية دور في أفغانستان بعد الإنسحاب الأميركي منها، ومحاولاته التقرب من الرئيس الروسي بوتين وشراء نظام صواريخ إس 400 على رغم كَون تركيا عضواً في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، كل ذلك أدى الى توتر في علاقات تركيا مع أعضاء الحلف، بما فيهم فرنسا، وهذا ما دفع وزير الخارجية الفرنسي الى القول انّ تركيا لها قدم في «الناتو» والقدم الأخرى في روسيا.

ومع أن التوتر السياسي بين فرنسا وتركيا خَفّت حِدّته بعض الشيء، إلا أن ماكرون اتخذ مواقف قيادية في هذا الموضوع، حيث تمكن من إرغام تركيا على وقف التنقيب في المنطقة المتنازع عليها شرق البحر الأبيض المتوسط فحقق موقعا متقدما لفرنسا داخل الإتحاد الأوروبي، مع العلم أنه يبدو أن الأمور قد تتفاقم مجددا مع تركيا، إذ أعلن أردوغان أخيرا أنه سيمضي في شراء منظومة صواريخ روسية «إس 400» ثانية رغم الإنتقادات الغربية لذلك. ولا شك أن ماكرون، بالإضافة إلى الرئيس الأميركي وسائر أعضاء الناتو، ستكون لهم مواقف متقدمة داخل «الناتو» لمواجهة هذه التطورات.

ـ ثانياً، قمة بغداد:

رحّب ماكرون بالمواقف التي اتخذها رئيس الوزراء العراقي لجهة الحد بعض الشيء من النفوذ الإيراني في العراق واتخاذ مواقف عراقية مستقلة، فوجد في ذلك فرصة لتشجيعه على المضي في هذا الطريق، وشاءَ تعزيز سير العراق نحو مزيد من الإستقلالية في سياساته الإقليمية. وتحقيقاً لذلك، تشاركَ ماكرون مع رئيس الوزراء العراقي في تنظيم قمة عقدت في بغداد أواخر آب المنصرم حضرها، الى جانب العراق وفرنسا، كلّ من مصر والأردن والسعودية والإمارات وقطر وإيران وتركيا والبحرين.

ومع انّ مقررات مهمة لم تصدر عن هذه القمة، إلا أن مجرد عقدها في بغداد وحضور هذه الوفود جنبا الى جنب كان له أهمية كبرى، كما أن تحالفا سياسيا بين مصر والأردن والعراق بدأت تظهر ملامحه، بالإضافة الى بروز دور ديبلوماسي مستقل للعراق وتعزيز علاقاته مع دول الخليج العربي من دون حصول خصومة أو ابتعاد كبير عن إيران، ما سيُمكّن العراق من متابعة مساعيه لتخفيف الخلاف بين المملكة السعودية والجمهورية الإسلامية.

هنا، نجح ماكرون في تأمين موطئ قدم لفرنسا في الشرق الأوسط ما سيعطيه أهمية أكبر داخل الإتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، علماً أن العلاقة المتجددة بين فرنسا والعراق، الذي أصبح له دور ديبلوماسي متزايد في المنطقة على حساب سوريا وإيران، سيعزز مكانة فرنسا عالميا، وسيساعدها على ملء الفراغ الذي سيتركه الإنسحاب الأميركي التدريجي من العراق ومن المنطقة إجمالا، بالإضافة الى ما سيوفره من علاقات اقتصادية وتجارية ملموسة.

ـ ثالثاً، الأزمة بين فرنسا والولايات المتحدة:

للمرة الأولى في خلال 250 سنة من العلاقات الثنائية بين هذين البلدين تستدعي فرنسا سفيرها من واشنطن تعبيرا عن استيائها الشديد تجاه الإدارة الأميركية والرئيس جو بايدن بالذات. سبب هذا الإستياء هو الإتفاق الأمني الذي عقد منتصف أيلول الحالي بين الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا لمواجهة الصين في منطقة الهند الصينية في المحيط الهادئ، وذلك من دون استشارة فرنسا ولا حتى إطلاعها على الموضوع لا من قريب ولا من بعيد، وما رافقه من إلغاء لصفقة الغواصات.

كانت استراليا قد وقعت عقدا عام 2016 مع فرنسا لشراء 12 غواصة مسيرة على المازوت، ولكن في منتصف شهر أيلول الجاري، قررت إلغاء العقد بصورة فجائية ووقعت مع الولايات المتحدة عقدا لشراء 8 غواصات أميركية مسيرة نووياً. ردّة الفعل الفرنسية على هذا التصرف المفاجئ تميزت بالغضب الشديد، وقد وصفت فرنسا الإتفاقية الثلاثية بأنها طعنة في الظهر، وأن هذا التصرف ينبغي أن لا يحصل بين الحلفاء، خصوصاً أن فرنسا لها مصالح واهتمامات تاريخية في هذه المنطقة، وبادرت الى سحب سفيرها من واشنطن وكانبيرا، غير آبهة بسحب سفيرها من لندن كونها لا تعير أهمية كبرى لبريطانا منذ انسحابها من الإتحاد الأوروبي حيث أصبحت فرنسا تعتبر بريطانيا دولة تابعة وخاضعة للإرادة الأميركية ليس إلّا.

الغضب الفرنسي كان كبيرا بالنسبة الى خسارة عقد بناء الغواصات لأستراليا (66 مليار دولار) مع ما في ذلك من خسارة للصناعة الفرنسية، ولكن الغضب كان أشد بالنسبة الى توقيع الإتفاق الثلاثي في منطقة كانت فرنسا تعتبر أن لها فيها نفوذا تاريخيا. وخشيةً من تفاقم الخلاف مع فرنسا عشية انعقاد الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وخشية أيضاً من حصول تقارب صيني فرنسي على أثر هذا الوضع المستجد، حاولت الولايات المتحدة من دون تأخير معالجة الموضوع، أولاً على مستوى وزير الخارجية أنطوني بلينكن الذي عاش فترة شبابه في فرنسا ويتقن اللغة الفرنسية، ثم كان اتصال بايدن بماكرون حيث حاول إيجاد المبررات لهذا التصرف مع شبه اعتذار أنهى الخلاف ووعد الرئيس الفرنسي بإعادة سفير بلاده الى واشنطن قريباً.

ومع أن ماكرون لم يكن المبادر في هذه التطورات، إلا أنّ وقوفه القوي مقابل الولايات المتحدة ودفاعه الشديد عن المصالح الفرنسية، عزّزا موقعه وموقع بلاده عالميا وفي الإتحاد الأوروبي خصوصاً، وذلك على رغم الخسارة المادية نتيجة لإلغاء صفقة الغواصات، ويعتبر ذلك نجاحاً للديبلوماسية الفرنسية التي أجبرت الولايات المتحدة على تقديم شبه اعتذار على أعلى مستويات إدارتها.

ـ رابعاً، الأزمة اللبنانية:

معروف أن ماكرون يكنّ شعورا خاصا للبنان انطلاقا من العلاقات التاريخية الخاصة القائمة بين البلدين، وهو لم يتأخر في تقديم الدعم والمساعدة للبنان منذ توليه الرئاسة حيث سارعَ الى عقد مؤتمر «سيدر» في باريس عام 2018 لتخصيص لبنان بمساعدات بقيمة 11 مليار دولار. لكن تفجير مرفأ بيروت في 4 آب من العام الماضي أظهر فعلياً مدى اهتمام ماكرون بلبنان، إذ إنه حضر شخصيا الى بيروت بعد يومين من وقوع الكارثة، وأعرب عن تعاطفه القوي مع الشعب اللبناني وعرض مساعدة فرنسا في تلك الظروف الصعبة.

عاد ماكرون بعد ذلك بفترة قصيرة الى لبنان واجتمع مع القيادات السياسية كلها في مقر السفارة الفرنسية في بيروت، وحضّها على الإسراع في تأليف حكومة جديدة تحل مكان الحكومة التي استقالت بعد التفجير، واعداً بتقديم مساعدات مهمة للبنان في حال تشكلت حكومة من الاختصاصيين تجري بالإصلاحات الضرورية لمكافحة الفساد الذي أوصل لبنان الى مصاف الدول الفاشلة.

وكما هو معروف، لم يتم التجاوب لبنانياً مع الوعود التي قطعها المسؤولون الحزبيون لماكرون الذي أوفدَ لاحقاً وزير خارجيته مرتين الى لبنان لحض المسؤولين على تأليف حكومة تستطيع القيام بالإصلاحات المطلوبة ليس فقط من فرنسا، بل من المجتمع الدولي بأسره، بما في ذلك المؤسسات المالية الدولية، ولا يمكن أن ننسى صرخة وزير الخارجية الفرسي جان إيف لو دريان أمام مجلس الشيوخ الفرنسي قبَيل زيارته الى بيروت موجّهاً كلامه الى القادة اللبنانيين قائلا لهم: «بربّكم، ساعدوا أنفسكم حتى نتمكن من مساعدتكم».

بعد فراغ دام 13 شهرا، تم تأليف حكومة، فسارع ماكرون الى دعوة رئيسها نجيب ميقاتي لزيارة فرنسا حيث استقبله في قصر الإليزيه ووعده بتقديم المساعدة اللازمة مؤكداً في الوقت عينه ضرورة الإسراع في إجراء الإصلاحات المطلوبة والضرورية لتمكين المجتمع الدولي من مساعدة لبنان على الخروج من أزمته المستعصية. ويبدو، بحسب الأنباء، أن ميقاتي وعد بالقيام بذلك.

ومع أن تأليف الحكومة تأخر كثيرا على رغم ممارسة فرنسا شتى الضغوط، إلا أن ماكرون تمكن في النهاية من إظهار الدور الفرنسي في لبنان عموما، وقد تبلور ذلك في قيام رئيس الوزراء اللبناني بزيارته الخارجية الأولى بعد تشكيل الحكومة الى باريس بعد نيل حكومته الثقة بأيام قليلة، في حين كان الرؤساء السابقون للحكومة اللبنانية يباشرون لقاءاتهم الخارجية بزيارة دمشق أو الرياض. وفي زيارة ميقاتي لباريس بهذه السرعة ما يدلّ على الدور الفرنسي المهم والمتزايد في المنطقة، بالإضافة إلى مواقف ماكرون من تركيا والولايات المتحدة الأميركية، وما قام به في العراق، ولا شك في أنه سيسعى الى إظهار هذه التحركات الفرنسية في شتى المناسبات، بما فيها طبعاً في الإنتخابات الرئاسية المقبلة التي ستجري في شهر نيسان 2022.