IMLebanon

تسويات في الكواليس؟

كتب جوني منير في “الجمهورية”: 

كان يمكن وَضع البيان الصادر عن مجلس الامن الدولي حول لبنان في إطار المواقف الكلاسيكية والروتينية، لولا تلك الحركة الناشطة والمريبة في الكواليس بين القوى الاساسية لتركيز الترتيبات المطلوبة والتي تؤسس الى إعادة تنظيم خريطة النفوذ على رقعة الشرق الاوسط بما فيها الساحة اللبنانية.

في بيان مجلس الامن، وعلى رغم صياغته بالعبارات الكلاسيكية المعروفة، ثمّة مفارقات لا يمكن تجاهلها، فرغم النزاع الاميركي ـ الفرنسي، اضافة الى الفوضى الحاصلة بسبب تَشابك المصالح بين القوى الاساسية في الشرق الاوسط، الّا انّ البيان صدر بموافقة الجميع، بمن فيهم الصين وروسيا اضافة الى الآخرين، وهو الذي تضمّن اعادة التذكير بـ4 قرارات سابقة تتعلق بالوضع في لبنان، وهي: 1559 (عام 2004)، 1680 (عام 2006)، 1701 (عام 2006)، و2591 (عام 2021). ولا حاجة لإعادة التذكير ببنود بعض هذه القرارات، خصوصاً تلك المتعلقة بالوضع في جنوب لبنان، والذي يجري تحضيره لمرحلة ترسيم الحدود البحرية وايضاً البرية.

خلفَ تلك العبارات التقليدية التي وردت في البيان، ثمّة تسرّب لرائحة مفاوضات وتسويات يجري الاعداد لها بسرية مطلقة في الكواليس الديبلوماسية. ففي المنطقة حركة ناشطة لا يمكن وضعها في الاطار العادي او في اطار المصادفة.

– واشنطن تواصلت مع بكين لخفض مشترياتها النفطية من طهران.

– عودة الرحلات الجوية بين الاردن وسوريا.

– قمة بين الرئيس الروسي بوتين ونظيره التركي اردوغان في سوتشي حول «معضلة» ادلب وتَوَزّع النفوذ في شمال سوريا.

– حركة إسرائيلية ناشطة لرئيس الحكومة نفتالي بينيت في اتجاه واشنطن وموسكو، ومحورها ايران ونفوذها في سوريا ولبنان.

– زيارة مستشار الامن القومي الاميركي جيك سوليفان للسعودية لتحقيق وقف اطلاق النار في اليمن.

– تقدم واضح في العلاقات السعودية ـ الايرانية.

– إعلان الرئيس الفرنسي أنه سيبحث مع ولي عهد السعودية الوضع في لبنان.

على وَقع هذه الحركة الناشطة يجب قراءة المستجدات اللبنانية. فمنذ الاعلان عن بواخر المازوت الايرانية في اتجاه لبنان واستِتباع ذلك بالتوجّه لِمَده بالمازوت من مصر والكهرباء من الاردن، تسجل حركة التطورات في لبنان تراجعاً في مستوى المواجهة، وبالطبع هذا التراجع لا يأتي من العدم. هذا ما علّمنا إيّاه تاريخنا الحافل بالمقايضات والتسويات.

وبدل ان تشكّل بواخر المازوت الايراني فصلاً جديداً من فصول المواجهة الاميركية ـ الايرانية، كما توقّع كثيرون فور الاعلان عن ذلك، بدأ العد العكسي لتنفيس الاحتقان. البواخر ذهبت الى الشاطئ السوري لا اللبناني، وغاب الاعتراض الاميركي ليحل مكانه صمت مُعبّر. لا بل ان وزارة الخارجية، وفي تعليقها الوحيد، أبدَت موافقة ضمنية ولو لمرحلة مؤقتة وليس كحلّ دائم. وفي موازاة ذلك كانت السفيرة الاميركية في لبنان تعطي موافقة شفهية للثلاثي الوزاري الذي زار دمشق، وأقرّت ضمناً بخرق «قانون قيصر». وللتذكير ايضاً انه في هذه الاجواء ولدت الحكومة بموقفٍ إيراني مُعلَن وشبه رسمي خلال اتصال بين الرئيسين الايراني والفرنسي، في موازاة ضغط داخلي تولّاه «حزب الله».

تلك المؤشرات الايجابية لا بد أنها جاءت كتعبير ملموس عن تفاهمات يجري ترتيبها في الكواليس.

ثمة اشارة لبنانية اكبر واوضح لم يحسن البعض التقاطها، ففي خروج عن الاسلوب الذي اتبعه «حزب الله» جاءت رسالة التحذير التي أوصلها الى المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت طارق البيطار. وفي شيء من التدقيق، فإنّ مسؤول الارتباط في «حزب الله» وفيق صفا صاحب الخبرة الطويلة في موقعه لم يَعتد الوقوع في اخطاء من هذا النوع تحت وقع الانفعال، كما حاول البعض تفسير ما جرى. هو تحدث الى إعلامية لا تدين له بالولاء السياسي، ما يعني حتمية انتشار الخبر عبر وسائل الاعلام والاهم ان «حزب الله» تَعمّد الابقاء على الغموض حيال موقفه، اي انه لم يبادر الى نفي الخبر او توضيحه على الاقل، ما يعني انّ خطوته مدروسة وهو تعمّدَ إظهار رسالته.

في المقابل فإنّ الجانب الاميركي الذي رفع دائماً لواء «نصرة» القضاء وحمايته من التدخلات الخارجية الى درجة وصلَ به الأمر الى اصدار السفارة الاميركية بياناً رسمياً إثر احداث قبرشمون عام 2019، لم تصدر عنه مواقف قوية ضد «رسالة التحذير»، خصوصاً انّ صاحب هذه الرسالة هو «حزب الله» «الخصم» التقليدي للاميركيين.

حتى الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، والذي يتصرف على انه «الراعي» الدولي المباشر للبنان، فهو تصرّف وكأنّ شيئاً لم يحصل. وبالتالي، فإنّ هذه الحادثة مليئة بالدلالات، وعلينا أن لا ننسى ايضاً ان وزير الاشغال في حكومة ميقاتي، الذي سمّاه «حزب الله»، هو في المناسبة يحمل الجنسية الفرنسية والأهم أنه يحظى بالرضى الفرنسي. فوزارة الاشغال هي وزارة مهمة جداً للفرنسيين الطامحين لتولي مشروع اعادة اعمار مرفأ بيروت.

ووفق ما تقدّم، فإنه من البديهي الاستنتاج انّ الهدوء الذي يسود سطح البحر يعكس وجود حركة ودية تجري في العمق وتطاول «ورشة» اعادة إنتاج توازنات اقليمية جديدة. لكن هنالك من يتسرّع في استعادة ماضي «التلزيم»، ويعمل على اسقاطه على الواقع الحالي.

من حق اللبناني ان يتوجّس من حركة التفاهمات والتسويات الحاصلة، فهو دفع الاثمان اكثر من مرة، لكنّ المسألة اليوم مختلفة بما يعني مصالح الكبار.

منَ السخافة الحديث عن اعادة تلزيم لبنان لسوريا التي تعيش اصلاً وضعاً داخلياً اصعب من الوضع اللبناني، فلا يختلف اثنان على أنّ سوريا اليوم لا علاقة لها بسوريا الامس. فهي كما لبنان تنتظر تفاهمات الكبار وطريقة تقاسم النفوذ، واساساً إنّ مصلحة «حزب الله» الحيوية تتعارض مع تلزيم سوريا. ومن التبسيط الاعتقاد بإمكانية تلزيم لبنان بكامله الى ايران. فالمسافة الجغرافية بعيدة، والمتضررون من توسع النفوذ الايراني كثر. أما نفوذ «حزب الله» فمسألة اخرى، لأنّ التوازنات الطائفية والمذهبية اللبنانية تشكل حاجزاً يمنع بسط نفوذه المطلق والكامل على الساحة اللبنانية.

لا جدال في أنه الفريق الاقوى وأنه قادر على التأثير في طريقة إبحار المركب اللبناني، لكن هذه القدرة محدودة بالتوازنات الطائفية، والتي كان يمكن تطويعها في حال الذهاب الى تعديل النظام اللبناني من خلال المؤتمر التأسيسي. لذلك، كان الرفض الداخلي والخارجي لأيّ تعديل بنيوي في النظام اللبناني، ولو أنّ ذلك لن يمنع إقرار تحسينات انطلاقاً من «دستور الطائف» الحالي ولناحية وضع بعض بنوده موضع التطبيق، مثل بند اللامركزية، او ادخال تعديلات لتطوير عمل مجلس الوزراء. لكن هذه الورشة من المفترض ان تحصل بعد الانتخابات النيابية وتواكب انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

قبل ذلك، هنالك انتخابات نيابية ستجري، والأرجح انّ ضمانات أُعطيت او ستُعطى للحزب كتعويضٍ عن خسارته الغالبية النيابية بسبب الوضع الشعبي الصعب لحليفه الأبرز، اي «التيار الوطني الحر».

في الكتاب الاخير لمسؤول الامن القومي الاميركي السابق جون بولتون، يروي المسؤول الاميركي عن لقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حزيران 2019، ولقد نقل بولتون ما كاشَفه به بوتين حول رؤية موسكو للوضع السوري ولنظرتها الى إيران، وهنا بيت القصيد.

يقول انّ بوتين اشار في ذلك الاجتماع الى رغبته رؤية القوات الايرانية تنسحب من سوريا متسائلاً: من سيُنجز ذلك؟

وقال بوتين انه يجدر بي (بولتون) إخبار ترامب مباشرة أنّ الروس لا يحتاجون الى وجود الايرانيين في سوريا، وأن ما من مصلحة لروسيا في وجودهم هناك. فإيران تتبع أجندتها الخاصة نظراً الى اهدافها في لبنان ومع الشيعة، والتي لا علاقة لها بتاتاً بالاهداف الروسية، وتسبّب المشكلات لهم وللرئيس السوري بشار الاسد. فهدف روسيا هو تعزيز الدولة السورية لمنع وقوع الفوضى كما حصل في افغانستان، بينما تمتلك ايران أهدافاً أبعَد.

وتابع بوتين، كما نقل عنه بولتون: «لكن في حال انسحبَ الايرانيون مَن سيحمي القوات السورية مِن عدوان واسع النطاق من المعارضة السورية وداعميها الغربيين؟». وأضاف بولتون: لا يبدو لبوتين اي نية في استبدال القوات الايرانية بالقوات الروسية في النزاع السوري.

ووفق ما نقله بولتون عن روسيا، يبدو واضحاً ان الاستراتيجية الروسية تريد في نهاية الامر إضعاف النفوذ الايراني في سوريا لا العمل على تعزيزه من خلال سوريا او لبنان، حيث ستصبح روسيا عندها مطوّقة في سوريا غرباً وشرقاً.