IMLebanon

بماذا يختلف الدور السعودي عن الإيراني؟

كتب شارل جبور في “الجمهورية”:

لا يمكن الركون إلى المجتمع الدولي من أجل إرساء توازن في المشهد اللبناني، فالمجتمع الدولي انتهى وسلّم أسلحته منذ زمن بعيد. والأمل الوحيد أو الفرصة الوحيدة لإرساء هذا التوازن تتحقّق من خلال الباب الإقليمي، وتحديداً السعودي، والمهمة ملقاة بالدرجة الأولى على أهل السنّة في لبنان، لماذا؟

إنّ التوازن الخارجي في المشهد اللبناني يشكل المدخل الوحيد لاستعادة السيادة وقيام الدولة، ومن دون هذا التوازن لا أمل بدولة ولا سيادة، والوضع القائم اليوم سيئ للغاية كون طهران تسرح وتمرح من دون رادع، خصوصا انها تدرك حدود التدخل الدولي الذي اختبرته في سوريا ولبنان وغيرهما من الدول، والتحدي الأساس أمامها كان في المرحلة التي وضعت فيها السعودية ثقلها في المواجهة في لبنان، اي بين عامي 2005 و2009، وهي لا تخشى اليوم سوى من الرياض بعدما كانت تخشى بالأمس من عراق صدام حسين.

فالدور الذي يؤدّيه المجتمع الدولي يتراوح بين الدعم المعنوي ووضع لبنان على أجندة حركته واتصالاته، وبين المساعدات التي يوفرها للدولة وبعض مؤسساتها، ولكنه لا يهتم للجانب الصراعي مع دولة تضع لبنان تحت هيمنتها، إنما يربط هذا الصراع بالصراع الأكبر الذي يعمل على مقاربته من الباب النووي من دون ان يكون هناك أي أفق زمني، ولا ضمانات بأن الحلّ النووي سيؤدي إلى حلّ الدور الإيراني في الإقليم.

والدور الأكبر الذي أخّر تمدُّد الثورة الإيرانية تولّاه الرئيس صدام حسين الذي فتح إسقاطه المنطقة أمام النفوذ الإيراني، وفي ظل إعادة ترتيب مصر بيتها الداخلي واهتمامها بشؤون الجوار فقط ظلّت خارج معادلة الصراع مع إيران، فيما تحولّت السعودية في العقود الأخيرة إلى وجدان السنة الديني والسياسي، والدولة الوحيدة التي تقيم لها طهران الحساب، وفي زيارة وزير الخارجية الإيراني الأخيرة إلى لبنان تَقصّدَ، مثلاً، ان يتحدّث عن حوار سعودي-إيراني بغية توجيه ثلاث رسائل أساسية:

الرسالة الأولى إلى الرياض من بيروت، ومفادها ان طهران تقرّ وتعترف بأن لبنان مساحة نفوذ مشتركة معها، ولا نية لديها لتغيير ميزان القوى القائم، بل تتعامل معه على ما هو عليه، ولا يجب ان تستفزها هذه الزيارة، وأنها تحرص على مواصلة التبريد معها.

الرسالة الثانية إلى واشنطن، بأنّ موازين القوى في المنطقة وحدود أدوار اللاعبين هي مسائل تتعلق بأهل المنطقة الذين لديهم القدرة على معالجتها والتفاهم حولها، وان لا علاقة لها بالدخول على خط العلاقة السعودية-الإيرانية.

الرسالة الثالثة إلى السنة في بيروت، من أجل ترييحهم بأن طهران حريصة على التفاهم مع الرياض، كما ترييح رئيس الحكومة نجيب ميقاتي من اي ردّ فعل سني ضده على خلفية زيارة الوزير الإيراني له.

وتدرك طهران ان العاصمة الوحيدة القادرة على إرباكها في لبنان وهزّ العصا في وجهها هي الرياض، ولذلك، لا تريد استفزازها، إنما مواصلة مشروعها من دون ان تحيي الصراع القديم والثابت معها، ولا حاجة للمقارنة بين الدورين الإيراني والسعودي في لبنان، حيث تدعم الأولى مشروعاً انقلابياً على الدولة والدستور ووجه لبنان التاريخي، فيما تدعم الثانية الدولة والدستور والحفاظ على دور لبنان التاريخي. وبالتالي، إنّ نفوذاً عن نفوذ يختلف، وتدخلاً عن تدخل يختلف. فالتدخُّل السعودي حاجة لترسيخ الاستقرار وإعادة الاعتبار لمشروع الدولة، وعدم تدخلها يؤدي إلى ترييح المشروع الآخر الذي يريد إبقاء لبنان ساحة مستباحة لنفوذه وتدخلاته ورسائله.

والانسحاب السعودي من لبنان مفهوم ومبرر لأنه كيف يعقل لدولة ان تدعم دولة أخرى من دون حدود وسقف وان تبقى هذه الدولة منصة لاستهدافها؟ ومعلوم انه لولا الدعم السعودي لكان انهار لبنان منذ عقد من الزمن، ومعلوم أيضا ان هذا الدعم يستفيد منه كل الشعب اللبناني، وعلى رغم ذلك لم يبدِّل «حزب الله» في سياسته الاستهدافية للمملكة في أكثر من جانب، فيما المواجهة الداخلية معه لم تكن على قدر التوقعات لمجموعة عوامل وأسباب لا مصلحة في تعدادها وتشريحها اليوم.

وفي خضم كل ذلك يجب الإقرار والتسليم بثلاثة معطيات أساسية:

المعطى الأول ان لبنان غير قادر على استعادة سيادته واستقلاله من دون مؤازرة إقليمية وسعودية تحديدا، لأن التوازن في النفوذ السعودي-الإيراني يشكل الضمانة الوحيدة لمستقبل الوضع اللبناني، حيث ان الرياض هي الوحيدة القادرة على الحدّ من النفوذ الإيراني والدفع باتجاه تسوية تعيد الاعتبار لمشروع الدولة.

المعطى الثاني ان الرهان على المفاوضات الأميركية واستطرادا الدولية مع إيران حول ملفها النووي وما يمكن ان يستتبعه من التفاهم على دورها الإقليمي هو وهم، لأن لبنان ليس موجودا على الأجندة الدولية التي كل همها ان يبقى الوضع اللبناني مستقراً، أكان ذلك بتفاهم داخلي او بوصاية خارجية، لأنّ الأمر سيّان بالنسبة إلى الغرب.

المعطى الثالث انه من دون عودة سعودية قوية على المسرح اللبناني يعني المزيد من التمدُّد الإيراني.

فلكل هذه الأسباب والمعطيات وغيرها لا ضمانة للبنانيين في مواجهة النفوذ الإيراني الذي يطيح الدولة والسيادة سوى بإعادة التفاهم مع الرياض على تفعيل دورها في لبنان سياسيا، ومصارحتها بثلاث حقائق أساسية:

الحقيقة الأولى ان الرياض قائدة العالمين الإسلامي والعربي ولبنان جزء من هذا العالم العربي، ومن دون دورها يتحول إلى مقاطعة إيرانية. وبالتالي، إنّ المصلحة في مواجهة التمدُّد الإيراني بقدر ما هي لبنانية هي سعودية أيضا.

الحقيقة الثانية ان سقوط اي دولة عربية في المحور الإيراني هو خسارة كبرى للمحور العربي، وبالتالي كل الدول العربية معنية بترسيم حدود النفوذ الإيراني، وخسارة لبنان لا تُثَمّن انطلاقاً من دوره التاريخي ولحاجة طهران الى حدوده مع إسرائيل من أجل الدخول على خط الصراع العربي-الإسرائيلي، وبالتالي يجب استرداد لبنان من إيران

الحقيقة الثالثة انه من دون الرياض سيبقى لبنان صندوق بريد للرسائل الإيرانية وورقة تستخدمه بالاتجاه الذي يناسبها

وعلى رغم العلاقة الاستراتيجية التي تربط السعودية بـ»القوات اللبنانية» بسبب مبدئيتها، وصلابتها، وأولويتها اللبنانية، وإيمانها بعمق لبنان العربي. وعلى رغم هذه العلاقة التي تزاوج بين الثقة والاحترام، وعلى رغم ان أولوية الرياض تثبيت كيانات الدول العربية ودعم استقرارها ودورها عربي بامتياز وتختلف عن طهران في العمق والجوهر في ظل سَعي الأخيرة إلى نشر ثورتها الدينية، وعلى رغم ان السعودية تدعم سيادة لبنان وتعدديته ودولته والشراكة المسيحية-الإسلامية ولا تعمل على إلحاق لبنان بها على غرار ما تقوم به طهران. وبالتالي، على رغم كل ذلك، فإن دور الطائفة السنية في لبنان أساسي من أجل إعادة الوصل مع الرياض، وليس خافيا ان هذه العلاقة ليست جيدة حاليا، واستمرارها على هذا المنوال يعني استمرارا لعدم التوازن على المسرح اللبناني، ومن هنا على أهل السنة مسؤولية لبنانية وعربية بغية إعادة العلاقة إلى طبيعتها مع السعودية، والمسؤولية بتردي العلاقة تقع على أهل السنة في لبنان بسبب إدارتهم للملف اللبناني

وانطلاقا مما تقدّم، على أهل السنة في لبنان ان يبادروا الى حوار صريح مع المملكة، وان يضعوا في رأس أولوياتهم ترميم جسور الثقة مع الدول التي تشكل الضمانة لسيادة لبنان واستقراره وحياده، حيث أثبتت الأحداث 3 ثوابت أساسية:

الثابتة الأولى انه مع انهيار العلاقة السنية اللبنانية مع السعودية انهار التوازن مع المشروع الإيراني.

الثابتة الثانية انه مع تراجع الدور السعودي في لبنان تقدّم الدور الإيراني.

الثابتة الثالثة ان الرياض هي الضامنة للشراكة المسيحية-الإسلامية وتثبيت النموذج اللبناني، ومن دونها الشطط وارد ومحتمل، وبالتالي بقدر ما هي ضمانة للسيادة اللبنانية، فإن دورها يشكل ضمانة لشراكة حقيقية.

فلا أمل لمستقبل الوضع في لبنان من دون عودة الحرارة إلى علاقة أهل السنة مع الرياض تمهيدا لإحياء إطار جبهوي مدعوم سعودياً لفرض التسوية التي تعيد الاعتبار للدولة، ومن دون الدعم السعودي يعني استمرار لبنان ساحة لإيران، اي من دون الرياض ستبقى بيروت خاضعة لطهران. فهل يتحقّق هذا الأمر قبل الانتخابات النيابية أم بعدها؟