IMLebanon

مؤتمر مدريد للسلام بعد ثلاثين عاماً

كتب مسعود المعلوف في “الجمهورية”:

في الثلاثين من شهر تشرين الأول عام 1991، عُقد مؤتمر السلام في الشرق الأوسط في العاصمة الإسبانية، فعُرف بمؤتمر مدريد، وقد تمّ برعاية أميركية – روسية وبحضور رئيس الولايات المتحدة جورج بوش (الأب) والرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، ورئيس وزراء اسرائيل اسحق شامير، ووفود من سوريا ومصر ولبنان ووفد مشترك أردني- فلسطيني، إذ لم تقبل إسرائيل أن يكون الوفد الفلسطيني وفداً مستقلاً، لأنّها لم تكن تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية وتعتبرها منظمة إرهابية، بل وافقت على أن يكون من ضمن الوفد الأردني ومن خارج منظمة التحرير.

شكّل مؤتمر مدريد في حينه اختراقاً واضحاً في العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، إذ كانت المرة الأولى التي تجلس فيها وفود من الجانبين في قاعة واحدة وحول طاولة واحدة وأمام العالم بأجمعه، للبحث في السلام بين العرب وإسرائيل، بعد حروب حصدت آلاف القتلى والجرحى وبعد استيلاء اسرائيل بقوة السلاح على مزيد من الأراضي العربية وتشريد مئات الآلاف من المواطنين الفلسطينيين والعرب.

عُقد مؤتمر مدريد عقب حرب الخليج الأولى في مطلع العام 1991، حيث تمكن التحالف العسكري الدولي بقيادة الولايات المتحدة من إخراج العراق من الكويت بعد احتلال صدام حسين لهذه الدولة في العام السابق. وقد شعر الرئيس جورج بوش الأب، بعد الإنتصار الذي حققه في العراق، بضرورة توجيه الجهد والإهتمام، للسعي الى حلّ القضية الفلسطينية، فبدأ وزير خارجيته جايمس بايكر رحلاته المكوكية الثماني الى المنطقة، لإقناع الدول العربية المعنية مباشرة بالقضية الفلسطينية وإسرائيل بالموافقة على المشاركة في مؤتمر للسلام.

صعوبات كثيرة واجهت الوزير بايكر في مساعيه لعقد المؤتمر، سواء من الجانب العربي أو الإسرائيلي الذي كان يرفض رفضاً قاطعاً الجلوس مع ممثلين لمنظمة التحرير الفلسطينية، كما كان العرب يتردّدون كثيراً في قبول التفاوض المباشر مع الإسرائيليين، وكل فريق يبدي مخاوفه ويضع شروطه، إلّا أنّ الإدارة الأميركية ضغطت على رئيس وزراء إسرائيل إسحق شامير لقبول مبدأ الأرض مقابل السلام الذي كان يرفضه رفضاً قاطعاً، وقبلت بشرط شامير أن لا يكون في المؤتمر وفد فلسطيني مستقل، وقدّمت للأفرقاء العرب كتب تطمين جعلتهم يقبلون بالجلوس مع الإسرائيليين للمرة الأولى، وبذلك تمّ عقد المؤتمر في الثلاثين من تشرين الأول.

إجتماعات مدريد لم تكن اجتماعات تفاوضية بما للكلمة من معنى، بل شكّلت منبراً ألقى من خلاله رئيس كل وفد خطاباً، شرح فيه وجهة نظر بلاده، متحدثاً بصورة خاصة الى جمهوره في الداخل، ومتمسكاً بمواقف دولته، وذلك استعداداً للمفاوضات الفعلية التي تَقرّر أن تُعقد بمسارات ثنائية في واشنطن بين كل وفد عربي والوفد الإسرائيلي، بعد أيام قليلة من اجتماعات مدريد.

فمؤتمر مدريد، الذي كان المناسبة الأولى التي جلس فيها العرب والإسرائيليون وجهاً لوجه بصورة علنية، لحقه مباشرة جلسات تفاوض جدّية في واشنطن، كانت امتداداً لهذا المؤتمر، حيث كان تبادل فيها كل وفد عربي وجهات النظر مع الوفد الإسرائيلي في مبنى وزارة الخارجية الأميركية. وقد ترأس وفد لبنان الى هذه المفاوضات السفير سهيل شماس، بينما ترأس الوفد السوري الدكتور موفق العلاف. كما أظهر الفلسطينيون قدرة على التوجّه الى الرأي العام الأميركي والدولي عبر إطلالات الناطقة بإسم الوفد الفلسطيني المنضمّ الى الوفد الأردني حنان عشراوي. وبموازاة هذه المسارات الثنائية تقرّر عقد لقاءات متعددة الأطراف بحسب المواضيع، بما فيها المياه والبيئة واللاجئون وغير ذلك، كانت تُعقد في عواصم خارج واشنطن مثل موسكو وأوتاوا وغيرهما.

قبل تقييم الوضع العام للقضية الفلسطينية بعد ثلاثين عاماً لانطلاق مؤتمر مدريد، لا بدّ من إلقاء الضوء على بعض النتائج المباشرة الناجمة عن هذا المؤتمر:

أولاً، بمجرد قبول إسحق شامير المشاركة في مؤتمر مدريد وجلوسه مع الفلسطينيين، انسحبت من حكومته أحزاب اليمين المتطرف، ما أدّى الى سقوط الحكومة والإضطرار الى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة، سقط بنتيجتها شامير وأصبح اسحق رابين رئيساً للحكومة الإسرائيلية بعد أشهر قليلة على انطلاق المؤتمر.

ثانياً، في الوقت الذي كانت فيه الوفود العربية، بما فيها الوفد الفلسطيني تتفاوض ثنائياً مع الوفد الإسرائيلي كل في المسار الخاص به، كان واضحاً للجانب الإسرائيلي انّ الفلسطينيين في مدريد وفي واشنطن يتشاورون باستمرار مع عرفات ومنظمة التحرير، التي كان آنذاك مقرّها في تونس، ففتح الإسرائيليون خطاً سرياً مباشراً مع المنظمة عبر مفاوضات كانت تجري في العاصمة النروجية أوسلو. هذه المفاوضات السرية الفلسطينية – الإسرائيلية في أوسلو كانت تجري بموازاة المفاوضات العلنية في واشنطن، ولم تكن الوفود العربية على علم بحصولها.

ثالثاً، كانت مفاجأة الوفود العربية في واشنطن كبيرة جداً عندما أعلن الوفدان الإسرائيلي والفلسطيني في أوسلو التوصل إلى «إعلان المبادئ» الذي نص على التزام منظمة التحرير الفلسطينية بحق دولة اسرائيل في العيش بسلام وأمن، وإدانة المنظمة لاستخدام العنف والإرهاب، والتزامها بتعديل الميثاق الوطني في هذا الإتجاه، ونص أيضاً إعلان المبادئ على إقامة سلطة حكم ذاتي انتقالي للفلسطينيين عُرفت لاحقاً بالسلطة الوطنية الفلسطينية، وكذلك إقامة مجلس تشريعي للشعب الفلسطيني، أي نواة حكم ذاتي بانتظار التوصل الى حلّ دائم وفقاً لقراري الأمم المتحدة 242 و 338، وقد عُرف هذا الإعلان باتفاقية أوسلو التي تمّ توقيعها في واشنطن في 13 أيلول عام 1993.

توقيع اتفاقية أوسلو في واشنطن، التي اعتُبرت امتداداً لمؤتمر مدريد ولو أنّها تمّت خارج إطار المؤتمر وبشكل سرّي للغاية، تمّ في جو إحتفالي كبير في الحديقة الجنوبية في البيت الأبيض، حضره الرئيس الأميركي بيل كلينتون، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، ورئيس الحكومة الإسرائيلية إسحق رابين، ووزير الخارجية الروسي اندري كوزيريف، وسفراء الدول العربية والأجنبية وشخصيات سياسية أميركية ودولية، وقد وقّع الإتفاقية عن اسرائيل وزير الخارجية شمعون بيريز وعن منظمة التحرير السيد محمود عباس.

كنت في ذلك الوقت القائم بالأعمال اللبناني في واشنطن، حيث لم يكن للبنان سفير في تلك الأثناء، فدُعيت لحضور حفل التوقيع، ونظراً لحساسية الموضوع، شئت طلب موافقة الحكومة اللبنانية على المشاركة فجاءت الموافقة بسرعة، وعند دخولي مكان الإحتفال، أجلسني المسؤول عن المراسم في الصف الأمامي، حيث أذكر جيداً انّ الأول في الصف من اليمين كان الإسرائيلي يوسي بيلين والى يساره سفير الأردن ثم السفير السوري وليد المعلم، ثم أنا بصفتي ممثلاً للبنان، وعلى يساري السفراء العرب. وواضح من ذلك انّ المسؤولين عن المراسم شاؤوا وضع ممثلي الدول التي شاركت في اجتماعات مؤتمر مدريد في الصدارة.

بعد الإنتهاء من توقيع الإتفاق وإلقاء الخطب، قام رابين وبيريز وعرفات عن المنصة وتوجّهوا نحو الحضور لتحية الحاضرين وتلا التوقيع غداء في إحدى قاعات البيت الأبيض.

بعد مرور ثلاثين عاماً على توقيع هذا الإتفاق التاريخي والمفصلي الذي تلاه اتفاق آخر عُقد عام 1995 تمّ فيه تقسيم الأراضي المحتلة الى مناطق (أ) و (ب) و (ج)، ولكل من هذه المناطق وضعها الخاص وتقاسم السلطات فيها، هل تمّ تنفيذ بنوده، وهل أوصل القضية الفلسطينية الى الحل المنشود، وهل أصبح وضع الفلسطينيين أفضل مما كان عليه قبل الإتفاق؟

الجواب السريع عن هذه الأسئلة الثلاثة هو لا ثم لا ثم لا!

في الداخل الإسرائيلي، لقي الإتفاق تأييداً من قِبل الأحزاب اليسارية ولكن الأحزاب اليمينية رفضته رفضاً قاطعاً، وربما كان هذا الإتفاق السبب في مقتل رئيس الوزراء رابين على يد أحد المتطرفين اليمينيين. ومن الجانب الفلسطيني، أيّدت منظمة «فتح» الإتفاق، ولكن الفصائل السياسية الأخرى مثل «حماس» و»حركة الجهاد الإسلامي» و»الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» عارضته بقوة.

المستفيد الأكبر من اتفاقية أوسلو كانت إسرائيل، وقد قال شامير بصراحة في إطار قبوله المشاركة في مؤتمر مدريد، إنّه سيفاوض لمدة عشر سنوات تمكيناً لإسرائيل من خلق أمر واقع على الأرض، يصعب بعد ذلك الرجوع عنه. فاتفاقيات أوسلو الناجمة عن مؤتمر مدريد لم تكن اتفاق سلام أو حلاً نهائياً للقضية الفلسطينية، بل كانت القاعدة التي ينبغي أن تنطلق منها المفاوضات التي من شأنها ان توصل الفريقين الى النتيجة المرجوة، ولكن العراقيل التي وضعتها إسرائيل حالت دون التوصل الى السلام في المنطقة.

طيلة الفترة الممتدة من تاريخ مؤتمر مدريد حتى يومنا هذا، تستمر إسرائيل في قضم المزيد من الأراضي الفلسطينية وبناء المستعمرات عليها، وتعامل الفلسطينيين في الأراضي المحتلة أسوأ معاملة، لدرجة أنّ منظمة هيومن «رايتس ووتش» وعدداً من المنظمات الأميركية تعتبر أنّ إسرائيل تمارس بحق الفلسطينيين سياسة الفصل العنصري والإضطهاد، على غرار ما كان يحصل في جنوب أفريقيا.

وما زاد في تأزيم الوضع الفلسطيني والإبتعاد أكثر وأكثر عن جوهر وروح اتفاق أوسلو، هو السياسة التي اتبعها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تجاه إسرائيل. إذ اعترف لها بتملّك الضفة الغربية التي هي أرض فلسطينية بحتة وهضبة الجولان السورية، كما اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إليها، أي أنّ وضع الفلسطينيين حالياً أصبح أسوأ مما كان عليه قبل عقد مؤتمر مدريد.

الأفق لسلام حقيقي في المنطقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين يبدو مقفلاً، ولا يوجد ما يشجّع على الإعتقاد بأنّ الأمور ستتغيّر في المستقبل المنظور. ما حققه مؤتمر مدريد ومن بعده اتفاق أوسلو هو اعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية وإيجاد كيان سُمّي السلطة الوطنية الفلسطينية ولكن من دون سلطات فعلية، إذ انّها تحت قبضة إسرائيل ولا تتمتع حتى بالحكم الذاتي، وأوضاع الفلسطينيين عامة في الأراضي المحتلة وفي إسرائيل سيئة للغاية.

الآمال التي عُلّقت منذ ثلاثين سنة على مؤتمر مدريد باعتباره الخطوة الأولى نحو الحل النهائي للقضية الفلسطينية ونحو إنشاء الدولة الفلسطينية المنشودة وعاصمتها القدس الشرقية تلاشت، والإعتماد على الولايات المتحدة للضغط على إسرائيل أصبح غير ممكن أقلّه في المستقبل القريب، وعدد من الدول العربية الخليجية التي كانت تدعم الحقوق الفلسطينية وتموّل نضال الشعب الفلسطيني قد طبّعت علاقاتها مع إسرائيل. فهل سيستطيع الفلسطينيون، بتوحّدهم وبجهودهم الذاتية مع دعم نسبي من الإتحاد الأوروبي وروسيا، التوصل الى حل عادل للقضية؟