IMLebanon

لن يفلتوا من محكمة التاريخ!

كتب جورج صدقه في “الجمهورية”:

يوماً بعد يوم يلمس اللبنانيون أنهم يعيشون على «بركة الرب» كسفينة تتقاذفها الأمواج ولا قبطان فيها. أو الأصح أن هناك قبطانا سعيد بمشاهدة السفينة تتحطّم على الصخور. هكذا بات لبنان من دون سلطة حقيقية تلعب الدور المطلوب منها وهو ادارة شؤون الدولة. أصبحت غالبية الشعب اللبناني ما دون مرتبة الفقر، فقدوا أموالهم، فقدوا عملتهم الوطنية، فقدوا مقوّمات العيش الكريم، يعانون الذل والحرمان، يعيشون في الخوف من الغد أمنيا ومعيشيا ولا من يسأل عنهم أو من يسعى الى حلّ للأزمة التي تجتاح وطنهم منذ أكثر من سنتين. وكأن ليس هناك لا من حكم ولا من حكومة. وكأن المسؤولين المتمسّكين بكراسيهم لا يسمعون، لا يرون، ولا يشعرون، وكأنهم ليسوا معنيين بمعاناة الناس. هم في كراسيهم المخمليّة يتنعّمون بالجاه والمال والخيرات والأزلام، ولسان حالهم: فليعش من يستطع، ليهاجر من لا يعجبه الوضع وليمت الاخرون. وكأن الشعب ليس شعبهم، وكأنهم غير معنيين بما يجري!! بات الناس عاجزين عن تأمين متطلباتهم اليومية من غذاء ومحروقات وأدوية. الادارات مقفلة لعدم قدرة الموظفين على دفع بدل النقل. اساتذة وطلاب هم أيضا في منازلهم. أزمات متلاحقة على أنواعها، عزلة خارجية، والتعداد يطول. ولا من يسعى الى حلّ.

حيال فشل المسؤولين في المعالجة ارتفعت الاصوات المنتقدة في الداخل والخارج. قيل الكثير لهؤلاء المسؤولين، وقيل عنهم الكثير، لكن كأن شيئا لم يُقل. قال عنهم الرئيس الفرنسي فرنسوا ماكرون انهم خونة لوطنهم. قال عنهم المطران عوده انهم لصوص. وما كتب فيهم وعنهم يملأ مجلدات. لكنهم كأنهم لم يسمعوا شيئا.

بالأمس تحدّث عنهم مقرّر الأمم المتحدة الخاص المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان أوليفييه دي شوتر الذي أمضى اسبوعين في لبنان مستكشفا أوضاع بلدنا المنكوب. وفي ختام زيارته وزّع بيانا رسميا وصّف فيه المسؤولين في لبنان وقيّم أداءهم بلغة «من دون كفوف» وبتعابير صادمة لا تعرفها عادة لغة الدبلوماسية. لكن هنا أيضا هم لم يسمعوا شيئا، لم يعلّقوا حتى على ما قاله المسؤول الدولي على رغم أهمية ما قاله. كان صريحا بتوصيفه أن لبنان «وطن منكوب بالمسؤولين عنه»، تصريحه يشبه محاكمة علنية لهم.

أطلق دي شوتر حكما عليهم: «أن المسؤولين اللبنانيين يعيشون في عالم خيالي، وهذا لا يبشّر بالخير بالنسبة لمستقبل البلاد. من المذهل التقصير في المسؤولية على أعلى مستويات القيادة السياسية. صدمت بانفصال المؤسسة السياسية عن واقع الذين يعيشون في فقر على الأرض».

هو يؤكد بأن الشعب في واد والمسؤولين في واد آخر. يتهمهم صراحة بأنهم مسؤولون عن افقار البلاد: «أن ما قامت به السلطات اللبنانية من تدمير للعملة الوطنية، وإدخال البلد في مأزق سياسي، وتعميق أوجه عدم المساواة التي طال أمدها، قد أغرق لبنان في فقر مدقع (…). ان حكومته تخذل شعبها، وقد تسبّب تقاعس الحكومة عن مواجهة هذه الأزمة غير المسبوقة بحالة بؤس شديد لدى السكان (…). إن «الأزمة المصطنعة» تدمّر حياة السكان، وتحكم على الكثيرين بفقر سيتوارثه الناس جيلاً بعد جيل. وللأسف، ما من خطة موثوقة لتخفيف حدة الفقر أعلمتني بها الحكومة إلا وتعتمد على المانحين الدوليين والمنظمات غير الحكومية».

وتناول موضوع الاموال المفقودة في المالية العامة: «تضيّع الحكومة وقتاً ثميناً في التهرّب من المساءلة (…). يحتاج الناس اليوم إلى حلول موثوقة، ويساورني قلق عميق من أن الحكومة لا تأخذ محنتهم على محمل الجد (…). والسؤال المطروح هو علام أنفق القادة السياسيون الموارد؟ (…) لا تزال العلاقة المعقدة بين الطبقة السياسية والقطاع المصرفي مقلقة للغاية. وعلى الحكومة أن تكون قدوة وأن تكشف علناً عن جميع الإيرادات والحصص والمصالح المالية، وأن تخصّص الموارد لآليات المساءلة الحقيقية (…). يجب أن يلمس المجتمع الدولي جدّية الحكومة في تطبيق الشفافية والمساءلة».

غريب كيف أن هذه الاتهامات المباشرة والخطيرة التي توجّهت مباشرة الى حكّام لبنان لم تلق أي رد من جانبهم. بماذا يتلهّى المسؤولون عندنا؟ ما هي اهتماماتهم؟ ما هي أولوية نشاطهم؟ ماذا يفعل الرؤساء والوزراء والنواب منذ سنتين فيما الأزمات تتفاقم؟ لا خطة توقف الانهيار، لا مشروع، لا وقف للصفقات والهدر والسرقات، لا رؤيا لوقف الانحدار المخيف.

في القطاع العام كما في القطاع الخاص المساءلة هي أمر ضروري. واجب من يتسلّم مهاما أن يقدّم جردة عمّا قام به، اذا نجح له التكريم والتقدم. اما اذا فشل فعليه أن ينكفئ ويترك مكانه لمن هو أكفأ منه. أما أن يستمرّ في كرسيه رغم فشله فهذا يعاكس أي منطق. فكيف يستمرّ هؤلاء المسؤولون في فشلهم وكيف لا يُجرون أي جردة حساب عما أوصلوا البلاد اليه!!

نشاهد في دول العالم المتمدّن محاكمات مسؤولين لأمور بسيطة وأخطاء تافهة قياسا الى ما يرتكبه هؤلاء عندنا. حكّامنا يراهنون على صمت الشعب اللبناني وطول صبره. يراهنون على اختبائهم وراء انتمائهم الطائفي. يراهنون على قدرتهم على كمّ الأفواه وقمع التظاهرات. لكنّهم لن يستطيعوا أن يهربوا من حكم التاريخ عليهم. ما قاله دي شوتر عنهم موثّق وسيتعلّمه أولادنا في كتب التاريخ المقبلة وسيصبح لبنان نموذجا مدرسيّا في العالم كيف أن حكّاما أدّى فسادهم وانعدام كفاءتهم الى تدمير وطنهم وتجويع شعبهم. قد يهربون من محاكم لبنان لكنهم لن يفلتوا من محكمة التاريخ.