IMLebanon

من يقحم الرأس في طاحونة الروس والأميركان؟

كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:

مرَّةً جديدة، تحاول قوى السلطة أن تهرب من شروط الأميركيين إلى أحضان موسكو. لكنها على وشك الوقوع مجدداً بين «شاقوفين». فصحيح أنّ المحور الإيراني قادر على منعها من الذهاب إلى «الرعاية الأميركية». لكن الأميركيين يمتلكون من الأوراق ما يمنع لبنان من العبور إلى أي رعاية أخرى، إيرانية كانت أو روسية. فهل ينسحق لبنان في الطاحونة الأميركية – الروسية، ويدفعُ غالياً ثمن الغباء وفقدان الإرادة؟

بين 2014 و2015، عبَّر مسؤولون إيرانيون عن اقتناعهم بأنّ طهران تتحكَّم بالقرار في 4 عواصم عربية، بينها بيروت. واستراتيجياً، تعني لهم بيروت التماسّ المباشر مع الولايات المتحدة من بوابتين:

1- محاذاة «حزب الله» لإسرائيل، على حدودها الشمالية، وامتلاكه الصواريخ القادرة على استهداف العمق الإسرائيلي، أي «حيفا وما بعد بعد حيفا» كما أوضح الأمين العام لـ»الحزب» السيد حسن نصرالله.

2- محاذاة أوروبا الغربية. فصواريخ «الحزب» تبعد فقط 200 كيلومتر عن قبرص، البوابة الأوروبية في شرق المتوسط. وبذلك، تستطيع إيران فرض حضورها في مقابل حلفاء أميركا الأوروبيين، وحتى الأتراك، وتفرض نفسها لاعباً في الملفات المتوسطية الساخنة، من الغاز إلى اللاجئين.

في تلك الفترة، كانت الحرب في ذروتها في سوريا. وكان الإيرانيون و»حزب الله» يشعرون بفائض القوة إقليمياً، لأنّ لهم الفضل الأساسي في الحفاظ على نظام الرئيس بشّار الأسد.

ولكن، بعد أيلول 2015، حصل تطوُّر عسكري وسياسي مفصلي في الحرب، عندما تدخّلت روسيا مباشرةً لإنقاذ الأسد من سقوط وشيك، وساعدته على تثبيت نفوذه في مناطق عدّة، وأقامت قاعدة عسكرية ضخمة على شاطئ طرطوس.

وهذا التدخُّل لم يستثر القوى الإقليمية، أي تركيا وإسرائيل اللتين واصلتا المهمّات في سوريا، تحت غطاء روسي. وحتى الأميركيون لم يعلنوا اعتراضهم القوي عليه. واليوم، ثمة كلامٌ على خطوات محتملة سيعمد إليها الأسد بدعم روسي لإحكام السيطرة على إدلب.

عملياً، التوسُّع الروسي تمَّ على حساب إيران، وإن كان البلَدان حليفين استراتيجياً. فالنفوذ الإيراني في سوريا يتقلَّص كلما اتّسع النفوذ الروسي. وهنا تكمن الأزمة التي ربما يكون الأسد مقبلاً عليها، خصوصاً أنّ موسكو تضطلع بدور الوسيط مع الخليجيين العرب وتتولّى إعادتهم إلى سوريا.

ومن البوابة السورية، انفتحت شهية موسكو على المصالح في شرق المتوسط، بما في ذلك لبنان الذي يشهد مواجهة شرسة بين الولايات المتحدة وروسيا. وفي الموازاة، تقاتل القوى الإقليمية لحفظ مصالحها: إيران، تركيا، إسرائيل والأوروبيون.

منذ أن بدأ الرئيس ميشال عون عهده، أواخر 2016، وجد نفسه في خضم هذه المواجهة الساحقة، والضغوط التي مارستها إدارة الرئيس دونالد ترامب، والتي بلغت ذروتها بالحصار عام 2018.

عمد «حزب الله» إلى تشجيع عون وفريقه السياسي على التوجّه شرقاً، نحو روسيا، هرباً من الضغوط. وفي مطلع 2019، وقّع وزير الطاقة آنذاك سيزار أبي خليل مع شركة «روسنفت» عقداً لتطوير منشآت النفط في البداوي. وبعد شهرين، قام عون بزيارة موسكو حيث قدّم له الرئيس فلاديمير بوتين استعدادات واسعة للمساعدة.

طالب الروس بتسهيل انخراط مصارفهم في لبنان، وإرساء تعاون بين المصرفين المركزيين ووزارتي المال، وتلزيم الشركات الروسية عقوداً في مجال النفط والغاز. وضغَطوا لتنفيذ اتفاق تعاون عسكري جرى التوصل إليه قبل عامين، ويقضي بتقديم روسيا قرضاً للبنان قيمته مليار دولار، بهدف شراء أسلحة روسية.

طبعاً، هذا التواصل بين لبنان الرسمي وموسكو استثار غضب الأميركيين بشدّة، حتى أنّهم هدّدوا بوقف كل أنواع الدعم للبنان، وذكّروا بما يقدّمونه للجيش منذ سنوات طويلة. وكان رفض الأميركيين حازماً لأي اتفاقات مصرفية- مالية أو حتى على مستوى التلزيمات في مجال النفط والغاز.

في ميزان الربح والخسارة، لا مجال لمقارنة ما يكسبه لبنان من انفتاحه على الولايات المتحدة والغرب، مقابل ما يمكن تحصيله بالانفتاح شرقاً. كما لا مجال لتقدير العواقب إذا قرّر الأميركيون فرضها فعلاً على لبنان.

ويقول خبراء إنّ واشنطن لا تفرض حصاراً حقيقياً على لبنان اليوم. فالنظام المصرفي والمالي اللبناني يتفاعل عالمياً بشكل طبيعي على رغم الأزمة التي أصابته، كما أنّ المؤسسات الدولية تتواصل مع الدولة اللبنانية وتنسق الخطوات معها. وفي المقابل، ما الذي تستطيع موسكو تقديمه إلى لبنان إذا ما أغضب واشنطن؟

وفي الواقع، لا أحد في لبنان يجرؤ على استعداء الولايات المتحدة والغربيين، لأنّ الثمن لا يمكن تَحمُّله. لكن «حزب الله» يدفع السلطة اللبنانية إلى استخدام موسكو ورقةَ مناورةٍ للتخفيف من الضغوط والشروط والمطالب الأميركية. وفي الموازاة، يستغل الروس هذه الورقة لمحاولة التمدّد في العديد من المجالات، ولاسيما منها المالية والمصرفية والنفطية.

وتستعجل روسيا تنفيذ خطوات عملانية مع لبنان مع الدخول في العام الأخير من العهد وزحمة الاستحقاقات الانتخابية. وخلال لقاء وزير الخارجية عبدالله بو حبيب مع نظيره سيرغي لافروف في موسكو، كان الهاجس هو الانطلاق بتنفيذ الاتفاق المتعلق بمنشآت البداوي وتكريس دورٍ لروسيا في مستقبل لبنان في مجال النفط والغاز، قبل انتهاء ولاية عون.

ولكن، يضغط الأميركيون على لبنان بأوراق أقوى بكثير. بل هُم وحلفاؤهم العرب والأوروبيون قادرون على إنعاش لبنان أو خنقه. وفي أيديهم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وسائر المؤسسات الدولية المانحة وإمكانات تحريك مساعدات «سيدر». وطبعاً، شروط الإصلاح التي يطلبها الأميركيون من الحكومة اللبنانية تبقى ورقة ضغط دائمة.

وفوق كل ذلك، يتردَّد أنّ موفدهم عاموس هوكشتاين قد يحمل قريباً عرض المقايضة بين لبنان وإسرائيل في مجال الغاز: حقل قانا مقابل حقل كاريش. وستكون الشركات الأميركية والحليفة وحدها جاهزة للتنفيذ.

ولذلك، المناورة اللبنانية بمغازلة الروس لا تخلو من المخاطر. ولبنان قد يخسر الأميركيين ولا يربح الروس. وفي ظل منظومة تجمع فقدان الإرادة بالغباء، يصبح خطراً أن يُحشَر رأس لبنان بين حجَرَي الطاحونة الأميركي والروسي، فينسحق.